إنّ المؤسسات الأكاديمية والبحثية المدنية محمية بحسب الأعراف والقوانين الدولية، لكن الاحتلال الصهيوني الذي يستهدف البشر والحجر والشجر، لم يذعِن لأيّ قرار أو معاهدة دولية، فقد استهدف التعليم العالي، وقام بالحد من تراخيص الجامعات ومنع إنشائها. وإذا سمح بإنشائها عمد إلى فرض قيود على التخصّصات العلمية التي تطرحها الجامعة. فعلى سبيل المثال، فَتح كلية تمريض بالجامعة الإسلامية في العام الدراسي 1985/1986 (في ذاك الوقت كان قطاع غزة بأمسّ الحاجة إليها)، كان أمراً مرفوضاً تماماً ممّا اضطُرّ القائمين على الجامعة فتح قسم تمريضٍ ضمن كلية العلوم.
منظمة المجتمع العلمي العربي
لقد تمّ التضييق على الجامعات بكلّ الأشكال من خلال منع استيراد وإدخال معداتٍ مخبرية أساسية للكليات التطبيقية، فقطاع غزة كلّه لا يحتوي على سبيل المثال على جهاز ميكروسكوب إلكتروني، بالإضافة إلى مَنع بعض الأصناف من مستلزمات المختبرات من المواد الكيميائية، مما يعيق العمل في الأبحاث العلمية، ويجعل من إجراء الكثير من التجارب أمراً مستحيلاً، فيستيعض الكثير من الأساتذة بفيديوهاتٍ توضيحية مما هو متوفر على الإنترنت.
وأيضاً استهدف الإحتلال الأكاديميين العاملين في الجامعات، إمّا من خلال اعتقالهم، أو من خلال إعاقة سفرهم لدوراتٍ تدريبية، أو مؤتمرات أو تبادل اكاديمي، أو بغية إجراء أبحاثٍ في مختبرات من دولٍ أخرى. وفي العام 2008 شنّت الطائرات الحربية الصهيونية غارة على مبنى مختبرات كليتَي العلوم والهندسة، وسوّته بالأرض مع تدمير كاملٍ للأجهزة. وفي العام 2014 تمّ استهداف الطوابق العليا لمبنى الإدارة في نفس الجامعة، أمّا في هذا العدوان المستمر فقام تقريباً بمحو الجامعة من خلال القصف الجوي بصواريخ تدميرية، وعمد لنشر صور جوية لاستهدافه الجامعة. بل، ويبدو أنّ دباباته قامت بالدخول لحرم الجامعة لالتقاط الصور التذكارية. كما قامت الطائرات الصهيونية بتدميرٍ كامل لمبنى الجليل في فرعٍ لجامعة الأزهر، بالإضافة إلى تضرّرٍ كبير في المبنى الرئيسي المجاور للجامعة الإسلامية التى قُصفَت كلّ مبانيها ومحيطها. أمّا الكلية الجامعية للعلوم التطبيقية، وجامعة الإسراء، وجامعة الأقصى، وجامعة فلسطين فقد تعرّضت لتضرّر مبانيها إمّا بقصفٍ مباشر، أو قصف مناطق مجاورة.
وبخصوص استهداف العقول والنخب العلمية والأكاديمية فقد فاقت كل التصورات. إذ يمكن تعويض المباني والأجهزة وإن كان بصعوبةٍ بالغة، لكن كيف لنا أن نعوّض فَقد علماء أفذاذ، مثل: الأستاذ الدكتور "محمد شبير" المختص بعلوم الأحياء الدقيقة، والذي يشهد الجميع بقدارته النظرية والتطبيقية في هذا المجال، وهو كان يُعدّ مرجعية في هذا المجال بشهادة الجميع. وكذلك عالم الفيزياء "سفيان التايه" اللامع منذ كان طالباً، حتى ترؤسه الجامعة وهو من ضمن 2% من الباحثين الأعلى اقتباساً في السنوات الخمس الأخيرة. والأستاذ الدكتور "تيسير ابراهيم" عميد كلية الشريعة والقانون، والدكتور "سالم ابومخدة" نائب عميد الشريعة والقانون، والدكتور "عمر فروانة" عميد كلية الطب الأسبق. والأستاذ الدكتور "ابراهيم الاسطل" عميد كلية التربية الاسبق. والأستاذ الدكتور "نعيم بارود" الذي كان يشغل عميد كلية الآداب الأسبق. وأيضاً الأستاذ الدكتور "عزو عفانة" نائب عميد كلية التربية الاسبق وصاحب مؤلفات علمية رائدة. والدكتور "رفعت العرعير" أستاذ اللغة الإنجليزية، الذي كان قد أجرى مقابلة تلفزيونية مع محطةٍ أجنبية فنّد فيها الرواية الصهيونية للأحداث الجارية في هذه الحرب، وأكّد فيها على الانحياز المطلَق من قِبل الإعلام والساسة الغربيين للإحتلال.
القائمة طويلة من قوافل الشهداء الأكاديميين، وللأسف ولسوء الاتصال والتواصل وانقطاع الكهرباء لا يمكن معرفة من قُتِل، أو جُرح، وكثيرٌ من الزملاء لا نعرف عنهم شيئاً بسبب النزوح المهول من مناطقهم إلى مناطق لا نعرف أين استقر بهم المقام. أمّا بخصوص العملية التعليمية فهي متوقفة تماماً ولأول مرة، حتى خلال جائحة كورونا، تحوَّلنا إلى التعليم الالكتروني، واستعدّت الجامعات لهذه الأمر بدرجاتٍ متفاوتة. لكن في المحصلة استمرت العملية التعليمية.
وحتى في الاعتداءات الصهيونية السابقة كانت العملية التعليمية تُدار بشكلٍ جيد نظراً للفترة الزمنية القصيرة للاعتداءات، ولعدم تضرّر أدوات التعليم من مباني وحواسيب وأجهزة وتوفر الكهرباء والإنترنت. أمّا في هذا العدوان، فقد جرى استهداف كل شيء: الطلبة وأهاليهم والأساتذة وعائلاتهم، لا يوجد ماء ولا كهرباء ولا وسائل اتصال.
إنّ الحديث عن استمرار التعليم العالي بصورةٍ طبيعة الآن، قد يكون مستحيلاً للأسباب التي ذكرت. ولكن هناك سبب آخر نسأل الله أن يوفقنا أن نتجاوزه وهو مواساة الطلبة والطالبات، وتعزيز الجوانب النفسية والاجتماعية لهم بعد هذه التجربة المريرة التي أكاد أن أجزم بأنّ الجميع قد مر بها: قصفٌ مباشر أو مجاور وكلاهما يسبّبان أذى كبير من الناحية النفسية…فقدان عزيز أو أعزاء، يضاف إليه فقدان منزلٍ مريح، وربما نزوح إلى مناطق تكون أقلّ خطراً.. أحداثٌ متلاحقة لا تسمح لك بالحزن إلا للحظاتٍ قصيرة ..الأحداث المتلاحقة قد تأتي في دقائق…الأمور صعبة على من يصفها فكيف بمن يعيشها..
إنّ التعليم العالي في قطاع غزة بحاجة إلى تضافر كل الجهود من كل الجهات المعنية والراغبة في المساعدة، من أجل إعادة تأهيل البنى التحتية وتعويض ما فُقد والعمل على إعداد برامج للتعامل النفسي مع الأشخاص الذين تعرّضوا لصدماتٍ صعبة. ولربما لا أستطيع أن أوجز الحديث عن التعليم العالي أو استمراريته في الوقت الراهن، أمام هذا العدد الكبير من الشهداء والنزوح والدمار غير المسبوق، رغم حبّ شعبنا الفلسطيني للتعلم والحياة. فالجرح كبيرٌ والألم أكبر. ونسأل الله أن يعيننا على تجاوز هذه المآسي وأن نعمّر بلدنا الحبيب.
تواصل مع الكاتب: elmanama_144@yahoo.com
القصف الصهيوني يستهدف النخب العلمية الفلسطينية
يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة