مجلة أجسر – مجلة عربية محكمة في مجال العلوم – زورو موقعنا

أداة إبداع عِلمي و تَناغُم اجتماعي

اللُّغة العربية العِلميّة في العَصر الذَهبي للإسلام

الكاتب

د. عقبة جنان

جامعة محمد خيضر - الجزائر

الوقت

01:55 مساءً

تاريخ النشر

19, ديسمبر 2023

سَجّلَت الحضَارة العربية الإسلامية، في عَصرها الذَّهبي (3-4 ق.ه)، انفتاحاً كبيراً على كافّة العلوم، ورَحَّبَت بِمُختلَف نظريات العُصُور القَديمة المتأخِّرة ؛ وهذا بَعد أن وَصَلَت عَبْر حركة ترجمة كبيرة وشاقّة، أشرَف عليها "حُنين بن إسْحاق العَبادِي" (ت.260 هـ/873 م)، أعادَت إحياء المخْطوُطات اليُونانِيّة المنْسِيّة في الأديرة، والقادِمة مِن بيزنطة .

اليوم العالمي للغة العربية

 

ويُعَدُّ حَدَث تأسيس بغداد عام (144ه/762م)، فارِقة مُهمَّة في تاريخ الفِكر والعِلم العربي خلال العصر الإسلامي، إذ كانت بمثابة الحاضِنة التي ساهَمَت في تعزيز انطلاقِه نَحو الإبداع العلمي والنّقد الفلسفي؛ خاصَّة بَعد إنشاء "بيت الحِكمة" على يَد الخليفة المأمون (786-833). ومِنه، وَجَد العِلم العربي الإسلامي مَجالاً مُهمّاً للإبداع، وفُرصَة للانطلاق والتَطوُّر، في مجالات عِلميّة مُتعدِّدة ومُتنوِّعة، كالرّياضيات والطب وعِلم الفلك والمنطق والفلسفة وغيرها. 

وقَد لَعِبَت اللغة العربية العِلميّة، في هذا الانطلاق والتَّقدُّم، دَوراً هاماً وحاسِماً. فرُغم أنَّ العِلم العربي الإسلامي يُحِيل إلى جُغرافية واسِعة، تَضَمُّ إسبانيا والهِند وشمال أفريقيا وسوريا وإيران، بِصَرف النَّظر عن الخُصوصِيات اللُّغوية الأخرى، كالسُّريانية والفارسية وغيرهما، فإن غالبِيَّة العُلماء كَتبُوا أعمالَهم ومُصنَّفاتِهم العِلمية باللغة العربية، كما أُلحِقت الكُتُب التي أُلِّفَت باليُونانية والرّومانية والهِندية إلى اللغة العربية، مع التّعليق عليها . وتَمَّت ترجمة مُؤلّفات أعلام مشهُورين مِثل: أفلاطون وأرسطو وبطليموس وأبقراط وجالينوس، وغيرهم في المكتبة العربية.

وقد ساهم استعمال اللغة العربية، باعتبارِها أداة التّواصل والتّخاطب العِلمي، في مَدينة جنديشابور  مَهْد الطب العربي سنة (17ه/638 م)، إلى انتشار رُوح عالية من التَّسامُح الفِكري والانسجام الثقافي، وذلك بِفضل تَضافُر جُهود عَددٍ كبير مِن العلماء العَجَم والعرب، مِن أصُولٍ عِرقيّة ودِينيَّة مُتَنوِّعة ومُختلِفة، انتقَلت لَهم قِيم الإسلام و تعاليمُه و أسسُه الرّوحيّة عَبر بُعدِه الثقافي و مَتْنِه اللغَوِي الثّري . كما ساعَد استخدام اللّغة العربية، علَى تَحفيز العُلماء والمفَكِّرين على الإبداع العِلمي و الفلسفي خاصّة؛ نظراً لارتباط اللّغة بالفكر من جهة، من خِلال تَقديم أفكار جَديدة وخَلّاقة في جَميع مَجالات المعرِفة الحَيويَّة المختَلِفة كالرياضيات، والفَلك، والبَصَريات، والطب، والتّصوّف، والزّراعة، والصّناعة، فَضلا عن العُلوم الإسلامية وعلوم اللُّغة مِن بلاغة ونَحوٍ وغيرها، وهو ما ساهَم في تطوير اللغة العربيّة من جهةٍ أخرى. وفَضلاً عن تطوير مُفردات عِلميّة باللسان العربي، نَظراً لاتساعها الـمُعجمي- مقارنةً باللغات الأخرى-، واستفادَتها من ظواهر لُغوية مُختلِفة من جِهة؛ كالاشتقاق والتعريب، إلخ. واستفادتِها مِن جميع اللغات الأخرى بعد الانفتاح عليها من جِهة ثانية، ساهمت اللغة العربية في اشتقاق وضَبط وتَوصِيف المفاهِيم العِلمية الجديدة والمُختلِفة، وهو ما أسهَم في تطوير اللغة لتَتناسب ومُتطلّبات المعرفة الجديدة . ومِن خلال هذه اللّغة العِلمية التِّقنيّة المُشترَكة، تَعزّز الانتِشار السَّريع للمَعرِفة، وعَزَّز توظيف استخدام اللغة العربية في مَراكز التَّعليم والمدارس والجامِعات؛ مِمّا أدّى إلى ظُهُور اللَّغة العربية كلُغة أُولَى في التّعليم، على خَلفِية أنَّها لُغة حاوية للثقافة والتراث الفِكري اليوناني واللاتيني القديم، وهو ما أهّلها أن تكون بِحق لُغة الثّقافة العالمية .

وجديرٌ بالذّكر، أنّ اللغة العربيّة ساهمَت في تكوين وتطوير مَهارات عُلماء ومُثَقَّفين، ووَسّعَّت آفاقهم الفكرية، مِما جَعلَهم يَتركُون بَصمتَهم ويُخلِّدُون آثارهم في مَجالات وتخَصُّصات مَعرفيّة مُختلِفة. وذلك، من خلال الإنتاج الأدبي والفلسفي والعلمي، وهو ما سَمَح بإيجاد تقليد معرفي وعلمي، أثرَى المتْن المعرفي العربي بمُصنّفات عِلمِية في مجالاتٍ مُختلِفة ومُتعدِّدة.

وقد كانت اللغة العربية، إلى جانب كونها أداة إبداع ووَسيلة تَحصيل مَعرفي ثَريّ، مَظهَر تَناغُم اجتماعيٍّ وانسجام ثَقافي في العصر الذهبي للإسلام. ومِن هذه المظاهر، أنَّ اللغة العربية وِعاء للتّعاليم والتّوجيهات الأخلاقية لِحياة النّاس الدِّينية والاجتماعية اليَوميَّة. كما لَعبت دَور الوَسيط في التَّبادُل الاجتماعي والثقافي، بَعد أن تَمكّنَت مِن رَبط وتَقريب عِدّة خَلفيَّات ثقافِية مُتبَاينَة. إضافةً إلى تعبيرها عن الإنتاج الأدبي – مِن نَثرٍ و شِعر – النّاقل لثقافة وقِيم  ووُجدان المجتمع الإسلامي آنذاك. وامتداداً للبُعد الثقافي، كانت اللغة العربية أداةً للتعبير الفنّي الذي يَعكس هُويّة المجتمع الثقافية كالعمارة والموسيقى. ومِن المهمّ القول أيضاً، إنَّ اللغة العربية ساهَمت في توحِيد جَميع مُكوّنات المجتمع الإسلامي، تَحتَ هُويّة واحدة، مكّنَت أفرادَه مِن تحقيق شعور قَويٍّ بالانتماء.

وبالمجمل، فَقد كانت اللّغة العربية أداة إبداع عَظيمة وحاسِمة، في نَقل وحِفظ المعرفة الإنسانِيّة مِن جِهة، وكذلك نَقد هذه المعرفة والاستدراك عليها إن اقتضى الأمر من جهةٍ أخرى، وذلك بقَصد إنتاج مَعرفة جديدة. كما لَعِبت اللّغة العربية دورًا مركزيًا في الحضارة الإسلامية، تَمثّل في تحقيق الانسجام الثّقافي والتناغم الاجتماعي للأفراد.

 

المراجع:

1- Manfred ULLMANN, La médecine islamique, trad. fr. Fabienne HAREAU. Paris : PUF, « islamique », 1995, p.1 ; Eugène BOUCHUT. Histoire de la médecine et des doctrines médicales : leçons faites à l'Ecole pratique de la Faculté de médecine en 1862, 1863 et 1864. Paris : Baillière, 1864, p. 244. 
2- Anne-Marie MOULIN. Histoire de la médecine arabe : dialogues du passé avec le présent. Paris : Confluent, 1996, p. 26-27.
3- HOUDAS, Yvon. La médecine arabe aux siècles d'or : VIIIème-XIIIème siècles. Paris ; Budapest ; Torino : L’Harmattan, 2003. 164 p. Les Acteurs de la science ; n°1625-3302. P, 8.
4- و هي البلدة القريبة من قرية شاه آباد في جنوب غرب إيران حاليًا. و يُروَى أن جرجيس بن جبريل، كان قد خاطب الخليفة المنصور باللغة العربية عندما زاره. 
5- Georges C. ANAWATI, et E.U. « La médecine ». In : Encyclopaedia Universalis, nouv. éd., Paris, 1996, vol. XII, p. 720 b.
6- [1]
. MOULIN. Histoire de la médecine arabe, p. 20.
7-  Gehan, M., Anwar. (2014). A Quest for Reviving the Past: Arabic Lines in English Translation and Terminology.  2(1):148-165. doi: 10.21608/SJOU.2014.32849
8- Mohd., Shamsuddin, S., Hj., Ahmad, Ssb. (2018). Modernization of Arab Linguistic Sciences in Modern Age.   doi: 10.20944/PREPRINTS201801.0197.V1

 

 

تواصل مع الكاتب: okba.djenane@univ-biskra.dz​

 


يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة

       

 

الكلمات المفتاحية

الزوار الكرام: يسعدنا مشاركتكم وتواصلكم حول هذا المقال

الكلمات المفتاحية

ترخيص عام

الموقع قائم على مبدأ الترخيص العام للجمهور في حرية النسخ والنقل والاقتباس من جميع المحتويات والنشرات والكتب والمقالات، دون مقابل وبشكل مجاني أبدي، شريطة أن يكون العمل المستفيد من النسخ أو النقل أو الاقتباس متاحا بترخيص مجاني وبذات شروط هذا الموقع، وأن تتم الاشارة إلى منشورنا وفق الأصول العلمية، ذكرا للكاتب والعنوان والموقع والتاريخ.

هذا والموقع يساعد المؤلف على نشر إنتاجه بلا مقابل من منفعة معنوية أو مادية، شريطة أن يكون العمل متوفراً للنسخ أو النقل أو الاقتباس للجمهور بشكل مجاني. ثم إن التكاليف التي يتكبدها الموقع والعاملون عليه تأتي من مساعدات ومعونات يقبلها الموقع ما لم تكن مرتبطة بأي شرط مقابل تلك المعونات.

license
0 التعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
guest

شبكاتنا الاجتماعية

  • facebok
  • twitter
  • Instagram
  • Telegram
  • Youtube
  • Sound Cloud

يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة

icons
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x