استجابةً لدعوة منظمة المجتمع العلمي العربي للمهتمين بكتابة مقالات حول “اللغة العربية العلمية” وذلك بمناسبة الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية والذي يوافق يوم 18 ديسمبر، قررت الإدلاء بدلوي في الموضوع وإن كنت حائراً في كيفية المشاركة وعلى أي زاوية ستتركّز مشاركتي.
اليوم العالمي للغة العربية
فكرت أولاً في تركيز المقال على أنّ اللغة العربية كانت لغة العلم والعلوم لمدة قرون، حين أبدع العرب والمسلمون أيّما إبداع، ودوّنوا منجزاتهم العلمية والحضارية بهذه اللغة العميقة المعاني. وحين أصبح لزاماً على من يريد تعلّم مختلف العلوم أن يبدأ بتعلم هذه اللغة حتى يكون مؤهلاً لسبر أغوار تلك العلوم، حتى كان مثقفو الحضارات الأخرى يتعالون على أقرانهم ويظهرون تفوقهم بالتحدّث ببعض العبارات العربية. لكن من باب “أعطِ القوس باريها” قررت ترك الموضوع لمختصّي تاريخ العلوم، والذين سبق وأن أجادوا في الموضوع.
ثم فكرت أيضاً في تكريس المقال للردّ على من لديهم شكوك بعجز اللغة العربية عن إيجاد الوصف الدقيق للعلوم، وعدم وجود المصطلحات العلمية المناسبة بها إلى غير ذلك من المبررات. ثم كأن “هاجساً” همس لي مجدداً “لا تظلم القوس، أعط القوس باريها”، فمجامع اللغة العربية والتعريب إضافة للمختصين في اللسانيات يبددون هذه الشكوك في إصداراتهم الكثيرة. وقد سبق هؤلاء في دحض تلك التهم شاعر النيل، الشاعر الكبير حافظ إبراهيم رحمه الله في رده على مدعي عجز اللغة العربية في قصيدته التي مطلعها:
إلى أن يقول على لسان هذه اللغة العربية:
أخيراً قررتُ أن أعالج موضوع “اللغة العربية العلمية” من خلال عرض جملة من المقترحات التي لا شك أنه سبق وأن أثيرت من طرف المهتمين بالموضوع، لكن لا بأس بالعود إليها لعلّها تكون أرضية للنقاش من طرف المهتمين بتطوير اللغة العربية العلمية.
لا خلاف حول موسوعية اللغة العربية وقدرتها على تقديم مختلف العلوم للقارئ، كما يجسده المجهود القيم الذي تقوم به مجامع التعريب مشكورة ومراكز الأبحاث و الترجمة بمختلف البلدان العربية. ولا بد من التنويه هنا بمبادرتين قيمتين قامت بهما مؤسسة الكويت للتقدم العلمي، ومدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية، إذ تكفلت الأولى بترجمة لملخصات أهم الأبحاث المنشورة في مجلة العلوم “Sciences” فيما اهتمت الثانية بملخصات للأبحاث المنشورة في مجلة “Nature” ممّا مكن الباحثين العرب من الاطلاع على المستجدات العلمية بلغتهم.
لكن حسب رأيي المتواضع، ولإعادة الألق العلمي إلى اللغة العربية ومساهمتها في تقديم المستجدات العلمية والتقنية للقارئ العربي ينبغي اعتماد استراتيجيةٍ تعتمد على رؤى على المدَيَين الطويل والقصير، على أن يشارك في إعداد تلك الاستراتيجية وتنفيذها مسؤولو التعليم والبحث العلمي أي الباحثون في مجال العلوم إلى جانب اللغويين، هذه الإستراتيجية يمكن أن تركّز على المحاور التالية:
1- إعادة القيمة للغة العربية من خلال اعتمادها في تدريس العلوم في المراحل الجامعية حتى البكالوريوس على الأقل، ناهيك عن التعليم الابتدائي والثانوي، حيث أن معظم الدول العربية تدرّس بلغاتٍ أجنبية في مختلف مراحل التعليم؛ فمثلا تُستخدَم اللغة الفرنسية في شمال إفريقيا والإنجليزية في أغلبية بلدان المشرق العربي، على الرغم من أنّ أغلب الدراسات تؤكّد أن درجة استيعاب الطلاب للمفاهيم العلمية تزداد عند استخدام لغتهم الأم، ممّا يعطي فرصة أكثر للإبداع، وما تجارب بعض الدول ببعيدةٍ عنا. فعلى سبيل المثال لا الحصر، إذا استأنسنا بتجارب دول كماليزيا، وإندونيسيا، والصين، وكوريا الجنوبية، وسنغافورة فسنرى أن هذه الدول اعتمدت التدريس بلغاتها الأم وهو ما انعكس إيجاباً على تطوّرها العلمي. من المؤكد أن بعض المهتمين سيتحجّج بعدم وجود المراجع العلمية اللازمة لتدريس بعض التخصصات التقنية، لكن هذا العذر لا يعفي الجميع من المسؤولية، إذ أنّ تكثيف الترجمة كفيل بحلّ المشكلة ولا أعتقد أن غياب تلك المراجع يشكّل عائقاً جوهرياً إلى هذا الحد. ولا ننسى أن الفرنسيين يدرسون بالفرنسية، والإسبان بالإسبانية، والصين بالصينية واللائحة تطول.
2- في مجال البحث العلمي، ينبغي إنشاء مجلاتٍ علمية متخصصة ومحكمة تنشر الأبحاث باللغة العربية مع وجود ملخّص باللغة الإنجليزية، قد يبدو للبعض أن هذا الأمر بعيد المنال لكن الأمر يهون إذا علمنا أنّ كثيراً من البلدان تصدر مجلات علمية بلغاتهم، وينشرون مقالات رصينة وذات قيمة علمية. ولتشجيع الباحثين في نشر أبحاثهم بهذه المجلات ينبغي اعتماد هذه الأبحاث في الترقيات العلمية وحتى إعطاء مكافآت مالية لمن ينشرون في هذه المجلات نتائجهم العلمية حصراً قبل نشرها في أيّ وعاء نشر آخر. ويجدر هنا التنويه بمبادرة “منظمة المجتمع العلمي العربي” في إنشاء مجلةٍ متخصصة وهي المجلة العربية للبحث العلمي (اجسر) التي تُعنى بنشر الأبحاث العلمية باللغة العربية، وهي المبادرة التي ينبغي تعزيزها والحذو حذوها.
3- تنظيم مؤتمرات علمية متخصصة تكون اللغة الرسمية فيها هي اللغة العربية مما يساعد في نشر الثقافة العلمية باللغة العربية.
في الختام آمل أن يجعل المسؤولون عن التعليم والبحث العلمي بوطننا العربي من الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية فرصة لإيجاد تفكير جاد تتمخّض عنه استراتيجيات فعالة تعيد للغة ألقها، وتمكّن الأجيال من فهم العلوم بلغتهم الأم لينعكس ذلك إيجاباً على عطائهم العلمي ويدفعهم للإبداع في مختلف التخصصات العلمية.
تواصل مع الكاتب: mamamin@imamu.edu.sa
يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة