اليوم الإثنين 18 ديسمبر، يوافق ذكرى تأتي في ظروفٍ كئيبة وعصيبة، وأقصد بذلك حلول "اليوم العالمي للغة العربية" الذي يمرّ في خضم الصراع في أرض فلسطين مع العدو الغاصب والغاشم الذي يحاربنا في العديد من الجبهات. قبل أيام فقط هدد رئيس وزراء الكيان الصهيوني "بنيامين نتنياهو" بشن "الحرب الشاملة" وهو أمرٌ في الواقع تقوم به "إسرائيل" منذ عقود ضد الأمة العربية الغافلة والمغيبة.
اليوم العالمي للغة العربية
فعدونا يشن علينا "حرب مياه" وحرب التعطيش بتلويث المياه الجوفية في قطاع غزة، وسرقة مياه نهر الأردن ونهر الليطاني. أما الحرب الديمغرافية، فمعالمها واضحة منذ التغريبة والتهجيرة الفلسطينية زمن نكبة 1948، ومحاولة العدو تكرار ذلك في "نكبة "2023 الهادفة لتهجير المهجرين إلى صحراء سيناء. وقد يطول بنا المقال لو حاولنا حصر أنواع الحرب الشاملة التي يشنها عدونا ضدنا من خلال الحرب الاقتصادية، والإعلامية وكذلك النفسية، وأخيراً وليس آخراً الحرب اللغوية.
في عام 2018، وقف نتنياهو داخل الكنيست "الإسرائيلي" وهو في قمة السعادة بعد إقرار مشروع "قانون الدولة القومية" والذي هو أشبه بدستورٍ جديد للكيان الصهيوني يركز على "تهويد الدولة"، وأنها كيان خالص وخاص لليهود فقط. وكان من كوارث ذلك القانون القومي اليهودي المحاربة الصريحة ضد اللغة العربية، فقد نصّ مشروع القانون على أنّ اللغة العبرية اليهودية ستكون هي اللغة القومية الوحيدة الرسمية في "إسرائيل"، وأنه بناءً على ذلك يجب الحدّ من استخدام وتداول اللغة العربية. وفي الواقع ومنذ عام 2008، وُجِد تيارٌ قوي في داخل وزارة التعليم "الإسرائيلية" كان يدفع باتجاه إخراج تعليم اللغة العربية من مناهج التدريس الإجبارية في المدارس العبرية. ومن المحتمل مع وصول "اليمين الصهيوني المتطرف" بقيادة نتنياهو أن يعاد طرح هذه الفكرة مرة أخرى. وأيضاً بعض المتشدّدين الصهاينة يطالبون بشدة منع المدرّسين العرب من تدريس اللغة العربية، وقصر ذلك على المعلمين الصهاينة وذلك من باب تبني هؤلاء المتشددين للمقولة المشهورة لمالكوم إكس: "فقط الأغبياء هم من يتركون عدوهم يعلم أبناءهم".
وفيما يتعلق بوسائل الإعلام مثل التلفزيون الرسمي الإسرائيلي والقنوات الفضائية، وعلى الرغم من أنها تحتوي على بعض البرامج ونشرات الأخبار المقدمة باللغة العربية، والتي هي أصلاً موجهة للدعاية الصهيونية، أو تقديم الأخبار من وجهة النظر "الإسرائيلية"، إلا أن نسبة هذه البرامج الناطقة بالعربية أخذت تتقلّص فمثلاً، "القناة الإسرائيلية" (آس 24 نيوز) تبث عشرة برامج باللغة الإنجليزية و 14 برنامجاً باللغة الفرنسية، في حين البرامج الناطقة باللغة العربية هي ستة برامج فقط، والوضع أسوأ بكثير في القنوات التلفزيونية العامة، مثل القناة الإسرائيلية الأولى (ينبغي التنبيه أنه حتى عام 2018، كانت اللغة العربية لغة رسمية في "إسرائيل").
إنّ تقهقر اللغة العربية في "إسرائيل" وتراجعها للمرتبة الثالثة بدلاً من الثانية، نجده كذلك في عدد الكتب المنشورة في الكيان الصهيوني. ففي عام 2021، تمّ نشر رقمٍ ضخم من الكتب باللغة العبرية بلغ 6598 كتاباً، في حين نُشر باللغة الإنجليزية 334 كتاباً بينما لم ينشَر باللغة العربية إلا 160 كتاباً، فقط وذلك وفق إحصائيات المكتبة الوطنية الإسرائيلية.
إنّ الحرب الصهيونية لمحو الذاكرة العربية من خلال تهميش اللغة العربية وصلت إلى "لغة الشوارع"، وأقصد بذلك تحويل أسماء الشوارع والمناطق والبلدات من اللغة العربية إلى اللغة العبرية. فمنذ عام 2009، أمرت وزارة المواصلات "الإسرائيلية" بشطب أسماء البلدات والمدن العربية عن اللوحات واللافتات المنصوبة في الطرق العامة. وفي الواقع هذه الحرب اللغوية (الشوارعية) ليست حديثة، فمنذ عام 1952، سعت لجنة التسميات في حكومة الكيان الصهيوني إلى "تهويد و عبرنة" الدولة من خلال إطلاق الأسماء العبرية بدل الأسماء العربية على المئات والآلاف من المواقع الجغرافية والتاريخية وما زال مشروع تهويد الشوارع الفلسطينية مستمراً. ففي عام 2015، صادقت بلدية القدس على تسمية الشوارع في البلدة القديمة والقدس الشرقية بأسماء عبرية ذات دلالات توراتية. وبحكم أن شرائح واسعة من المجتمع الصهيوني من المتشددين، أو من المستوطنين تَعتبر اللغة العربية هي "لغة العدو"، يقودهم تطرفهم لعدم استحمال مشاهدة اللافتات واللوحات الإرشادية في الشوارع، وهي مكتوبة بالعربية، لذا يقومون بطمسها بالأصباغ بينما البلديات الحكومية تتعمد التأخير في صيانة وتجديد لوحات الشوارع التالفة والمكتوبة باللغة العربية.
العربية تُعلّم العبرية قواعد الكلام!
ما سبق سرده قد يصيب الواحد منا بالغصّة، لأنه يوحي بأن عبارة "الأرض بتتكلم عربي" ليس لها وجود في أرض فلسطين، وهذا قد يعني أنه في هذه الجولة من الصراع، ربما استطاعت اللغة العبرية أن توقع بعض الخسائر باللغة العربية في حرب اللغات تلك. ولكننا هنا نغفل أمراً مهماً وهو البعد الجغرافي، والسياق التاريخي، للصراع والتنافس بين اللغة العربية والعبرية، فواقع الحال في أرض فلسطين المحتلة، هو بمشيئة الله وضع مؤقت، سوف يزول يوماً ما، وعسى أن يكون قريباً، كما أن اللغة العبرية ليست لها أيّ هيمنة على الإطلاق خارج جغرافيا حدود فلسطين.
إنّ صفحات التاريخ وخرائط الجغرافيا كلها تثبت أن اللغة العربية كان لها دوماً الكلمة العليا مع اللغة العبرية. ففي تاريخنا العربي القديم، نجد أن الشعراء اليهود من مثل السموأل وكعب الأشراف كانت قصائدهم بلسانٍ عربي فصيح، بل حتى التوراة في جزيرة العرب كانت تُكتب باللغة العربية، فالخليفة العادل عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) أخذ صفحات من التوراة من أحد اليهود بالمدينة، وأحضرها للنبي محمد صلى الله عليه وسلم وقرأها عليه، والقصة مشهورة في غضب النبي من هذا الأمر.
من المشهور وصف اللغة العبرية اليهودية بأنها لغة ميتة لأنها كانت لغة مندثرة لا تستخدم في الكتابة، أو في الحديث في الحياة العامة وإنما كانت فقط تُستخدم في أداء الشعائر الدينية التوراتية، وذلك حتى منتصف القرن التاسع عشر مع تنامي فكرة "الصهيونية" الهادفة لإعادة اليهود إلى أرض فلسطين. وبالعودة للتاريخ نجد أن اللغة العبرية تلاشت وأُهمِلت بعد السبي البابلي لليهود في عام 586 قبل الميلاد. وبعد عودة اليهود إلى فلسطين زمن الملك قورش أصبحت اللغة الآرامية هي اللغة التي يتحدثون بها، وذات اللغة التي كُتب بها التلمود، ولهذا تُسمّى اللغة القانونية لليهود. ونظراً لتعرّض اليهود عبر التاريخ للاحتلال الروماني والمقدوني والفارسي، تعدّدت اللغات التي يتحدث بها اليهود، فقد كانت اللغة الآرامية في العراق والشام، واللغة اليونانية في مصر، واللغة اللاتينية في شمال إفريقيا وأوروبا، بينما كان اليهود الذين عاشوا في المدينة المنورة واليمن يتحدثون العربية. وتشير الدراسات التاريخية إلى أنّه في القرن الثاني الهجري، ومع اتساع الرقعة الجغرافية للخلافة الإسلامية فإن 90% من يهود العالم كانوا يعيشون تحت مظلة الإسلام، ولهذا كانت اللغة المحكية بينهم هي اللغة العربية، وهذا ما ساعد على تجانس اليهود مع العرب والمسلمين وتقبّلهم في نسيج المجتمع العربي.
وكان من آثار انتشار اللغة العربية بين اليهود في القرون الوسطى، أنّ الإنتاج الحضاري والمعرفي لليهود، ولقرونٍ طويلة كان يُكتَب باللغة العربية وليس العبرية. لدرجة أن كتاب "تفسير المشناة" والذي ربما هو ثالث أهم كتاب في الديانة اليهودية، بعد التوراة والتلمود كان من تأليف الحاخام والطبيب اليهودي الأندلسي المعروف "موسى بن ميمون"، والذي كتب هذا المؤلَّف في الشريعة اليهودية باللغة العربية، ومن أهمية هذا الكتاب أنه ورد فيه المبادئ الثلاث عشرة التي جعلها "موسى بن ميمون" أسُس الدين اليهودي، وأركان الإيمان فيه. وبالمناسبة بن ميمون يعتبر كذلك أحد أهم الفلاسفة اليهود في جميع العصور (يعرف في الغرب باسم Maimonides)، وأفكاره وآرائه الفلسفية موجوه في كتابة الذي هو بعنوان "دلالة الحائرين" وهو مكتوب باللغة العربية وبأحرف عبرية.
ومن دلائل تأثير اللغة العربية على اللغة العبرية أنّ الحاخام اليهودي "مروان بن جناح القرطبي" كان عالماً باللغتين العربية والعبرية ولذا مزج بينهما، فله كتاب يحمل اسم "التنقيح" وكتاب آخر بعنوان "اللمع" جمع فيهما قواعد اللغة العبرية. ونظرا لأنه كان متبحّراً في علم النحو على منهج سيبويه، فقد صاغ قواعد اللغة العبرية على وفق قواعد النحو والصرف في اللغة العربية. وسبق وأن ذكرنا بأنه منذ فترة السبي البابلي أصبحت اللغة العبرية شبه مهجورة، ولهذا لم تتطور وبقيت متخلّفة في صورتها البدائية المنطوقة لدرجة أنّ الدراسات اللغوية والتاريخية، ترجّح أنّ اللغة العبرية لم تعرف نظام النحو وقواعد اللغة، إلا في زمن يهود الأندلس من مثل عالم اللغة اليهودي "مروان بن جناح" السالف الذكر، وكذلك "يحيى بن حيوج الفاسي" الذي عاش بمدينة قرطبة والذي اعتمد على نظام الخليل وسيبويه في النحو العربي، وطبّقه في دراساته النحوية العبرية، وخرج بكتابه "كتاب الأفعال" في النحو العبري. ولا يتّسع المقال والمقام لذكر أمثلة لتأثر شعراء وأدباء وعلماء اللغة اليهود بعلم البلاغة العربي وتطويرهم لأساليب أدبية وأغراض وفنون شعرية غير معروفة على الإطلاق في الأدب اليهودي القديم.
وما سبق استعراضه من شواهد التاريخ وحدود الجغرافيا، يثبت أن اللغة العبرية أضعف وأهون من أن تؤثر في اللغة العربية، أو أن تكون مكافئة لها في نزالٍ حضاري أو صراع لغوي. ومع ذلك بالفعل في المساحة الجغرافية الصغيرة المتمثلة في أرض فلسطين، وفي اللحظة التاريخية الحالية يحاول "أهل العبرية" تحييد وتهميش أهل العربية ولغتهم، وسبب نجاحهم النسبي أنهم تفردوا بالصراع، مع أخوتنا ولغتنا في فلسطين دون أي مؤازرة، أو تكتّل لبقية الناطقين باللغة العربية من العرب والعجم من أهل الإسلام. وبمشيئة الله، يوم أن يعود أهل العربية وأهل الإسلام للاتحاد لكي يكونوا "جمع مذكر سالم" بدلاً من حالهم كـ "جمع تكسير" فعند ذلك لن يكون للصهاينة محل من الإعراب في أرض الأعراب.
تواصل مع الكاتب: ahalgamdy@gmail.com
يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة