تُعتبَر نبتة اليانسون إحدى النباتات المعروفة منذ القدَم في الطب التقليدي والطب البديل، وكذلك في قطاع الأدوية. وتُستخدم أجزاء مختلفة منها في علاج مسبّبات الأمراض لما تتمتّع به من خصائص مضادة للفيروسات والبكتيريا والفطريات. وقد حظيت هذه النبتة باهتمامٍ كبير من الباحثين على مدى العقود الماضية ممّا مكّن من اكتشاف المركبات الكيميائية التي تُكسب النبتة هذه الخصائص.
منظمة المجتمع العلمي العربي
في دراسةٍ جديدة نُشرَت مؤخراً في دورية "Chemistry Africa" العلمية، قام باحثون من جامعة "سيدي محمد بن عبد الله" بفاس في المغرب بتحليل بحوث المراجعة المنشورة سابقاً حول التوزع الجغرافي لنبات اليانسون، وأماكن زراعته، والمركبات الكيميائية المكتشفة فيه، وطرق استخلاصها، إضافةً إلى الاستخدامات الزراعية والطبية له. وقد أظهرت نتائج تحليل 143 دراسة مراجعة سابقة منشورة بين عامي 1930 و 2022، أنّ اليانسون يتواجد في المناطق الممتدة من البرتغال على المحيط الأطلسي في الغرب إلى الصين في الشرق مروراً بمناطق شمال إفريقيا والشرق الأوسط، كما أنّه يُزرع في عددٍ من المناطق الأخرى في العالم. وقد مكّنت التقنيات الجديدة لاستخلاص المكونات النباتية، مثل تقنية الاستخلاص بمساعدة الموجات فوق الصوتية، من اكتشاف كمياتٍ كبيرة من المركبات كـ "البوليفينول" و"الفلافونويد"، ومضادات الأكسدة والتي لها فوائد علاجية كبيرة ضد الأمراض ومسبباتها. لكن المؤلفين أشاروا إلى أنّ هناك حاجة لمزيدٍ من الدراسات بغية فهم التأثيرات الحالية لتغير المناخ على التوزّع الجغرافي لنبات اليانسون، وعلى خصائصه الكيميائية.
يقول المؤلفون إنّ اليانسون، واسمه العلمي "Pimpinella anisum"، هو نباتٌ عشبي سنوي، ينتمي إلى جنس الأنيسون "Pimpinella"، وموطنه الأصلي منطقة البحر الأبيض المتوسط. وهو نبات سنوي بطيء النمو، يحتاج إلى خريف مشمس ودافئ وجاف لتحقيق عائدٍ اقتصادي كبير. كما أنه يستخدم لاستخراج الزيوت العطرية. وتكون فترة زراعته بين شهري مارس وأبريل. ولتفادي حساسية هذه النبتة للصقيع المتأخر، يتعين بذره في المناخات الدافئة. وتستغرق البذور حوالي شهر لتنبت. لكن النمو الخضري يبدأ في الزيادة بسرعةٍ كبيرة بمجرد ظهور الأوراق الأولى، ثم تبدأ مرحلة الإزهار، التي تستمر بين يونيو ويوليو. ويتم حصاد النباتات بين شهري أغسطس وسبتمبر، ثم تجفيفها في أماكن جيدة التهوية لمدة تتراوح بين 7 و8 أيام.
اليانسون في الطب قديماً
لقد تمّ استخدام اليانسون منذ عصر الفراعنة في مصر قبل آلاف السنين، في الطهي والاستخدامات الطبية، لما له من فوائد للحفاظ على صحة الإنسان وتحسين نوعية الحياة. وتصف العديد من النصوص الطبية التاريخية، اليانسون لعلاج الاكتئاب والنوبات والصرع. ويُعدّ اليوم من التوابل السائدة والنباتات الطبية التقليدية المستخدمة للأغراض الغذائية والطبية على حد سواء بسبب ثرائه بالجزيئات النشطة بيولوجيًا.
وقد اهتم العديد من الأطباء العرب والمسلمين بالفوائد العلاجية لليانسون، فكتب "داوود الأنطاكي" في تذكرته أن اليانسون " يطرد الرياح ويزيل الصداع وآلام الصدر وضيق التنفس والسعال المزمن ويدر البول ويزيد العمم وإذا طبخ بدهن الورد قطوراً ودخانه يسقط الأجنة والمشيمة ومضغه يذهب الخفقان والاستياك به يطيب الفم ويجلو الأسنان ويقوي اللثة". وكتب "ابن سينا" في كتاب القانون " إذا سُحِق اليانسون وخلط بدهن الورد وقطر في الأذن أبرأ ما يعرض في باطنها من صدع عن صدمة أو ضربة ولأوجاعهما أيضاً، كما ينفع الينسون شراباً ساخناً مع الحليب لعلاج الأرق وهدوء الأعصاب".
المكوّنات الكيميائية لليانسون
إنّ أقوى مكونات نكهة اليانسون هي مادة الأنيثول (C10 H12 O) الموجودة في كلّ من البذور والأوراق، وهي مصدر نكهته المميزة، وتعرَف بفاعليتها في تثبيط الأمراض المزمنة. ويتميز الزيت العطري لهذا النبات بغناه بـ"البوليفينول"، و"الفلافونويد"، و"التربينات" (C5H8)، التي لها تأثير علاجي ملحوظ ضد أمراض السكري والالتهابات والمعدة. كما أظهرت العديد من البحوث التي أجريَت على مستخلصاتٍ مختلفة من البذور والأوراق احتواءها على مركباتٍ أخرى لها تأثيرات مثبطة قوية ضد مسببات الأمراض البكتيرية والفطرية والفيروسية.
وتعتبَر مادة "الأنيثول" أهم المكونات الكيميائية لليانسون، وهي الأكثر استخداماً في الغذاء والدواء، وكذلك في صناعة الأدوية والعطور والمنكهات والمبيدات الحشرية. وبشكلٍ عام، يتكوّن اليانسون من البروتينات التي تشكل 18% من الكتلة، والدهون (خاصة الأحماض الدهنية مثل الأحماض البالمتيكية، وحمض الأوليك) وتتراوح نسبتها بين 8 و11% من الكتلة. فيما يشكّل الزيت المتطاير بين 1.5 و6.0% من كتلة اليانسون، ويتكون بشكلٍ أساسي من الأنيثول، والكربوهيدرات حوالي 4%. ومن أهم البروتينات والكربوهيدرات التي توجد في اليانسون مجمعات بروتين اللجنين-الكربوهيدرات (LC1، LC2، وLC3). ومع تطور التقنيات الكيميائية ومواد الفحص، اكتشف العلماء أنّ المركبات الكيميائية في نبتة اليانسون تتفاوت تركيزاتها حسب المناطق والظروف المناخية وخصائص التربة، والبروتوكولات المستخدمة في الزراعة.
نشاط مضاد للفيروسات والبكتيريا والفطريات
اختبر الباحثون في دراساتٍ عديدة وعلى نطاقٍ واسع، النشاط المضاد للفيروسات في مستخلصاتٍ مختلفة من اليانسون على فيروساتٍ مختلفة. وقد أثبتت هذه البحوث تأثيراته المثبطة لعدد الفيروسات المعروفة. لكن هذه التأثيرات تبدو متفاوتة حسب أنواع الفيروسات والمواد المستخدمة من اليانسون. ففي دراسةٍ علمية لباحثين من السودان تم اختبار 152 مستخلصًا من 71 نباتاً تستخدَم بشكلٍ متكرر في الطب التقليدي ضد فيروس التهاب الكبد الوبائي سي. وكشفت النتائج أنّ مستخلص اليانسون أظهر فعالية كبيرة في الحد من الإصابة بهذا الداء. كما تمّ في دراسةٍ أخرى عزل ثلاثة مجمعات من اللجنين والكربوهيدرات والبروتين المستخلصة من اليانسون، واختبارها ضد الفيروس المضخم للخلايا البشرية (HCMV)، وأنواع فيروس الهربس البسيط(HSV) 1 و 2، وفيروس الحصبة. وكشفت النتائج أنّ هذه المجمعات تمنع امتصاص الفيروسات على سطح الخلية المضيفة وتقوم بتعطيلها. كما أظهرت نتائج دراسات أخرى أن لمستخلصات بذور اليانسون تأثيرات كبيرة ضد فيروس كورونا المتلازمة التنفسية الحادة 2 (SARS-CoV-2) الذي تسبب في جائحة الكوفيد-19 خلال السنوات الماضية.
وفحص العلماء كذلك النشاط المضاد للبكتيريا لـنبتة اليانسون ضد سلالات مختلفة من البكتيريا، تشمل العوامل المسبّبة وغير المسببة للأمراض. وقد استخدموا النبات ومشتقاته لبيان التأثيرات التثبيطية ضد الكائنات الحية الدقيقة. وبالمثل، تمّ دمج اليانسون مع نباتات ومواد صناعية أخرى لزيادة فعاليته ضد مسبّبات الأمراض المقاومة.
كما تم أيضًا اختبار الزيوت الأساسية لـليانسون ضد الفطريات، وكانت النتيجة إيجابية. ففي دراسةٍ لتقييم التأثيرات المضادة للفطريات للزيوت العطرية والمستخلص السائل لثمار اليانسون على أربعة أنواع من الفطريات الجلدية وعلى سبعة أنواع من الخميرة، أظهرت النتائج المتحصّل عليها أنّ المستخلص السائل لنبات اليانسون أظهر تثبيطاً مضاداً للفطريات. وأظهر المستخلص السائل لنبات اليانسون نشاطاً مثبطاً ضد جميع أنواع الفطريات الجلدية. إضافة إلى تأثيره المضاد للفيروسات والبكتيريا والفطريات، حيث أظهرت دراسات أخرى أنّ لزيت اليانسون تأثيراً مسكناً للآلام والالتهابات من الأشخاص مشابهًا للمورفين والأسبرين.
وفي دراسةٍ أخرى جرى استخدام الفئران لاختبار التأثيرات المسكّنة والمضادة للالتهابات لزيت اليانسون، وأظهرت النتائج أنّ زيت اليانسون له تأثير مضاد للالتهابات يعادل قوة الإندوميتاسين، بالإضافة إلى تأثيراتٍ مسكّنة مماثلة للمورفين والأسبرين.
تأثيرات اليانسون على المناعة والمضادة للأكسدة
أثبتت العديد من الدراسات التأثيرات الإيجابية لليانسون على المناعة. وقد توصّل باحثون إلى إثبات قدرة خليط مستخلص اليانسون والزنجبيل على تعزيز النمو والمناعة لدى فراخ الدجاج اللاحم. وأظهرت نتائج التجارب التي أجروها أن إضافة خليط مستخلص من اليانسون والزنجبيل إلى الماء الذي تستهلكه الدواجن يعزز زيادة وزن الجسم، وتحقيق نسبة أفضل في عملية تحويل الغذاء وتعزيز الاستجابة المناعية مع غياب أية آثار ضارة. ونظراً لمحتواه العالي من "الفينول" و"الفلافونويد"، أظهر مستخلص اليانسون نشاطاً واعداً كعامل مضاد للأكسدة. ووفقاً لإحدى الدراسات يمكن أن تكون بعض مستخلصات اليانسون مفيدة كمضادات حيوية، ومضادات أكسدة في المستحضرات الصيدلانية الحيوية. كما تمتلك المستقلبات الطبيعية في عصيات اليانسون تأثيرات مضادة للميكروبات، والفطريات، ومضادات الأكسدة، ومضادة للالتهابات ويمكن استخدامها كـ "ميتابيوتيك" في الطب.
التأثير على الجهاز الهضمي
كشفت نتائج دراسة أجريَت عيّنة من الفئران المصابة بتقرّح في المعدة أنّ لليانسون فعالية مضادة للقرحة، ويقلّل بشكلٍ كبير من الأضرار التي تلحق بالغشاء المخاطي للمعدة الناجمة عن العوامل النخرية و"الإندوميثاسين". وفي دراسة حالة، تلقّى 25 مريضاً في برنامج رعاية المسنين، يعانون من أعراض الغثيان علاجاً بالروائح العطرية يشمل اليانسون. وأبلغ معظم المرضى الذين تلقوا علاجات العلاج العطري عن شعورهم بالتحسن.
وفي تجربةٍ سريرية عشوائية أجريَت على 20 مريضاً يعانون من الإمساك المزمن، تمّ إثبات الفعالية الملينة لمركب علاجي نباتي يحتوي على اليانسون. ويمكن أن تكون هذه المادة بديلاً آمناً لعلاج الإمساك على الرغم من عدم وجود اختلافات ملحوظة في نوعية الحياة عبر فترات البحث.
التأثيرات على مرضى السكري
تم تقييم بذور اليانسون لدى مرضى السكري من النوع 2 لخصائصها المضادة لمرض السكري، والخافضة للدهون في الدم، ومضادات الأكسدة. وتلقت مجموعة من مرضى السكري من النوع 2 مساحيق بذور اليانسون لمدة 60 يوماً. وأظهرت النتائج زيادة بنسبة 11% في نسبة السكر في الدم أثناء الصيام في مجموعة التحكّم، وانخفاض بنسبة 36% في مرضى السكري من النوع 2 الذين يتلقون علاج اليانسون. بالإضافة إلى ذلك، لوحظ انخفاض كبير في نسبة الكوليسترول في الدم، والدهون الثلاثية لدى المرضى الذين تلقوا علاج بذور اليانسون. وأظهرت المجموعة المعالجة انخفاضاً في أكسدة البروتين في مصل الدم وبيروكسيد الدهون في كريات الدم الحمراء، والبلازما بالمقارنة مع مستويات خط الأساس. وأظهرت المجموعة زيادة في مستويات الكاروتين وفيتامين أ في الدم، مما قد يؤدي إلى انخفاض ملحوظ في كمية بيروكسيد الدهون في كرات الدم الحمراء والبلازما. كما أظهرت أيضًا زيادة في فيتامين سي.
استخدامات أخرى في المجال الزراعي
لقد تمّ اختبار مستخلصات بذور وأوراق نبات اليانسون على نطاقٍ واسع ضد الحشرات المسببة للأمراض النباتية المختلفة، والتي تؤثّر على أهم المحاصيل. وكانت النتائج التي تم الحصول عليها متغيرة تبعاً للكميات المستخدمة، ونوع المستخلصات، ومسبّبات الأمراض. وقد أظهرت زيوت اليانسون الأساسية تأثيرات كبيرة ضد بعض مسببات الأمراض، البكتيرية والفيروسية، بما في ذلك تلك المقاومة للمواد الكيميائية.كما أظهرت مستخلصات زيت اليانسون قدرتها على تحسين إنتاجية الإنتاج الحيواني بزيادة الكتلة اللحمية لدى بعض الحيوانات مثل الأرانب والأبقار وزيادة إدرار الحليب من خلال تأثيرها على هرمون "الأستروجين".
التغير المناخي ونبات اليانسون
بحسب مؤلفي الدراسة الجديدة فإنّ النباتات العطرية والطبية بما في ذلك اليانسون تعد جزءاً أساسياً من الرعاية الصحية للإنسان لأنها تمثّل المصدر الأساسي للدواء لحوالي 95% من السكان في بعض الدول النامية، حيث يعيش ملايين الأشخاص كمعالجين تقليديين، أو جامعي أعشاب، أو بائعين لها. ومع ذلك، فإنّ حياة العديد من النباتات، وكذلك تركيباتها الكيميائية مهددة بسبب تغيّر المناخ، الذي يعطّل أنظمة درجات الحرارة وهطول الأمطار. ووفقاً لدراسة حديثة، فقد اختفى أكثر من 600 نوع نباتي من الكوكب خلال الـ 250 عاماً الماضية.
وبالنسبة لنبات اليانسون، لم تتضمّن جميع الدراسات التي تمّت مراجعتها أيّ جانب من جوانب تغيّر المناخ. لذلك يقترح المؤلفون دراسة تأثيرات تغير المناخ على شكل النبات والتمثيل الغذائي والوراثة، لتوضيح كيفية تفاعل هذا النبات من الناحية الفسيولوجية والمورفولوجية مع هذا التغير. وبالمثل، فإنه سيسمح بتحديد تأثير تغير المناخ على تخليق الجزيئات الحيوية. وفي النهاية، إذا أثر تغير المناخ على المجموعات البرية لهذا النوع، فسيعرف العلماء والمسؤولون كيفية ضمان الحفاظ عليها.
المصادر
– A Multidimensional Review of Pimpinella anisum and Recommendation for Future Research to Face Adverse Climatic Conditions
– https://link.springer.com/article/10.1007/s42250-023-00633-3
تواصل مع الكاتب: gharbis@gmail.com
يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة