لقد كان لمشروع رشدي راشد في تاريخ العلوم أثر كبير في تغيير النظرة والثقافة الأوروبية، وأعاد الاهتمام بالعلم العربي في المؤسسات ومراكز البحوث العالمية. ولم يكن هذا المشروع سهلاً ولا عشوائياً، بل محدَّد الوجهة والوسيلة. إنه تصميمٌ، وخطة عمل، ووسائل تنفيذية. تصميمٌ على مواجهة "عقيدة الانتماء الغربي للعلوم". وقد بُذِلت في سبيله سنوات وجهود، وخيضت لأجله معارك في الأوساط المعنية، فنال جوائزاً وتقديراً لدى الكثير من الجهات.
منظمة المجتمع العلمي العربي
لقد صيغت المناهج التعليمية في المدارس والجامعات، وردّد الإعلام، وتشكّلت العقول والأفكار والنظرة إلى الذات تبعاً لها. لقد أفهمونا أنّ هناك قمة حضارية علمية إغريقية (يونانية-أوروبية) انتهت، وبعدها ظلّ العالم في فترة تقارب الألف عام (العصور الوسطى المظلمة)، حيث لا حضارة ولا فكر ولا علم… ثم فجأة، بدأ الأوروبيون من جديد يستعيدون كتب أسلافهم وعلومهم ويطوّرونها لتنطلق النهضة الأوروبية الحديثة بعقولٍ أوروبية، هي القادرة على إنتاج العلم. أمّا دور العلماء العرب والمسلمين، فكان حِفظ الكتب اليونانية وترجمتها، ليتم نقلها مرة أخرى إلى الأوروبيين لكي يعيدوها للغة العلم (اللاتينية). ولكنهم، أي العرب، لم يضيفوا إليها شيئاً يُذكَر، فاللغة العربية غير قادرة على استيعاب العلم، وأهلها لا يحسنون إلّا الخيال والأدب والشعر، أمّا العلم فله أهله "الأوروبيون"، طبعاً. ومن أراد العلم فليتعلّمه بلغةٍ أوروبية.
هذا ما أقنعوا به أجيالاً منا، بشكلٍ مباشر أو غير مباشر.
هذه العقيدة لديهم أو ما يُطلق عليه "عقيدة الانتماء الغربي للعلوم"، وما تعنيه من حصر العلم في قمتين حضاريتين أوروبيتين، هما الحضارة اليونانية والحضارة الأوروبية الحديثة، شكّلت الفكر والثقافة الأوروبية من جهة، وأثمرت عندنا من جهةٍ أخرى ما نشاهده عياناً من إحساسٍ بالدونية تجاههم لدى الكثيرين، وانبهار بكل ما هو غربي، وما ينتج عن ذلك من تبعية فكرية وعلمية وثقافية.
لقد استخدموا سلاح الفكر ضمن خطتهم لتحطيم هذه الأمة، وتجريدها من كل مقومات النهوض وما تملكه من دواعي الاعتزاز والفخر، وهم يعملون على ذلك منذ قرون وما يزالون. وساعدهم في ذلك تقاعس أبناء هذه الأمة وحكوماتها عن رسم مشروع نهضوي حقيقي مقاوم. هذا التقاعس مدار حلقات مفرغة في نفس اتجاه التدهور العلمي الذي تتعاقب فيه التأثيرات والأسباب في تيه عبثي لا منتهى له.
إنّ التصدي للأفكار، لا يكون بالخُطَب والمشاعر، ولكن بالعلم الصارم والدليل المقنع الذي يعجز عن نفيه العلماء المتخصّصون، والذين بدورهم يعدّلون من أفكارهم وأعمالهم تبعاً لما اقتنعوا به. وهنا، تأتي أهمية مشروع رشدي راشد لتاريخ العلوم.
لقد أثبت رشدي راشد وطلابه وزملاؤه من خلال هذا المشروع أنّ الحضارة العربية الإسلامية مثلّت حلقةً عظيمة وأساسية في سلسلة المعرفة والحضارة الإنسانية، وتميزّت عن غيرها، وأنتجت نهجاً وعلماً جديداً، بإنشاء وابتكار تقليد علمي جديد، مثّل بدوره براعم الحداثة الكلاسيكية في العلم، أو ما يطلق عليه "العلم الكلاسيكي". وبيّن أيضاً أنّ العلم العربي نشأ في مناخٍ اجتماعي متميّز، شمل دور السلطة السياسية، وانفتاح الفكر لتقبّل ومناقشة الجديد، ووعياً كبيراً لاستخدم العلم في خدمة المجتمع، وقضاياه الدينية والثقافية والعملية والمعيشية. وبيّن أنه قد كانت للعلم والعلماء مكانةً متميزة واحترام كبير في المدينة الإسلامية. ثم أثبت أنه ولأول مرة في التاريخ، يصبح العلم "عالمياً" غير محدود في مكان أو دولة أو فئة، كما كان. فالعلم العربي كان عالمياً بمصادره وامتداداته والمساحة الجغرافية التي غطاها، ولغته العربية التي كانت لغة العلم طوال القرون الذهبية لهذه الحضارة العربية الإسلامية.
وقد كتب الدكتور نقولا فارس هذه الورقة البحثية كجزءٍ من حصيلةٍ أولية للثقافة العربية في القرن العشرين، وحاول تسليط الضوء على هذا المشروع وآثاره الفكرية والثقافية.
ونحن في "منظمة المجتمع العلمي العربي" نفتخر بنشر هذه الورقة التي تبيّن ملامح هذا المشروع، ونتساءل كما تساءل كاتب البحث: "استطاع إذن مشروع رشدي راشد أن يندمج كمشروعٍ وكنتائج علمية ضمن الثقافة والنظم التربوية الغربية. فهل نستطيع سوق القول نفسه فيما يتعلق بالثقافة العربية؟"
ونتمنى كما تمنى، أن يهيّئ الله إحدى الدول العربية لتبنّي هذا المشروع الحضاري، ليكون لها يداً بيضاء في نهضة هذه الأمة العظيمة، ومجابهة مشروع أعدائها.
كما أننا ندعو الباحثين العرب والمسلمين في جميع التخصصات العلمية والإنسانية أن يوجهوا بحوثهم نحو ما يخدم أمتهم، وينتمي إليها ويعزز مكانتها ويحقّق لها العزة والكرامة. وأن يبدؤوا الحياة الحقيقية عندما يخرجون من الدائرة الضيقة داخل أنفسهم إلى سعة أهدافٍ أسمى تليق بهم.
الورقة كاملة تجدونها على هذا الرابط: هنا
تواصل مع الكاتب: mmr@arsco.org
يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة