"لقد كانت طريقة لطيفة للاستيقاظ"، كما علق لاحقا على لحظة إعلامه بالفوز بالجائزة.
بحسب بيان الأكاديمية، فقد حصل الباوندي، مع لويس إي بروس، وأليكسي إكيموف على الجائزة لاكتشافهم ما يسمى "النقاط الكمومية وتطويرها". تتمتع هذه الجسيمات الصغيرة بخصائص فريدة يمكن استخدامها في عدد من المجالات مثل تطوير الأجهزة الالكترونية ومعالجة الأورام الخبيثة. ويعد الباوندي الذي يشغل خطة أستاذ للكيماء في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، أبرز رواد أبحاث النقاط الكمومية وأحد الكيميائيين الأكثر استشهادًا في العالم.
ولد منجي الباوندي، في مارس من عام 1961 في باريس، من أب تونسي هو عالم الرياضيات محمد صالح الباوندي وأم فرنسية. حصل الباوندي الأب على الإجازة في الرياضيات في نفس العام، ثم عاد بعد ذلك إلى تونس مع عائلته الصغيرة ليشتغل في التدريس قبل أن يواصل دراسته العليا في فرنسا بتشجيع من عالم الرياضيات الفرنسي الشهير لوران شفارتز، ويحصل على الدكتوراه في الرياضيات عام 1967. عين على إثر ذلك أستاذا مشاركا في الجامعية التونسية حتى عام 1970، لكنه لم يطل به المقام في بلده ليحزم حقائبه عام 1971 نحو الولايات المتحدة بعد فترة قصيرة قضاها في جامعة صوفيا انتيبوليس في مدينة نيس الفرنسية. وبعد فترة من التنقل مع عائلته بين تونس وفرنسا وجد منجي ذو العشر سنوات نفسه في "ويست لافيات" في ولاية أنديانا الأمريكية حيث تقع جامعة بيردو الشهيرة التي عين فيها أبوه حديثا.
درس الباوندي العلوم وحصل على الإجازة التطبيقية ودرجة الماجستير في الكيمياء من جامعة هارفارد عامي 1982 و1983 على التوالي، وعلى الدكتوراه في الكيمياء من جامعة شيكاغو عام 1988. ثم أكمل فترة تدريب ما بعد الدكتوراه لمدة عامين في مختبرات بيل، تحت إشراف لويس إي بروس (الذي فاز معه بجائزة نوبل)، حيث أصبح مهتمًا بالمواد النانوية. التحق معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في عام 1990 كأستاذ مساعد، وواصل إجراء الأبحاث حول المواد النانوية وخاصة النقاط الكمومية. وأدت هذه الجهود إلى تطوير التقنيات الأولى لإنتاج أول نقاط كمومية عالية الجودة والتحكم في حجم النقاط الكمومية ولون فلورتها في عام 1993. وقد سمح له هذا الأداء بتعيينه أستاذًا مشاركًا في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في عام 1995، ثم أستاذاً جامعياً في نفس المؤسسة عام 1996.
النقاط الكمومية هي جسيمات نانوية صغيرة جدًا لدرجة أن حجمها يحدد خصائصها. يتم استخدامها على نطاق واسع في شاشات التلفزيون ومصابيح LED لتوجيه الجراحين أثناء إزالة أنسجة الأورام. في الكيمياء، عادة ما يتم التحكم في خصائص المادة من خلال تركيبها الكيميائي. ولكن عندما تكون ذات أبعاد نانوية – كما هو الحال مع النقاط الكمومية – فإن حجمها يؤثر على لونها وخصائصها الأخرى.
ما إن عين الباوندي أستاذا بهذه المؤسسة العلمية العريقة حتى قام بتوسيع مجالات اهتمامه من خلال إنشاء مختبر كيمياء النانو الخاص به وبدأ في إجراء أبحاث متعددة التخصصات تهدف إلى استكشاف العلوم وتطوير تكنولوجيا البلورات النانوية المركبة كيميائيًا وغيرها من الهياكل النانوية.
وقد سمح له هذا العمل بأن يصبح مرجعًا دوليًا في كيمياء النانو خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وحصل الباوندي على العديد من الجوائز العلمية الدولية من بينها جائزة “ارناست اورلندو لورنس”، عام 2006، لمساهماته البارزة في المجالات المرتبطة بقطاع الطاقة. وأصبح في عام 2004 عضوا في الأكاديمية الأمريكية للعلوم والأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم مثل أبيه.
تونسي أم من أصول تونسية؟
مع الإعلان عن فوزه بجائزة نوبل للكيمياء ثار جدل واسع على وسائل التواصل هل الباوندي تونسي أم من أصول تونسية؟ لكونه لم يعش في تونس سوى بضع سنوات في فترة صباه كما أنه لم يكن، بصفته باحثا وعالما، نتاجا لمنظومة التعليم والبحث العلمي التونسية.
ورغم ذلك كثيرا ما اعتبره الباحثون التونسيون فردا منهم مثل الباحث حسام الدين التركي الذي نشر ورقة علمية عام 2015 وضع فيها الباوندي على رأس أهم الباحثين التونسيين المقيمين في الخارج في مجال الكيمياء وعلم المواد.
وأشاد الدكتور محمد العربي بوقرة أستاذ الكيمياء السابق وزميل والد الباوندي في كلية العلوم بتونس في أواخر ستينات القرن الماضي، بترشيح "ابن الوطن" لجائزة نوبل للكيماء في مقال نشر على موقع "ليدرز" عام 2020. في المقابل وعلى عكس والده الذي ساعد العديد من الطلبة التونسيين على الالتحاق بالجامعات الأمريكية منذ أوائل ثمانيات القرن الماضي لا يعرف إن كان لمنجي الباوندي دور مماثل في هذا الاتجاه.
الفضول مفتاح العلم
لا يُعرف الكثير عن شخصية منجي الباوندي وحياته خارج إطار البحث العلمي مما يشير إلى أنه حريص على إبقاء حياته الخاصة بعيدا عن الأضواء. لكن حواره مع لجنة إسناد جائزة نوبل للكيمياء يكشف عن شخصية رصينة وهادئة تتميز بتفكير عميق وتواضع شديد. فلم ينسى أن يذكر فضل أستاذه لويس إي بروس قائلا "لقد تعلمت منه الكثير، لقد جعلني عالمًا. أحاول محاكاة أسلوبه في التوجيه مع طلابي." هذا الأسلوب يقوم على " توجيه الطلاب، وتسمح لهم بالاستكشاف، وتقدم التغذية الراجعة، ولكن عليك تعليمهم ليصبحوا علماء من خلال التوجيه اللطيف".
وفي لقاء مباشر بث على وسائل التواصل الاجتماعي نظمه معهد ماساشوستس للتكنولوجيا بعد فوز منجي الباوندي بجائزة نوبل، ذكر العالم التونسي الأصل أنه كان معتادا على عدم الاستعداد للامتحانات، وخلال امتحانه الأول في جامعة هارفارد، قال "نظرتُ إلى السؤال الأول ولم أتمكن من الإجابة عليه. والأمر نفسه مع السؤال الثاني حاولتُ الإجابة على جميع الأسئلة، لكن في النهاية حصلتُ على درجة 20 من 100"، "وقد كانت أدنى درجة في الفصل، قلت في نفسي يا إلهي، هذه النهاية بالنسبة لي، ماذا أفعل هنا؟". وأضاف "كان يمكن أن أقرّر أن هذا (التخصص) ليس مناسباً لي، لكنني كنت أحبُّ ما أفعله، لذلك تعلمتُ النجاح كطالب".
ونصح الباوندي الطلاب بالحرص على "التفتح الذهني" والإبقاء على "الفضول" الذي يشكل "مفتاح العلم" وأكد أن "النكسات جزء من البحث، وهي جزء من الحياة". لذلك "عليكم الاستمرار في المحاولة، والقيام بما يثير اهتمامكم".
تواصل مع الكاتب: gharbis@gmail.com
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء المؤلفين وليست، بالضرورة، آراء منظمة المجتمع العلمي العربي
يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة