لا زلتُ أستشعر حالة الإحباط والحنق عندما تمّ الإعلان في عام 2019 عن الفائزين بجائزة نوبل في الكيمياء، والتي خُصّصت وقتها لتكريم العلماء الذين ساهموا في تطوير بطاريات "الليثيوم" المستخدَمة في أجهزة الجوالات.
منظمة المجتمع العلمي العربي
وبالرغم من أنّ للعالم الفرنسي الجنسية والمغربي الأصل "رشيد اليزمي" مكانة علمية وشهرة دولية كبيرة لدرجة أنه حصل في عام 2014 على جائزة علمية مشتركة بلغت قيمتها نصف مليون دولار تقاسَمها مع العالم الأمريكي "جون غوديناف" والياباني "أكيرا يوشينو" إلا أنه عند الإعلان عن جائزة نوبل في عام 2019، تم منحها فقط للعالم الأمريكي وزميلة الياباني وتم حجبها عن زميلهم الثالث الباحث المغربي رشيد اليزمي.
وفي مطلع هذا الأسبوع، تكررت القصة مرة أخرى عند الإعلان عن أسماء الفائزين بجائزة نوبل في الطب، وبالرغم من أنها مخصصة بشكلٍ حصري لتكريم الجهود الطبية المبذولة لتطوير لقاح ضد فيروس كوفيد 19، إلا أنّ أسماء الفائزين خلت من اسم عالم المناعة الألماني الجنسية والتركي الأصل "أوغور شاهين". بعد خيبة الأمل في تكريم العالم المغربي رشيد اليزمي في عام 2019، كان التعويض للأمة العربية والإسلامية في بزوغ لمعان نجم الطبيب التركي "أوغور شاهين" وزوجته الدكتورة "أوزليم توريجي" خصوصًا وأنه قد شاعت وذاعت شهرتهما في العالم كله أنهما من طوّرا لقاح شركة فايزر الأمريكية ضد الفيروس. ولهذا، لا غرابة أنه في السنوات الماضية تردّد كثيرًا احتمالية حصولهما على جائزة نوبل في الطب. وبالفعل، حصل أوغور شاهين في العالم الماضي فقط على أربع جوائز علمية وطبية مرموقة. ما يهمنا من هذه الجوائز الطبية التي نالها الدكتور شاهين في عام 2022، هي جائزة "بول إرليش" (على اسم الطبيب وعالم المناعة الألماني البارز) وهي تعدّ أهم جائزة طبية دولية في مجال علم المناعة، وقد فاز بها شاهين مع زوجته، وكذلك مع طبيبة مجرية تدعى "كاتلين كاريكو". وفي العام نفسه، فاز شاهين وزوجته بجائزة طبية أخرى مرموقة مقدمة من كلية "هارفرد للطب" وهي أشهر وأهم هيئة طبية في العالم. وجديرٌ بالذكر أن تلك الجائزة التي تبلغ نصف مليون دولار نالها شاهين بالاشتراك مع "كاتلين كاريكو" سالفة الذكر، مع الطبيب الأمريكي "درو وايزمان". بقي أن نقول إنه بالرغم من الارتباط الوثيق بين العالم التركي "أوغور شاهين" وبين الباحثة المجرية "كاتلين كاريكو" وكذلك العالم الأمريكي "درو وايزمان" بحصولهم على جوائز طبية مرموقة بشكلٍ مشترك، إلا أنه يوم الأحد الماضي عندما تم الإعلان عن أسماء الفائزين بجائزة نوبل في الطب لهذا العام، تم منحها فقط للطبيبة المجرية كاريكو، والطبيب الأمريكي وايزمان. وتمّ بشكل غريب وربما مريب حجب هذه الجائزة عن العالم التركي (الألماني الجنسية) أوغور شاهين بالرغم من شهرته في العالم كله أنه له إسهام مذكور ومشهور في تطوير تقنية (لقاحات mRNA)، ولذا كان يستحق وبكل جدارة أن يكون الشخص الثالث الذي يحصل على جائزة نوبل في الطب لعام 2023.
مشاهير ونجوم العلماء بلا جوائز
قبل حوالي سنة بالضبط أي في شهر أكتوبر من عام 2022، نشر عالم الفيزياء البريطاني "مايكل رييس" والرئيس السابق للجمعية الملكية البريطانية (وهي أقدم وأعرق جمعية علمية في التاريخ) مقالةً في مجلة "التايمز" الأمريكية حملت عنوان "المشكلة مع جوائز نوبل". وتلخّصت فكرة العالم البريطاني مايكل ريس بشكلٍ واضح وصريح: جائزة نوبل لها سمعة وصدى كبير ولكنها كذلك لها نصيبها من الانتقادات، والجدل والاستياء كما يحصل في العادة، بعد حفل توزيع جوائز الأوسكار في السينما. ولهذا وصف رييس جائزة نوبل بأنها جائزة "الأوسكار العلمية" (Scientific Oscars) بكل بريقها الإعلام، وكذلك فضائحها المثيرة للجدل.
عبر السنوات قرأتُ العديد من الكتب الخاصة عن جائزة نوبل (بعضها تميل أكثر لنقد الجائزة) وكذلك مَرّ عليّ كم كبير من المقالات أو الكتب العلمية عن حياة العلماء والتي جمعتُ من خلالها ملف خاص وضخم عن الانتقادات التي وجهت عبر السنوات لجائزة نوبل. الجميع يعلم الانتتقادات التي طالت سمعة جائزة نوبل في مجال السلام مثلًا، بعد منحها لمجرمي الصهاينة الإسرائيليين مثل مناحيم بيغن وشمعون بيريز وإسحاق رابين. وقد يكون "الجدل" المصاحِب لجائزة نوبل في السلام أقلّ وأخفت من مدى جدارة أن يحصل ستة من رؤساء ورجال السياسة الأمريكيين على جوائز نوبل للسلام بالرغم من "طغيان حكومات العم سام غير المسالم". وقل مثل ذلك للانتقادات الحادة الموجهة لجائزة نوبل في الأدب عندما تمنح مثلًا في عام 2016 جائزتها الأدبية للمغني الشعبي الأمريكي "بوب ديلان" في حين أنها حجبت عن كبار الأدباء العالميين من مثل "مارك توين" و"جيمس جويس" و"جورج أورويل" و"فرجينا وولف" و"أمبيرتو إيكو" و"باولو كويلو". في الواقع، في دنيا الأدب توجد مكانة هائلة لعمالقة الأدب الروسي من مثل "تولستوي" و"دوستويفسكي" و"تشيخوف" و"مكسيم غوركي" والغريب أن لجان جائزة نوبل لم تقتنع بجدارة هؤلاء الأدباء الكبار بنيل الجائزة التي منحت لشخصيات أدبية هامشية يكاد لا يعرفها إلّا القليل.
وكما كان من تناقضات القائمين على جائزة نوبل حجبها عن مشاهير الأدب الروسي، نجد كذلك من الأمور المثيرة للجدل في تاريخ جائزة نوبل في المجالات العلمية، أنه تمّ كذلك رفض منح الجائزة لعالم الكيمياء الروسي المعروف "ديمتري مندلييف"، صاحب الجدول الدوري للعناصر الكيميائية. لقد تمّ ترشيح مندلييف لمراتٍ عديدة للفوز بجائزة نوبل في الكيمياء. وفي الواقع، حصل عام 1906 نقاش حاد حول الأشخاص المرشحين للجائزة في مجال الكيمياء. وبالرغم من حماس بعض العلماء في أكاديمية العلوم السويدية لمنح الجائزة لمندلييف إلا أنه استقرّ رأي اللجنة على منحها لكيميائي أقل بكثير من الأهمية من مندلييف وهو الفرنسي "هنري مواسان" مكتشف عنصر الفلور. والجدير بالذكر أن مندلييف توفي بعد عدة أشهر فقط من فرصته الأخيرة لنيل جائزة نوبل، ولا يُعلَم إن كان لهذه الحادثة المؤسفة أيّ أثرٍ في إضعاف روحه المعنوية. ولا أعلم هل عندما توفي الأديب الروسي تولستوي عام 1910، كان حانقًا هو الآخر أن جائزة نوبل في الأدب في تلك السنة مُنحَت لسيدة سويدية شبة مجهولة في الأوساط الأدبية العالمية.
وبحكم أن "المصائب لا تأتي فرادى" كما يقال ففي نفس السنة التي توفي فيها مندلييف أي عام 1907، نجد أن أشهر علماء الفيزياء على الإطلاق يُتوفّى في نفس تلك السنة، دون أن يحصل هو الآخر على جائزة نوبل في الفيزياء، وهو الفيزيائي الأسكتلندي الذائع الصيت "اللورد كالفن" ذو الاثر البالغ في علم "الثيرموديناميك" والذي أُطلِق اسمه على درجة الحرارة المطلقة. وعلى ذكر علم الثيرموديناميك، لابدّ أن نشير إلى أن عالم الفيزياء الأمريكي "جوزيه جيبس" المعروف لكلّ طلاب المدارس الثانوية من خلال مفهوم طاقة جيبس الحرة (وهي خاصية فيزيائية على درجة عالية من الأهمية لأنها تجمع بين في مفهوم "الأنتروبي" أي مستوى العشوائية، ومفهوم "الإنثالبي" أي المحتوى الحراري) لم يحصل جوزية جيبس على جائزة نوبل. وكما يعرف طلاب المدارس الفيزيائي الأمريكي جيبس الذي لم يحصل على جائزة نوبل، فهُم كذلك يعرفون عالم الكيمياء الأمريكي "جيلبرت لويس" صاحب "تعريف لويس للأحماض والقواعد"، ومكتشِف الروابط التساهمية، ونظرية التكافؤ، والمشهور بما يسمى "تراكيب لويس" للتعبير عن بنية المركبات الكيميائية. ومع هذه الإنجازات العلمية المميزة توفي لويس في عام 1947، أي بعد حوالي نصف قرن من ظهور جائزة نوبل. ورغم أنه تم ترشيحه 41 مرة للفوز بالجائزة إلّا أنه لم يحظَ بها، في حين أنها مُنحت في عام 1945 لعالم فنلندي نظير أبحاثه في الكيمياء الزراعية الهادفة لتحسين أسلوب حفظ الأعلاف.
ونختم هذه الفقرة، بأنه في العقود الأخيرة وكنوعٍ من التقدير لبعض الشخصيات العلمية المؤثرة في تقدّم مسيرة العلم، أصبح بعض العلماء يعامَلون أشبه بـ"النجوم" أو "المشاهير" الذين يعرفهم الجميع، من مثل عالم الفلك الأمريكي "إديون هابل" صاحب تلسكوب الفضاء وعالم الفيزياء الإنجليزي "ستيف هوكينغ"، وكذلك سيدات العلوم المظلومات مثل عالمة الكيمياء الألمانية "ليز مايتنر" أم القنبلة الذرية، وعالمة الكيمياء البريطانية "روزاليند فرانكلين" أم الحمض النووي "DNA"، ومع إسهاماتهم التاريخية في تقدّم العلوم إلا أنهم وغيرهم كثير من أبرز العلماء والباحثين ظُلموا بعد منحهم جائزة نوبل المثيرة للجدل.
ربكة في منح الجائزة والإعلان عنها
بالإضافة للانتقادات و"الجدل" حول جوائز نوبل خصوصًا في حالة العلماء الذين لم يُمنَحوا الجائزة، تجدر الإشارة إلى أنه في بعض الحالات، حتى في الجوائز التي مُنحت بالفعل تقع بعض التناقضات الطريفة والغريبة. من ذلك مثلًا أنّ عالم الكيمياء البريطاني "وليم رامزي" ورفيقه عالم الكيمياء البريطاني "اللورد رايلي" اشتركا في اكتشاف عنصر الأرجون في عام 1884، وهو اكتشاف علمي هام لأنه يتعلّق باكتشاف الغازات الكيميائية الخاملة. ولكن هذا لا يبرر على الإطلاق منح جائزتَي نوبل مختلفتين تمامًا على نفس الاكتشاف العلمي حيث مُنح رامزي جائزة نوبل في الكيمياء لعام ،1904 وفي الوقت نفسه مُنح اللورد رايلي جائزة نوبل في الفيزياء. وفي هذا النسَق من "العبثية"، في منح جوائز نوبل، قد نفهم لماذا السيدة "ماري كوري" مُنحت جائزة نوبل في الفيزياء في عام 1903، لدراستها عن عنصر الراديوم المشع، وبعد ذلك بسنوات مُنحت جائزة نوبل للكيمياء في عام 1911 تقريبا على "نفس الاكتشاف العلمي"، الذي لا جديد فيه، لأنها لن تستطيع دراسة الظاهرة الإشعاعية لعنصر الراديوم والبولونيوم إلا إذا كانت قد اكتشفتهما في الأصل. وعلى ذِكر كيمياء المواد المشعة، كان للفيزيائي البريطاني الشهير "أرنست رذرفورد" صاحب تركيب الذرة، دورًا مهما في دراسة النشاط الإشعاعي والكشف عن جسيمات ألفا وبيتا وأشعة جاما، ورغم إعجابه المفرط بعلم الفيزياء لدرجة أنه قال: "العلم إما فيزياء وإما جمع طوابع"، إلا أنه عندما منح جائزة نوبل حصل عليها في عام 1908 في مجال الكيمياء، وليس الفيزياء!
وهذا عالم الفيزياء "ألبيرت أينشتاين" توصّل لأحد أهم الاكتشافات العلمية على مدار التاريخ وهي النظرية النسبية الخاصة (عام 1905)، والنظرية النسبية العامة التي طورها في عام 1915. ومع ذلك عندما حصل أينشتاين على جائزة نوبل في الفيزياء في عام 1921، نالها في موضوع علمي أقلّ أهمية بكثير، وهو دراسته النظرية عن ظاهرة التأثير الكهروضوئي. لا شكّ في أن التخبط في منح جائزة نوبل، أو عدم منحها يعود للتأثير البشري في القرار النهائي المتعلّق بالجائزة، فالكتب التاريخية التي خُصّصت عن جائزة نوبل تذكر تأثير رؤساء لجان جائزة نوبل في تحديد الجوائز. فمثلًا لو كان رئيس اللجنة على "حالة عداء" مع عالمٍ محدد فسوف يحاول صرف الجائزة عنه أو العكس. فمثلا بالرغم من الشهرة الطاغية في بدايات القرن العشرين لكلّ من أينشتاين وعالم الفيزياء الدنماركي "نيلز بور" (عملاق نظرية الكم) إلا أنهما حصلا على جائزة نوبل في فترةٍ متأخرة نسبيا. بينما أول شخص سويدي يحصل على جائزة نوبل في الفيزياء في عام 1912، كان شخصًا مجهولا في دنيا العلم، كما كانت أول امرأة تحصل على جائزة نوبل في الأدب هي سيدة كل مميزاتها أنها سويدية الجنسية. وسبب حصول المخترع السويدي "جوستاف دالين" على جائزة نوبل قبل أينشتاين و بور هو حالة التعاطف الإنساني معه: حصل في عام 1912 وأثناء قيام المهندس دالين بإجرائه تجارب لتصميم منظم وصمام خاص لتدفق غاز الأسيتيلين في شعلة المنارات البحرية أن حصل انفجار للغاز تسبّب في فقدان المهندس ديلين لحاسة البصر. وهنا بعد هذه الحادثة بشهور فقط منحته أكاديمية العلوم السويدية جائزة نوبل في الفيزياء في تلك السنة كنوعٍ من "التعاطف والتضامن معه".
وقبل أن ننهي هذا المقال، أود أن أقول إن أحد أفضل الأمثلة للتدليل على دور العامل البشري والمزاج النفسي في التأثير على ملابسات الإعلان عن جوائز نوبل هو ما حصل في عام 1924، عندما حُجبَت جائزة نوبل في الكيمياء، ولم تمنَح لأي أحد. وتقول المصادر التاريخية إنه قبل فترة قصيرة من الإعلان عن جائزة نوبل في الكيمياء لعام 1924، انتشرت شائعة أن الجائزة قد منحَت لعالم الكيمياء البولندي "كازيميرز فاجانز" مكتشف عنصر البروتكتينيوم (العنصر رقم 91 وآخر عنصر طبيعي قبل عنصر اليورانيوم). ولكن نظرًا لتسرّب خبر حصول فاجانز على الجائزة إلى إحدى المجلات السويدية، وبسبب "غطرسة وغرور" فاجانز بعد هذا الخبر الصحفي، هذه الملابسات العرضية مكنت أحد الأعضاء المتنفذين في لجنة جائزة نوبل من حجب الجائزة في ذلك العام وحرمان فاجانز منها.
بقي أن نقول إنه ربما يعلم الجميع أنه في يوم الأربعاء الماضي، وقبل ساعات من الإعلان الرسمي عن أسماء الفائزين بجائزة نوبل للكيمياء لعام ،2023 تسرّبت بشكلٍ غريب أسماء الفائزين وبدأت الوكالات الإخبارية في تداول ذلك الخبر النادر والغريب، لأنه تقريبا يتوافق مع مرور قرن بالتمام عن تلك الحادثة القديمة في عام 1924. وعلى خلاف "النهاية السوداوية" لحجب الجائزة عن الكيميائي السويدي فاجانز عام 1924، جاءت الأخبار الطيبة أن أسماء الفائزين التي تم تسريبها، لم تحجب عنهم الجائزة، وإلا كنا سوف نسمع خبر شؤم ومحزن لأننا كنا سوف نندب حظنا البائس ليس فقط بحجب الجائزة عن الكيميائي المغربي رشيد اليزمي والطبيب التركي أوغور شاهين، ولكن كذلك حجب الجائزة عن الفائز بها بالفعل الكيميائي التونسي الأصل منجي الباوندي الذي نفخر كلنا بما حققه من إنجاز كيميائي في مجال بالغ الأهمية وهو علم تقنية النانو.
تواصل مع الكاتب: ahalgamdy@gmail.com
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء المؤلفين وليست، بالضرورة، آراء منظمة المجتمع العلمي العربي
يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة