يومًا بعد يوم، تقوم الحواسيب باتّخاذ العديد من القرارات المرتبطة بحياتنا كبشر. وباتت أنظمة الذكاء الاصطناعي حاضرة في مجالات الأعمال والخدمات، فهي تساعد مثلًا في أتمتة المهام الإدارية، والمعاملات المالية، ويستعين بها قسم الموارد البشرية لتقييم المتقدّمين للوظائف. أمّا على صعيد الحياة الخاصة، فهي تعطي توصيات شخصية عند التسوق عبر الانترنت، وتراقب الصحة الجسدية من خلال الاستعانة بالأجهزة القابلة للارتداء، وما إلى ذلك.
منظمة المجتمع العلمي العربي
فقطاع التعليم يحاول مواجهة التحديات الجديدة، والتي تشمل أخلاقيات البحث، والانتحال التي قد يقوم بها الطلاب. وفي الوقت نفسه، يثير الذكاء الاصطناعي التوليدي اهتمام العديد من المستثمرين فمثلًا شركة "مايكروسوفت" تستحوذ على 49% من شركة "أوبن إيه آيه" المبتكرة لـ تشات جي بي تي، كما أنّ استثماراتها في الشركة قد تجاوزت الـ 13 مليار دولار أميركي.
وفي حين تتصدّر النماذج اللغوية الكبيرة التي طوّرتها أوبن أيه آي، خاصةً تشات جي بي تي، سباق الذكاء الاصطناعي حتى الآن، وذلك بفضل إطلاقها المبكر، والبنية التحتية الضخمة لمركز البيانات من مايكروسوفت الداعمة لها. إلّا أنّ جوجل تعتزم إطلاق نموذج "جيميني" خلال خريف 2023. وسيعمل على تطويره كلّ من "جوجل برين" و"ديب مايند". ولكن، هل يتم تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي هذه، بطريقةٍ قانونية وعادلة فيما يتعلّق بالبيانات الفنية والأدبية؟
لقد أعرب العديد من الفنانين علنًا عن معارضتهم الشديدة لاستخدام هذه الأدوات، التي يرون أنها تقوّض عملهم. وقد أشارت أيضًا دراسة صدرت عام 2022، والتي تضمنت مقابلات مع أصحاب المصلحة، إلى وجود تبايناتٍ بين آراء الفنانين حول إدخال هذه التقنيات، بين مؤيّد ومعارض. ومنذ نهاية العام الماضي، انتشرت مقولة أنّ الذكاء الاصطناعي بات يتفوق على الإبداعات السابقةـ ما حدا ببعض العاملين في قطاع الفنون في أوروبا بتأسيس "النقابة الأوروبية لتنظيم الذكاء الاصطناعي" وذلك بغية" المساعدة في حماية الفن والبيانات من شركات الذكاء الاصطناعي".
دعاوى قضائية
تمّ رفع العديد من الحالات، معظمها دعاوى جماعية، ضدّ الذكاء الاصطناعي التوليدي في الولايات المتحدة الأميركية وكذلك في بريطانيا. وتستهدف معظم هذه الدعاوى أدوات إنشاء مواد رسومية. على سبيل المثال، تمّ رفع دعوى قضائية ضد شركة "Stability AI" التي تقف وراء أداة "Stable Diffusion" من قبل عددٍ من المصممين في مجال الجرافيك. كما رفعت شركة "جيتي للصور" (Getty Images) قضيتين ضد الشركة نفسها، حيث أنّ بعض الصور التي تمّ إنشاؤها بواسطة "Stable Diffusion" تحتفظ بعلامة "جيتي" المائية.
إطار حقوق الطبع والنشر
في الولايات المتحدة مثلًا، تدور مناقشة حقوق الطبع النشر حول استثناء الاستخدام العادل، وبالتالي ما إذا كان استخدام المواد المحمية بحقوق الطبع والنشر لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي عادلًا أو منصفًا. ومن المرجّح أن تميل الدفة لصالح شركات الذكاء الاصطناعي. ففي قضية قضائية سابقة لـ جوجل كتب، وجدت المحكمة أنّ رقمنة الشركة غير المصرّح بها للأعمال المحمية بحقوق النشر، وعرض مقتطفات من تلك الأعمال كانت "استخدامات عادلة غير مخالفة"، وأنّ العرض العام للنص كان محدودًا، إلى جانب أنّ "الكشف لا يوفّر بديلاً كبيرًا للسوق للجوانب المحمية من النسخ الأصلية".
ماذا بعد؟
إنّ المعركة حول دور البيانات في تدريب الذكاء الاصطناعي، يمكن أن تصبح مهمة في صناعة التكنولوجيا بقدر أهمية حروب براءات الاختراع مع بداية عصر الهواتف الذكية، وفقًا لتوصيف صحيفة "فايننشال تايمز" الأميركية. ما قد يعني رفع المزيد من القضايا القضائية. وفي هذا السياق، نستذكر العديد من قضايا الملكية الفكرية التي تشمل شركات مثل آبل، وسامسونج، وغيرها. ولكن هناك أسباب وجيهة للتمييز بين معركة الملكية الفكرية حول الذكاء الاصطناعي التوليدي، فقد ركّزت نزاعات الهواتف الذكية بين الشركات على براءات الاختراع المسجّلة سلفًا. أمّا الفنانون الذين يشتكون من انتهاك أعمالهم، فهم في وضعٍ مختلفٍ تمامًا، وتعتمد ادعاءاتهم على مبادئ فضفاضة، وغير مؤكدة مثل: "ممارسة غير عادلة، أو منافسة غير عادلة" وليس على حقوق الملكية الفكرية. وبالتالي، فالتقاضي سيثير إشكاليات على مستوى الأدلّة والاثباتات قد لا يمكن التغلّب عليها.
إنّ التناقض بين المكاسب الفردية والمطالبات المتعلقة بإعادة استخدام المحتوى، من ناحية، وبين فوائد تلك الأدوات لكثير من الناس، بما فيهم الفنانين أنفسهم، من ناحيةٍ أخرى، لن يشجع المحاكم على إصدار أوامر قضائية أو تعويضات لصالح المدّعين. بل، سيعمل البعض على تأطير النزاع باعتباره قائمًا بين أصحاب الحقوق بموجب حقوق النشر التقليدية، وبين وأولئك الذين تمّ تمكينهم من خلال الأدوات التقنية الجديدة.
نعم، قد تتغيّر نتائج النزاعات القائمة بين شركات الذكاء الاصطناعي والمبدعين إذا استطاع الفنانون على تصميم نهجٍ جديد لتوثيق بياناتهم، مثل أدوات قادرة على التحقّق من نماذج التدريب، كما هو الحال مع أداة "Have I been Trained" التي تعمل على إخطار الفنانين إذا كانت أنظمة الذكاء الاصطناعي قد استعملت أعمالهم، بالإضافة إلى أنها تمنح إشعار الأنظمة بعدم الاستعانة بها في المستقبل. لكن هل فعلًا ستكون مثل هذه الأدوات قادرة على فرض وجودها في المدى المنظور، أم يجب النظر في حلولٍ أخرى مثل منح التراخيص الإلزامية لتدريب الذكاء الاصطناعي؟ لقد بدأ النقاش للتوّ حول كلّ ذلك.
تواصل مع الكاتب: m.maaz@arsco.org
نُشر حديثاً للكاتب: تطوّر الذكاء الاصطناعي: هل تفكيرنا النقدي في موقفٍ حرج؟
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء المؤلفين وليست، بالضرورة، آراء منظمة المجتمع العلمي العربي
يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة