تتميز منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بمواردها الطبيعية المتنوعة والموزّعة بشكلٍ غير متوازن بين دولها. ويتوقّع الخبراء أن تدفع الزيادة الكبيرة في عدد السكان، الذي سيصل إلى 700 مليون بحلول عام 2050، للضغط على قدرة هذه الدول في التعامل مع الطلبات المتزايدة على الماء والغذاء والطاقة وتوفير حاجات سكانها من هذه الموارد.
منظمة المجتمع العلمي العربي
وبحسب دراسة علمية جديدة قام بها باحثون من جامعة حمد بن خليفة في قطر ونشِرَت مؤخرًا في دورية (Futures) العلمية، فإنّ التعاون بين دول منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا القائم على رابطة الغذاء والمياه وأنظمة الطاقة، يمكن أن يحقّق تكاملًا بين بلدان المنطقة، ويكون له تأثير مفيد على اقتصادات هذه البلدان من خلال تحقيق وفرة في هذه الموارد وخفض الانفاق المالي في القطاعات المرتبطة بها. وطرح المؤلفون في الدراسة مقترحًا تعاونيًا بين دول منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا يمكّنها من استخدام مواردها بطريقة مستدامة ومتكاملة لتحقيق الأمن الغذائي الإقليمي.
موارد متنوعة موزّعة بشكلٍ متفاوت
بحسب المؤلفين، يمكن تقسيم دول منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إلى مجموعتين رئيسيتين: مجموعة البلدان ذات نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي المرتفع مثل مجلس التعاون الخليجي، التي تمتلك نسبة هامة من الاحتياطيات العالمية من النفط والغاز، ومجموعة الدول الأخرى ذات الدخل المتوسط أو المنخفض، وتشمل بلدان شمال إفريقيا وتركيا والأردن وسوريا واليمن.
ترتكز اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي خاصةً على صناعة المواد الهيدروكربونية التي تؤدي إلى ارتفاع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، وبالتالي تعزيز قدرتها على تلبية طلب سكانها على الغذاء، إمّا من خلال الإنتاج المحلي، أو عبر تسهيل الواردات. لكن اعتماد هذه البلدان المفرط على التجارة الخارجية لتوفير حاجياتها، إلى جانب الندرة المحلية للموارد الطبيعية، ولا سيما الموارد المائية، يزيد من ضعف أمنها الغذائي، ويقلّل من قدرتها على التكيّف في المستقبل.
وفي الوقت نفسه، فإنّ بلدان شمال إفريقيا، بالإضافة إلى تركيا والأردن وسوريا واليمن، وعلى الرغم من أدائها الضعيف نسبيًا من حيث مؤشر الأمن الغذائي، تظهر أداءً أفضل من حيث الموارد الطبيعية والقدرة على الصمود، أمام المتغيرات في سوق الغذاء العالمي. هذه البلدان، ولا سيما بلدان شمال إفريقيا، تتمتّع بمساحاتٍ واسعة من الأراضي الصالحة للأنشطة الزراعية بسبب إمكاناتها العالية في مجال الري، والتي تتجاوز 75% في تونس والمغرب على سبيل المثال. وتتيح وفرة الموارد المائية المتجددة في هذه البلدان أداءً عاليًا نسبيًا في توفير ركائز الأمن الغذائي. وتمكّن الثروة الطبيعية هذه الدول، من تحقيق الاكتفاء الذاتي في بعض المجالات، وتقلّل من حاجتها إلى الاعتماد على الواردات مما يؤدي إلى أنظمةٍ غذائية وطنية أكثر استقرارًا. ومع ذلك، لا يزال هناك نقص في السياسات الاقتصادية الراسخة لدعم الأمن الغذائي الشامل.
تفاوت توزيع الثروات يؤثّر في قدرة دول منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا على تحقيق الأمن الغذائي (الدراسة)
ووفق الباحثين، غالبًا ما تشهد منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، استغلالًا غير فعّال وغير مستدام لرأس المال الطبيعي. فوفرة الموارد "المتناثرة" جغرافيًا، مثل المياه والأراضي الصالحة للزراعة، أو الاحتياطيات الهيدروكربونية الكبيرة التي توفّر الطاقة والغطاء المالي في الأسواق الدولية، لا تضمن بالضرورة الأمن الغذائي الشامل. وتعمل هذه الوفرة "المتناثرة"، إلى جانب العديد من العوامل الداخلية والخارجية، مثل احتكار الموارد الطبيعية والمخاطر المناخية، على تعميق الفجوة القائمة بين المجموعتين المحدّدتين من دول المنطقة. وبالتالي، إطالة الطريق أمام هذه البلدان نحو تحقيق الأمن الغذائي الإقليمي الجماعي.
وتتمثل الحاجة الملحّة اليوم، في تطوير الأدوات والاستراتيجيات التي من شأنها سدّ الفجوة بين بلدان المجموعتين المذكورتين، بحيث تساهم بشكلٍ جماعي في تحقيق الأمن الغذائي الإقليمي. ولتحقيق هذا الهدف، يرى مؤلفو الدراسة أنّ التعاون الفعال بين المجموعتين أمرٌ ضروري لتعبئة الموارد الطبيعية والمالية بطريقةٍ تكاملية بهدف تحقيق المنفعة المتبادلة. ولكي يكون هذا التعاون فعالاً ومرناً، ينبغي تطوير أطرٍ جديدة لصنع القرار ترتكز على فهم عميق للعقبات التي تعترض الأمن الغذائي، وتساعد في تطوير استراتيجيات لإدارة الموارد العابرة للحدود بكفاءة، بحيث تتمكّن جميع البلدان في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من الاستفادة على قدم المساواة من الجهود التعاونية.
التعاون الإقليمي القائم على الترابط بين الطاقة والمياه والغذاء لتحقيق قدر أكبر من الأمن الغذائي
يقول الباحثون إنّ التوزّع المتنوع للموارد الطبيعية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا يوفّر فرصة للتعاون بهدف التكامل الإقليمي بين البلدان الفقيرة والبلدان الغنية بها، ممّا يمكّن من الحدّ من التوزيع غير المتناسب للثروة الناتج عن تفاوت الموارد. ففي مجال المياه على سبيل المثال، ورغم أنّ الاحتياطيات العالمية كافية لتلبية الطلب الحالي والمستقبلي، إلا أنّها موزّعة بشكلٍ غير متساو. إذ تتمتّع بعض المناطق بموارد مائية وفيرة ومتاحة، تلبّي متطلبات الحياة اليومية الأساسية، في الوقت الذي تعاني فيه مناطق أخرى من شحّ المياه، أو من عدم القدرة على الاستفادة من مواردها المائية على الرغم من وفرتها.
وسيمكّن اعتماد استراتيجية لتقاسم الموارد المائية من تخفيف المخاطر المرتبطة بعدم انتظام الوصول إلى المياه، وبالتالي خلق فائدة عادلة للجميع. ويمكن تحقيق ذلك من خلال الشبكات المشتركة التي تستخدم أحواض المياه الدولية (الأنهار والموائد المائية العميقة) بشكلٍ استراتيجي. وفي منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، تعمل المشاريع الناشئة المرتبطة بموارد المياه العابرة للحدود، على تعزيز تقاسم الثروة المائية، وإثبات الحاجة المتزايدة للتعاون عبر الحدود لاستخدام هذه المصادر بشكلٍ مستدامٍ وعادل.
ومع تزايد الطلب على الكهرباء، يمكن أن تكون شبكات الكهرباء المشتركة بمثابة حلولٍ تعاونية واعدة من شأنها التخفيف من اختلال التوازن في الموارد ودعم الوصول المستمر إلى الكهرباء داخل أسواق الطاقة المستقرة، كما يقول المؤلفون. وقد بينت هذه الشبكات فائدتها في دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية والصين في مواجهة التحديات الحالية لقطاع الطاقة. أمّا في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فيمكن أن يكون تكامل الشبكات بمثابة آلية تدعم أهداف تحول الطاقة في دول المنطقة، وتعزيز مرونتها الجماعية لمواجهة تقلّبات سوق الهيدروكربونات وتغيّر المناخ.
ويشير الباحثون إلى أنه تمت دراسة إنشاء شبكة لربط أنظمة الطاقة وشبكات المياه والاتصالات في دول مجلس التعاون الخليجي. وستمثّل في صورة تنفيذها، نموذجًا للتكامل الإقليمي الأوسع والمفيد خاصة للحفاظ على استقرار أسعار النفط في المنطقة، وحمايتها من تقلبات الأسعار العالمية.
ويؤكّد المؤلفون أنّ تحقيق الأمن في هذه القطاعات أمر بالغ الأهمية لإنتاج الغذاء الذي يتطلّب توفّر موارد الطاقة والمياه في نفس الوقت. وفي العديد من البلدان التي تكون فيها الظروف المناخية ونوعية التربة غير مناسبة للزراعة، مثل معظم بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، تصبح المصادر الخارجية للإمدادات الغذائية مهمة. وتعد التجارة الدولية للأغذية في الأساس الآلية العابرة للحدود التي تمكّن من تبادل المنتجات الغذائية بين البلدان.
وبالإضافة إلى الجوانب الاقتصادية للتجارة الدولية، يتعيّن الأخذ بالاعتبار المياه الافتراضية، وهي المياه المستخدمة لإنتاج الغذاء في بلد المنشأ. لذلك، فإنّ تجارة المواد الغذائية هي وسيلة غير مباشرة لتقاسم موارد المياه بين البلدان الغنية بهذا المورد الأساسي والبلدان التي تعاني من شحّ فيه، ممّا يتيح توفير كميات كبيرة من المياه محليًا وعالميًا. ويرى الباحثون أن أخذ المياه الافتراضية في الاعتبار أثناء إجراء المعاملات التجارية لن يخدم قطاع المياه فحسب، بل سيتيح كذلك الاستخدام الأمثل للأراضي الصالحة للزراعة المحلية، ومعالجة المفاضلة بين توفير الأراضي والمياه من جهة، وبين تحقيق الأمن الغذائي من جهةٍ أخرى، كما تقول الدراسة.
وبحسب الباحثين، فإنّ تنفيذ إطار التعاون القائم على رابطة الطاقة والمياه والغذاء يبدأ بتحديد الأنظمة ذات الاهتمام المشترك بين دول المنطقة بناءً على الحدود الجغرافية أو السياسية. وبالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، يجب أخذ هذين الجانبين في الاعتبار عند تطوير إطار عمل عابر للحدود الوطنية، بحيث يشمل مجموعة البلدان والموارد الطبيعية المتاحة.
ومع أنّ منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تشهد عدد من الصراعات وحالات عدم الاستقرار، فهي غنية بمعظم الموارد اللازمة لتحقيق الأمن في مجال الطاقة والمياه والغذاء. وستمكّن إعادة تشكيل أساليب التفاعل التقليدية بين بلدان المنطقة واعتماد تكامل الموارد فيما بينها، من تحرير العديد من البلدان من معضلة نقص الموارد وتسهيل التخصيص الفعال للموارد لدعم الأولويات الإقليمية والوطنية.
المصادر
Operationalising transboundary cooperation through game theory: An energy water food nexus approach for the Middle East and North Africa
> https://www.sciencedirect.com/science/article/pii/S0016328723001039
تواصل مع الكاتب: gharbis@gmail.com
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء المؤلفين وليست، بالضرورة، آراء منظمة المجتمع العلمي العربي
يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة