تبوّأت الفيزياء الفلكية مكانة عليّة في حياة المسلمين، فهي كانت دليلهم في الصحراء، وبوصلتهم في التخطيط للزراعة التي شكلت سبيلًا من سبل عيشهم. ولطالما كانت أداتهم التي حددت لهم مواقيت الصلاة،وبها عرفوا عدة الشهور وأيامها. لذا كان هناك إبداع وتطوير منقطع النظير في هذا المجال، ومازالت آثار هذه الإبداعات حاضرة في نهضة علم الفلك حتى يومنا هذا.
منظمة المجتمع العلمي العربي
لقد استخدم العلماء المسلمون نهجًا مغايرًا لغيرهم من المهتمين بعلم الفلك، حيث أنهم حرصوا على تطوير الآلات التي تُستخدم في الرصد الفلكي وتغيّر المناخ، ما جعلهم يحققون نتائج أفضل من سابقيهم. ولا شك أنّ هناك عدة دول أوروبية استثمرت تاريخ هذه النهضة المعرفية، من أجل تطوير مجتمعاتها وأنظمتها التعليمية، في حين أننا نعاني كدول عربية من فجوة بين الماضي والحاضر في هذا المجال الحيوي. وربما يرجع السبب للتكلفة العالية لمراكز بحوث الفضاء، أو بعض التحديات السياسية والاجتماعية. وللأسف، يتم استثمار نسبة ضئيلة من هذه المعرفة بالفعل في التعليم المدرسي والجامعات والمؤسسات الأكاديمية في العالم العربي بشكلٍ عام، وفي فلسطين بشكلٍ خاص، حيث يغيب دور المؤسسات الأكاديمية بشكلٍ كبير في هذا المجال، مما يجعل خريجي هذه العلوم ، يعانون من غياب التشجيع والتوجيه، نحو الفرص الوظيفية النوعية. ويكمن التحدي وتوفير التطوير المهني الفعّال للمعلم والطالب على حد سواء. ولمعالجة هذه الفجوة ينبغي أن يكون هناك برنامج منهجي متكامل لتدريس فيزياء الفلك والفضاء بالمدارس المتوسطة والثانوية والمساهمة في بناء موقف للتعليم بعد إنهاء المرحلة الثانوية والجامعية .
وكإجراءٍ عملي، أخذنا على عاتقنا تدشين اللبنة الأولى لبرنامج فلسطين للفيزياء الفلكية (Palestine Astrophysics Program)، والذي يسعى لتوطين هذا العلم في المؤسسات التعليمية، من أجل بناء الكوادر البشرية القادرة على صناعة التغيير، وإعادة النظر في تطوير تعلّم وتعليم العلوم والرياضيات في ضوء بحوث علم الفلك وفيزياء الفضاء وفق منحى "STEM" (هو اختصار لتعليم العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات) والتي ستساهم في تأهيل جيل قادر على إنتاج معرفة جديدة.
كشفت دراسة علمية نُشرَت عام 2016 في مجلة 1 «Early childhood education journal» أن تدريس علم الفلك للطلاب في سنٍ مبكرة، يساعد عقولهم على اكتساب العديد من المهارات العقلية والجسدية، التي من بينها الملاحظة، والتنبؤ والاستنتاج بناءً على الأسس المتوفرة، كما أنه يهيّئ الطلاب لتطوير حلول إبداعية للمشاكل المعاصرة، لذا يأتي برنامج فلسطين للفيزياء الفلكية كفرصةٍ لإذكاء شغف الطلاب بالعلوم ومنحهم فرص عمل مستقبلية وازنة.
رؤية البرنامج: توظيف فيزياء الفلك لدعم وتعزيز منحى STEM في التعليم.
الفلسفة التي تحرك البرنامج: تهدف فلسفتنا إلى تحفيز التعاون بين العلماء والمعلمين والطلاب بهدف تطوير المهارات الحياتية ومعالجة التطورات الأولية في العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات.
الأهداف والمخرجات المرجوة: تنفيذ محتوى تعليمي تشاركي متعلّق بتدريس وتعلّم الفيزياء الفلكية في إطار منحى "STEM" لبناء المهارات اللازمة للطلاب، وتحفيزهم على تغيير سلوكهم، وتمكينهم من اكتساب المعرفة والمهارات والقدرات لبناء مستقبلٍ علمي مستدام، وفق خطة تبلورت خطوطها واتضحت معالمها كما هو موضح في الجدول أدناه:
إستراتيجية تنفيذ برنامج فلسطين للفيزياء الفلكية:
– عقد اجتماعات تعليمية افتراضية لسلسلة مترابطة من مواضيع الفيزياء الفلكية لطلاب المدارس وبرامج محاكاة تفاعلي على الانترنت يحتوي على مجموعة من كل ما يحتاجه الطالب.
– التعاون وإشراك المنظمات والجهات المحلية المهتمة بعلم الفلك والفضاء.
– التعاون مع الجامعات والمؤسسات الفلسطينية ذات الصلة أثناء تنفيذ البرنامج ومساعدتها في تطوير البرامج الأكاديمية في مجال الفيزياء الفلكية وعلوم الفضاء لغرض التنمية المستدامة لبرامج العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات.
ولتحقيق هذه الاستراتيجية تم بناء سلسلة تتكون من عشر وحدات منهجية مترابطة تشمل مواد نظرية وعملية ورصديه ومهام تطبيقية.
السلسلة التعليمية تتكون من المواضيع الأتية:
• المبادئ الأساسية لعلم الفلك وتعليم العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات
• علم الفلك في الحضارة العربية والإسلامية
• الطيف الكهرومغناطيسي والتلسكوبات
• الشمس والنظام الشمسي
• الأرض وقمرها
• كواكب النظام الشمسي
• الغلاف الجوي الكوكبي والنجمي باستخدام الأرض والشمس كنموذج.
• النجوم وتطورها
• المجرات
• علم الكونيات
جميع هذه المواضيع وتطبيقاتها العملية والرصدية باللغة العربية ومناسبة للفئة العمرية وفي المستوى العلمي للطلاب. ولتنفيذ هذه المواضيع قمنا بدعوة كبار العلماء في هذا المجال من الفلسطينيين والعرب مثل العالم فاروق الباز من مصر، ليتحدث عن رحلة أبولو للقمر، والأستاذ الدكتور رائد سليمان ليتحدث عن أساسيات علم الفلك، والأستاذ الدكتور محمد الحسيني ليتحدث عن دور العلماء المسلمين في نهضة هذا العلم والأستاذ الدكتور سليم زاروبي ليتحدث عن نشأة الكون، كما تحدثَت من مصر الأستاذة الدكتورة غادة عامر عن تكنولوجيا الفضاء، ود. يوسف مولان من المغرب الذي تحدث عن التلسكوبات، وغيرهم وذلك لمساعدة الطلاب في شق طريقهم في المستقبل في مجالات علوم الفضاء وتكوين شخصية بحثية ماهرة في سن مبكرة3.
ويُظهر المخطط أدناه، إجابات لاستبيان 4 تمّ تقديمها لعينة عشوائية من 54 طالب وطالبة ممن حضروا اللقاءات الافتراضية، وساهموا في حلّ المهام العلمية، التي تم بناؤها لإذكاء التأمل الذاتي للطلاب والتقييم المستمر لتطّور البرنامج:
المخطط (1)
توطين البرنامج في المدارس حسب الخطة المعدة: العمل على إنشاء موقع الكتروني للمواضيع المذكورة أعلاه. والهدف هو تحويل لغة الخطاب الأكاديمية التي تحدث بها العلماء في المحاضرات الافتراضية، للغةٍ علمية تربوية لجميع الطلاب، وليس فقط للطلاب المشاركين في البرنامج، وذلك من خلال تشجيع المعلمين لعمل دروسٍ توضيحية تغذي المكتبة الرقمية التي ذكرناها، ومن خلالها يمكن لأيّ معلم في فلسطين أو خارجها، الاستفادة من هذا الموقع وتنفيذ محتواه لطلابه ضمن مبادرة علمية.ونحن في طريقنا لإعداد برنامج تدريبي للمعلمين الراغبين في إذكاء معارفهم بهذا التوجه المهم لجعلهم يصنعون فرقًا في تعليم وتعلّم العلوم وفق التوجهات العالمية الحديثة.
المؤتمر الطلابي الختامي للبرنامج السنوي: ويمثّل محطة مهمة للوقوف على نتاجات التعلّم لدى الطلاب ويمنحنا فرصة كيف يمكن توجيه البحوث التي يتم إنتاجها من المراصد والمراكز البحثية ورحلات الفضاء في التعليم ما قبل الجامعي لإعداد جيلٍ قادر على توظيف ما يتعلمه من أجل إنتاج معرفة جديدة.
مؤشرات نجاح البرنامج: تمثلّت في تفاعل الطلاب والمعلمين والمهتمين، وأثرى البرنامج منتديات بداخل المدارس، وتم إنشاء معارض علمية. وقد تحدث الطلاب خلال لقاء حواري عن مواضيع متنوعة أظهروا رغبتهم في الالتحاق بتخصصات في مجال علم الفلك. كما أن المخطط (1) المذكور أعلاه يوضح مدى تفاعل العينة التي تم اختيارها من الطلاب الذين تابعوا 15 حلقة علمية لخبراء عرب مترابطة ومتواصلة من البرنامج.
الخاتمة: إنّ هذا البرنامج في فلسطين يمثل واحة علمية من مواضيع متنوعة لفيزياء الفلك لمأسسة هذا النهج في التعليم ما قبل وبعد الثانوي، وتطبيق هذه الفكرة في دول عربية تمتلك إمكانيات، سينعكس ايجاباً على التطوير السنوي للبرنامج من حيث الوعاء المعرفي والجانب التنفيذي.
شكر وتقدير: أتقدم ببالغ الشكر لمعالي وزير التربية والتعليم بفلسطين أ.د مروان عورتاني لتبنّي هذه المبادرة المتمثلة ببرنامج فلسطين للفيزياء الفلكية ودعمها بشكلٍ مباشر، ولسعادة أ.د رائد سليمان من جامعة هارفارد وسميثسونيان في كامبريدج المنسق العام للبرنامج، الولايات المتحدة الأمريكية، وللزملاء من وزارة التربية والتعليم وأكاديمية فلسطين للعلوم والتكنولوجيا والجهات الشريكة.
1 https://link.springer.com/article/10.1007/s10643-015-0706-5
2 https://astropalestine.org/
3 https://www.moe.pna.ps/catogery/content/202247
4 https://forms.gle/3wTdq3Y5DtR4DdJfA
تواصل مع الكاتب: salemthu27@yahoo.com
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء المؤلفين وليست، بالضرورة آراء
يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة