وهناك ملحوظة بسيطة أن تلك الرواية المعنونة باللغة الإنجليزية "State of Fear" تترجَم للعربية إلى "حالة الخوف"، لكنها قد تترجَم أيضاً إلى "دولة الخوف"، ولعلّ هذا المعنى قد يلخّص ويبلور الهدف من تلك "المؤامرة"، من خلال بث الذعر وخلق حالة من الفوضى يمكن لمجموعة من الأشخاص أو المنظمات القفز على السلطة والسيطرة على الدول والشعوب.
طبعا لا يخفى أنّ "الحبكة الدرامية" لهذه الرواية "ضعيفة"، كما أن "الخلفية والركيزة" العلمية للرواية هذه، "مضحكة وسخيفة" فكيف يستطيع عدد محدود من علماء المناخ، إحداث تسونامي بحري هائل يُغرِق أجزاء من ولاية كاليفورنيا. وكذلك، كيف يمكن لهذا العدد القليل من العلماء، خداع بقية المجتمع العلمي المشارك في مؤتمر المناخ المذكور في الرواية.
على كلّ حال، ففي أيّ طرحٍ يدور حول "نظرية المؤامرة"، ينبغي أن لا يغيب عن البال دائما أن ركائز أي مؤامرة هي ثلاثة أشياء: "نحن، وهم، ومخطط المؤامرة الخبيثة". فمثلاً أثناء انتشار وباء فيروس كورونا، ظهرت "نظرية المؤامرة السخيفة" المسماة "المليار الذهبي" والتي تدور بأنّ "نحن we" أي عدد السبعة مليار نسمة من البشر، يجب أن يتم تصفية وإهلاك ستة مليار منا وذلك لكي ينعم "هم them" أيّ قادة حكومة العالم الخفية بالرخاء من دون مزاحمة الرعاة من البشر. أمّا "مخطّط المؤامرة الخبيثة" تلك للمليار الذهبي فلن يتم إلا من خلال النشر الواسع جداً للأمراض والأوبئة القاتلة وهذا قطعاً لن يحدث بكفاءة عالية إلا بضمان خيانة مجموع الأطباء والقطاع الصحي ومنظمة الصحة العالمية ومشاركتهم جميعا في ذلك الهدف الشرير من خلال عدم مقاومتهم لانتشار تلك الأوبئة الفتاكة.
لقد سبق في مقالٍ نشر في زمن وباء كورونا وحمل عنوان "طوبى للأطباء" أن أثنيتُ على جهود الأطباء والقطاع الصحي "الجيش الأبيض" في التصدي للأوبئة حتى وإن كان أولئك الأطباء هم أول الضحايا وخط الدفاع الأول للإنسانية. وفي السنوات الأخيرة ومع تنامي ظاهرة الاحتباس الحراري وزيادة "حرارة" النقاش والجدال حول هل هذه الظاهرة المناخية موجودة بالفعل أم هي مجرد "مؤامرة علمية" تعالت الأصوات من البعض في اتهام علماء المناخ بأنهم مشاركون في تمرير تلك المؤامرة ولهذا وجب من جانبي الذّب والمنافحة عنهم كما سبق الاحتفاء والاحتفال بالأطباء.
في الواقع من يقتنع بوجود "مؤامرة الاحتباس الحراري" يجب عليه أن يحدد ما هو الطرف الذي وصفناه بـ "هم them". ففي مؤامرة الاحتباس الحراري لا يكفي أن ينخرط علماء المناخ في هذه المؤامرة الكبرى، بل يجب حتى "يُحكَم نسج تلك المؤامرة" أن ينضوي "المجتمع العلمي الدولي" في "خطيئة حبك خيوط تلك المؤامرة". بشكلٍ مباشر وصريح أي شخص يقتنع بحقيقة وجود ما يسمى "نظرية مؤامرة" الاحتباس الحراري، فهذا يعني أن يقبل الاتهام الموجه لشريحةٍ واسعة من علماء المناخ في عددٍ كبير من البلدان والمنظمات الدولية بأنهم يشاركون بشكل أو آخر في "التزييف والتلاعب" في النتائج والقياسات العلمية للطقس بهدف إثارة الرعب (نفس فكرة رواية: حالة الخوف) في المجتمعات والشعوب والحكومات الدولية. علماً بأنّ الهدف من هذه "المؤامرة العلمية الخبيثة" حسب اعتقاد أصحاب نظرية المؤامرة ومن شايعهم هو هدف مالي اقتصادي "لابتزاز الدول بحجة تقليل التلوث" أو لأسبابٍ فكرية وأيدلوجية مثل التطرف في مفهوم المحافظة على البيئة وحماية الحياة الفطرية.
الجدير بالذكر أنّ قبول اتهام الجمع الغفير من العلماء بالمشاركة في مؤامرة الاحتباس الحراري هذا يعني ليس فقط التشكيك في أمانتهم العلمية ونزاهتهم المهنية بل يصل الأمر إلى قبول اتهامهم بالانزلاق في سلوك إجرامي إذا كان الدافع لهم للمشاركة في تلك المؤامرة لأسباب مالية كما ذكرنا.
العلم يصحح نفسه بنفسه
من الأقوال الحكيمة لفضيلة الشيخ الألباني رحمة الله: طالب الحق يكفيه دليل واحد، وصاحب الهوى لا يكفيه ألف دليل". وعليه لن أدخل في جدال عن مدى صحة نظرية الاحتباس الحراري والتغير المناخي بالرغم من أن جائزة نوبل في الكيمياء لعام 1995 كانت عن علاقة المركبات الكيميائية بالتغيرات في تركيب جو الأرض. وكذلك جائزة نوبل في الفيزياء في عام 2012، مُنحَت عن الأبحاث المتعلقة بدراسة التغير المناخي، بل أن جائزة نوبل في السلام لعام 2007، كانت من نصيب اللجنة الدولية للتغيرات المناخية. ومع أنّ هذه الأمثلة للجوائز العلمية المرموقة تشير إلى أنّ نظرية التغير المناخي في الغالب صحيحة، إلا أنني سوف أركز أكثر على قضية "المجتمع العلمي" وكيف يحصل توافق عام فيه على قبول نظرية ما، ومن هذا الإجماع تحصل الحالة التي يقال عنها: استحالة اتفاق جمع غفير من العلماء وتواطئهم على الكذب.
الإشارة السريعة في الأعلى لبعض جوائز نوبل في الكيمياء والفيزياء المرتبطة بشكلٍ أو آخر بنظرية التغير المناخي ترشدنا إلى تنوع فروع ومجالات العلم التي تساهم في أبحاث الاحتباس الحراري وأن العلماء الذين يقومون بتلك الدراسات، ليسوا فقط من المتخصصين في علم المناخ، بل القائمة تشمل في أدنى حد لها علماء الكيمياء والفيزياء والأحياء وعلماء المحيطات وهندسة الأقمار الصناعية والاستشعار عن بعد بل وحتى مجال الجغرافيا المناخية وتطبيقات الكمبيوتر في نمذجة الطقس. والمقصود أن هذا الجمع الغفير من العلماء الذي تزيد أعدادهم حرفياً عن عشرات الألوف هم الذين نطلق عليهم "المجتمع العلمي" والذي بالإذن من فرع مصطلح الحديث في العلوم الشرعية نقول إن ما يعلنه هؤلاء العلماء يعتبر "خبر متواتر" وإجماع علمي لأنه يستحيل تواطئهم كلهم على الكذب المتعمد.
من أبرز سمات العلم أنه تراكمي بطبيعته حيث يبني على ما سبق أن توصل إليه العلماء وكذلك من أسرار استمرارية نجاح العلم أن من أهم خصائصه مبدأ أن "العلم يصحّح نفسه بنفسه science is self-correcting". وهذا يقودنا إلى أن أغلب الأفكار العلمية الكبرى يتم في البداية غربلتها وتعريضها للفحص والنقد بل وحتى السخرية والاستنقاص. ومن الطرائف أن الفيلسوف الألماني "آرثر شوبنهاور" بالرغم من تشاؤمه الدائم إلا أنه كان حكيماً في ملاحظته ذات النهاية السعيدة عندما قال: "كل الحقائق تتعرض للتالي: فأولا يتم السخرية منها وثانيا يتم معارضتها بعنف ثم ثالثا يتم قبولها على أنها واضحة بذاتها ولا تحتاج إثبات". وهذا تقريبا ما حصل مع النظريات العلمية القريبة من مجال علم التغير المناخي فمثلا نظرية "العصور الجليدية" ونظرية "ثقب الأوزون" مرت في البداية بمراحل من التشكيك والنقد العنيف إلى أن وصلت إلى مرحلة التسليم التام بصحتها.
ممّا سبق ليس من المستغرب ظهور بعض الأصوات والمواقف من لفيف من العلماء ينتقدون فيها نظرية التغير المناخي والاحتباس الحراري وهذا يعني أنهم ما زالوا بعد في المراحل الأولى من "قانون شوبنهاور" السالف الذكر. بالمناسبة، ربما يذهل البعض عندما يعرف المراحل المتعددة والمتكررة التي يتم فيها فحص وتدقيق النظريات العلمية والفرضيات البحثية حيث يجب أن تُقيّم وتُحكّم من قبل خبراء قبل أن يسمح بنشرها في المجلات العلمية المُحكّمة. ثم بعد ذلك الأفكار العلمية الثورية يجب في الغالب أن يتم مناقشتها بشكلٍ مباشرٍ في اجتماعات المؤتمرات العلمية ولقاءات الندوات المتخصصة، وبعد ذلك يحصل أن تلك الأفكار العلمية الإبداعية تُقيّم بشكلٍ نهائي عن مدى جدارتها في الحصول على جائزة علمية مرموقة. وبهذه الخطوات والمراحل وعمليات التدقيق المتتالية نعلم بحق أنّ العلم بالفعل هو في حالة حركة وفعل ونشاط (science in action). بينما في المقابل بعض القلة من العلماء بقبولهم الأفكار السخيفة عن العلم حولوه من "العلم المتحرك والنشط" (science in action) إلى "العلم الخيالي الضحل" (science fiction).
وكما قد يتقبل بعض الأطباء فكرة "مؤامرة المليار الذهبي" نجد أنه حتى ألمع العلماء يمكن أن يتحدث بالسخيف من القول كما حصل قبل أيام مع عالم الفيزياء الأمريكي "جون كلوزر" الذي حصل على جائزة نوبل في الفيزياء العام الماضي. عندما يصرح عالم الفيزياء كلوزر ويقول: "إنّ في رأيي لا توجد أزمة مناخ حقيقية"، فهذا أمر لا اعتراض عليه حيث إن فرضية التغير المناخي ما زالت "نظرية" وهي لم تحسم بشكل كامل ولا مشاحة في الانتقاد والاعتراض. أما عندما يتهور ذلك العالم (أي جون كلوزر) ويهرف بالقول بأن أزمة المناخ (هي خدعة hoax من قبل النخب العالمية لإخلاء depopulate الكوكب) فهنا تبلغ الحماقة أقصى حد لها فما هو المقصود من إخلاء كوكب الأرض من سكانه هل هذا يعني أن "مؤامرة الاحتباس الحراري" سوف تقود إلى "مؤامرة المليار الذهبي". اتهام جون كلوزر "النخب العالمية" يعني بالضرورة أن النخب "العلمية والبحثية" وكذلك المجتمع العلمي مشارك بهذه المؤامرة وهو أمر يخالف الحقيقة شكلا ومضمونا كما سبق أن بيناه.
وبمختصر العبارة نقد نظرية الاحتباس الحراري مسموح وحق مشاع أما التساهل في قبول نظرية "مؤامرة الاحتباس الحراري" فهو بكل بساطة يعني أن الشخص المتقبل لتلك الفكرة لا يفهم طبيعة العلم ودور المجتمع العلمي ليس فقط في تقدم العلوم بل ضمان عدم شططها وانحرافها.
تواصل مع الكاتب: ahalgamdy@gmail.com
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء المؤلفين وليست، بالضرورة، آراء منظمة المجتمع العلمي العربي
يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة