تنتشر في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا العشرات من الواحات التقليدية التي تمثل شكلًا من أشكال تكيّف الانسان مع الظروف البيئية القاسية. وقد طوّر سكان المناطق الصحراوية وشبه الصحراوية هذه الواحات عبر القرون، لتوفير سبل عيشهم، والجمع بين المحاصيل المختلفة (نخيل التمر وأشجار الفاكهة والخضروات والأعلاف) مع تربية الماشية. ومع أهميتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، تواجه أنظمة الحراجة الزراعية هذه حاليًا العديد من التهديدات الاجتماعية والبيئية.
منظمة المجتمع العلمي العربي
في دراسة مراجعة جديدة نشرت في دورية (Agroforestry Systems) قام باحثٌ من جامعة فلورنسا بإيطاليا بتحليل نتائج أكثر من 257 ورقة علمية منشورة حول الواحات التقليدية في شمال أفريقيا خلال الفترة الممتدة بين عامي 2005 و2022 بهدف دراسة تنوّع الخدمات التي يوفّرها هذا النظام البيئي وتحديد هذه التهديدات التي يواجهها.
أهمية الواحات التقليدية
بحسب الدراسة، تمثل الواحات التقليدية أحد أكثر أنظمة الحراجة الزراعية شيوعًا وضعفًا، وهي قادرة على توفير العديد من الخدمات البيئية والاجتماعية للمجتمعات المحلية في البيئات القاحلة وشبه القاحلة. وقد نجح البشر في تطوير الأنشطة الزراعية والرعوية في ظروفٍ بيئية قاسية للغاية، والاستفادة من إمدادات المياه المحدودة من أجل توفير الغذاء والخدمات للمجتمعات المحلية في البيئات الصحراوية أو شبه الصحراوية. ويمكن للواحات المنتشرة في شمال إفريقيا والشرق الأوسط أن تقدم خصائص مختلفة فيما يتعلق بالأنواع والأصناف المزروعة، لكنها تتميز جميعها بوجود نخيل التمر، والذي يمثل غالبا مصدر العائد الرئيسي للسكان، إلى جانب أشجار الفاكهة مثل الزيتون والحمضيات والتين والرمان.
الواحات التقليدية تقوم على نظام رأسي من ثلاث طبقات (المصدر: دراسة المراجعة)
والواحات التقليدية هي أنظمة بيئية زراعية معقدة تقوم على نظام رأسي من ثلاث طبقات، تتكون الطبقة العليا من أشجار النخيل، والوسطى من أشجار الزيتون وأشجار الفاكهة الأخرى، وتستخدم الطبقة السفلية لزراعة الخضروات والأعلاف. كما توفر هذه الواحات العلف للحيوانات التي يتم تربيتها، والتي في المقابل، توفر السماد الطبيعي للحفاظ على خصوبة التربة والقوى العاملة للنقل واستخراج المياه والحرث. وتتميز هذه المنظومات البيئية بمستويات عالية من التنوع البيولوجي الزراعي، فقد تم الإبلاغ عن آلاف الأنواع المختلفة من التمور في الواحات التقليدية في شمال أفريقيا والشرق الأوسط، والتي تتفاوت في شكل الفاكهة ولونها وطعمها وفترة النضج.
تحليل الأوراق المنشورة حول الواحات التقليدية
في هذه الدراسة الجديدة قام الباحث بمراجعة 257 بحثًا منشورًا، يركّز جانب منها على الواحات التونسية (37%)، والجزائرية (23%)، والمغربية (19%)، والمصرية (17%)، ثم الليبية (4%)، بهدف تقييم التنوع البيئي الذي توفره الواحات التقليدية في شمال إفريقيا للمجتمعات المحلية، بالإضافة إلى تحديد التهديدات الرئيسية التي تؤثر على أنظمة الحراجة الزراعية هذه، من خلال مراجعة منهجية وكاملة لهذه البحوث التي نشرت بين عامي 2005 و2022.
تطور عدد الأوراق التي شملتها المراجعة حول الواحات التقليدية في شمال أفريقيا بين عامي 2005 و2022 (مصدر دراسة المراجعة)
ولاحظ المؤلف أن عدد الأوراق المنشورة كان ضئيلًا في الفترة الأولى من الدراسة (2005-2006) لكنه ارتفع تدريجيًا خاصة في السنوات الخمس الماضية، ليصل إلى 34 ورقة في عام 2021. ويعود هذا الارتفاع للاهتمام المتزايد بأنظمة الزراعة الحراجية التقليدية كأمثلةٍ على الاستدامة وتوفير الخدمات البيئية والاجتماعية، وإلى تحسن جودة الدراسات العلمية التي قوم بها الجامعات والمؤسسات البحثية في شمال إفريقيا، على مدى السنوات الخمس الماضية وزيادة فرص النشر في المجلات المفهرسة الدولية.
ويُظهِر تحليل الأوراق العلمية المنشورة، أن معظمها ركّز على دراسة واحة معينة، فيما قام بعضها بمقارنة الواحات الموجودة في بلدان مختلفة أو الممارسات التقليدية الشائعة في أكثر من دولة. واتّسمت معظم هذه البحوث بكونها قطاعية للغاية، كما يقول المؤلفون، حيث تركز على موضوع محدد للغاية. وقد مثل التنوع الجيني والتنوع البيولوجي الزراعي والتنوع البيولوجي، أكثر المواضيع تناولَا في هذه الأوراق (36%)، فيما تناولت (17%) منها الجانب الثقافي المتمثل بشكل أساسي في أنظمة المعارف التقليدية والتراث الثقافي والشعور بالمكان.
التنوع البيولوجي والجيني في الواحات التقليدية
إنّ جزءًا كبيرًا من التنوع الجيني والبيولوجي الذي تم مسحه، يتعلّق بأصناف نخيل التمر المزروعة في الواحات التقليدية. ومن المثير للاهتمام، كما يقول الباحث، ملاحظة أنه يوجد في الواحات الأقل ارتباطًا بالأسواق الدولية، عدد أكبر من الأصناف التقليدية، كما هو الحال في الواحات الليبية، حيث أكدت الدراسات أنه لا يزال هناك أكثر من 400 صنف مختلف من نخيل التمر. بينما في بلدان أخرى، مثل تونس، تحلّ أصناف التمور التجارية مثل "دقلة نور" محل الأصناف المحلية بشكلٍ تدريجي.
تعد هذه الواحات التقليدية ضرورية أيضًا للحفاظ على التنوع الجيني والتنوع البيولوجي الزراعي المرتبط بأشجار الفاكهة المزروعة فيها، وبعض أنواع المحاصيل السنوية. وتمثّل الذرة أحد أهم هذه الأنواع، والتي يبدو أنها تتكيف مع الظروف القاسية ويمكن أن تكون قد طورت مقاومة للضغوط البيئية المختلفة، ممّا يمثل موردًا مهما في سياق تغيّر المناخ. كما تساعد هذه الواحات في دعم التنوع البيولوجي البري، حيث يمكن أن يوفر الهيكل الرأسي للواحات التقليدية موائل رئيسية مختلفة لمختلف الحيوانات، بما في ذلك الطيور، والثدييات الصغيرة والفراشات.
ووفقًا لإحدى الدراسات التي تمت مراجعتها، تعدّ واحة سيوة (مصر)، على سبيل المثال، نقطة ساخنة لتنوع الأزهار، حيث اختفت الأنواع على مدار عقود، وأدخلت أنواعًا أخرى مؤخرًا، ويرجع ذلك في الغالب، إلى التغيرات التي حدثت في الأنشطة الزراعية وإلى الظروف البيئية المتقلبة. ويمكن أن يكون لبعض الديناميكيات الاجتماعية والاقتصادية تأثيرات مفاجئة على التنوع البيولوجي الزراعي وفق الباحث، منها هجرة الشباب من الواحات التقليدية التي أصبحت عاملاً يدعم الزراعة التقليدية المحلية بشكل غير مباشر: إذ تستخدم بعض الأسر تحويلات المهاجرين لتجربة محاصيل جديدة قد يكون لها وصول أفضل إلى الأسواق، لكنها في المقابل تتسبب في فقدان بعض الأنواع المزروعة والأصناف الأقل قيمة تجاريًا.
الخدمات الثقافية للواحات التقليدية
لقد أكّدت العديد من الدراسات التي تمت مراجعتها على أهمية أنظمة المعارف التقليدية والتراث الثقافي المرتبطة بالواحات التقليدية في شمال إفريقيا. فتقنيات الزراعة ثلاثية الطبقات (نخيل، أشجار مثمرة، محاصيل زراعية) يتم نقلها من جيل إلى جيل، لا سيما تلك المتعلقة بإدارة نخيل التمر، مثل التكاثر والتلقيح اليدوي وتخفيف الثمار وحصاد التمور ومعالجتها. لكن ولسوء الحظ، كما أورد المؤلفون، لم يتم العثور على أوراق تصف بالتفصيل هذه التقنيات، وقد يعود ذلك إلى وجود اختلافاتٍ كبيرة على المستوى المحلي والوطني. ولا ترتبط المعارف التقليدية المتعلقة بنخيل التمر بالممارسات الزراعية فحسب، بل كذلك بالمواد المستخرجة منها أيضًا مثل مستحضرات لقاح النخيل، أو أوراق النخيل التي تستخدم منذ عدة قرون في الطب التقليدي.
وترتبط المعارف التقليدية أيضًا بالقدرة على التكيف مع الظروف البيئية المختلفة والمتغيرة أحيانًا. وتقدم إحدى الدراسات على سبيل المثال، وصفًا دقيقًا لنظام الواحات الفريد، المسمى "الغوط"، في الجنوب الشرقي للجزائر. وهناك، يقوم المزارعون بزراعة أشجار النخيل في حفر كبيرة بين كثبان الرمال، بعمق يصل إلى 10 أمتار وبقطر يبلغ يتراوح بين 80 و200 متر، مستفيدين من طبقة المياه الجوفية السطحية، بدلاً من جلب المياه إلى النخيل من خلال نظام الري التقليدي.
لكن الاستغلال المفرط للمياه أدى إلى انخفاض مستوى المياه الجوفية في بعض المناطق. وللتكيّف مع هذا الوضع الجديد والحفاظ على أشجار النخيل، طوّر المزارعون المحليون "ممارسة مبتكرة" تسمى "نزول شجرة النخيل" والتي تتمثل في إنزال النخلة من متر إلى مترين في الأرض بحيث يمكن أن تصل الجذور إلى المياه الجوفية. الذي تم الاعتراف به منذ عام 2011 باعتباره نظامًا للتراث الزراعي ذا أهمية عالمية من قبل منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة.
ترتبط العمارة التقليدية المحلية ارتباطا وثيقا بالنظم الإيكولوجية الزراعية للواحات (المصدر فليكر)
وتشمل المعارف التقليدية أيضًا تلك المتعلقة بهندسة الواحات، حيث ترتبط العمارة التقليدية المحلية ارتباطًا وثيقًا بالنظم الإيكولوجية الزراعية للواحات. فأشجار النخيل توفّر مواد بناء لإنشاء المباني التقليدية المريحة التي تقي السكان من الظروف المناخية القاسية. ولاحظ مؤلف الدراسة أنّ هندسة الواحات التقليدية تمثّل في الوقت الحاضر تراثًا ثقافيًا مهمًا، لكنه يختفي شيئًا فشيئًا بسبب التغيرات الاجتماعية على وجه الخصوص. كما أنّ وجود العمارة التقليدية المحفوظة جيدًا يرتبط بخدماتٍ أخرى، مثل الترفيه والسياحة البيئية والمناظر الطبيعية التقليدية والقيمة الجمالية.
نقاط الضعف الرئيسية في الواحات التقليدية
يتجلّى التهديد الرئيسي للواحات التقليدية، بحسب دراسة المراجعة، في القضايا المتعلقة بالمياه مثل التصحّر والجفاف والتملح والاستغلال المفرط لمصادر المياه. ويتمثّل أحد الأسباب الرئيسية لهذه المشاكل في التخلي عن أنظمة الري التقليدية والاستخدام غير المنضبط للمضخات الآلية مع ما يترتب على ذلك من زيادة في تركيز ملح المياه الجوفية يمكن أن يتسبّب في أضرار للمحاصيل. كما أن انتشار الواحات الحديثة والأراضي المزروعة الأخرى المتاخمة للواحات التقليدية بفضل تقنيات الري الحديثة دون تخطيط، يمكن أن يؤدي إلى استغلال مفرط وتملح طبقة المياه الجوفية مثلما يحدث في جنوب تونس وواحة فجيج في المغرب.
أما التهديد الثاني، فيتعلّق بفقدان التنوع البيولوجي الزراعي، خاصةً من خلال انتشار الواحات الحديثة والزراعة الأحادية لأهم أنواع التمور التجارية، مثل "دقلة نور" في تونس. كما يرتبط أيضًا بأنواع وأصناف أشجار الفاكهة المحلية والقمح المزروعة في الواحات الصحراوية. ويمكن أن يؤثّر فقدان التنوع البيولوجي الزراعي على سبُل عيش المزارعين المحليين، لأن فقدان التنوع الجيني يعني أيضًا انخفاض القدرة على الصمود، ومقاومة الآفات والأمراض والجفاف وتغير المناخ.
وتمثّل القضايا الاجتماعية، مثل تراجع عدد السكان وفقدان المعرفة التقليدية، أيضًا، تهديدات كبيرة للواحات التقليدية خاصة في المناطق النائية، مع عواقب سلبية ليس فقط على الجزء المزروع من الواحات، ولكن كذلك على التراث المعماري فيها. ومن ناحيةٍ أخرى، شهدت الواحات المحيطة بالمدن الكبرى، تراجعًا في مساحاتها نتيجة الزحف العمراني والمباني الجديدة المبنية بأسلوب ومواد معمارية حديثة، مما أثر على المناظر الطبيعية التقليدية وقيمها الجمالية والسياحية، وكذلك نوعية حياة المجتمعات المحلية.
بالإضافة إلى ذلك، تعتبر الآفات والأمراض، مشكلة شائعة وخطيرة في الواحات التقليدية في جميع دول شمال إفريقيا الخمسة. فهي لا تؤثر على أشجار النخيل فقط، بل كذلك على المحاصيل الأخرى داخل الواحات التقليدية، مثل القمح وأشجار الفاكهة. كما تواجه الواحات التقليدية تهديدات أخرى مثل التلوث وتغير المناخ وانتشار المحاصيل المستهلكة للمياه التي تم إدخالها حديثا مثل البطيخ والتي يمكن أن تؤثر على استدامة الواحات على المدى الطويل.
وخلص مؤلف الدراسة إلى أن الواحات التقليدية في بلدان شمال إفريقيا، لا تزال قادرة على توفير العديد من الخدمات البيئية والاجتماعية والمساهمة في رفاهية المجتمعات المحلية ومعيشتهم، خاصةً وأن هذه الأنظمة تقع في بيئات قاحلة أو شبه قاحلة، حيث يجب أن تقوم الأنشطة الزراعية على الزراعة البينية والمعرفة التقليدية والري التقليدي.
لكن في المقابل، تواجه الواحات التقليدية تهديدات متعددة، ناتجة في معظمها عن التحولات الاجتماعية والاقتصادية أكثر من التغيرات البيئية. من ذلك، التخلي عن تقنيات الري التقليدية التي أدت إلى مشاكل تملح المياه والاستغلال المفرط على المدى الطويل، وانتشار الزراعة الأحادية لأنواع التمور التجارية وفقدان التنوع البيولوجي الزراعي وانخفاض القدرة على الصمود أمام الآفات والأمراض. هذا إلى جانب التهرم السكاني داخل الواحات والتخلي عن الأراضي المزروعة. ويرى الباحثون ضرورة تطوير استراتيجيات مبتكرة ومستدامة للتعامل مع التحولات الاجتماعية والاقتصادية، لتنويع مصادر دخل المزارعين المحليين وزيادة القيمة السوقية للمنتجات الزراعية المحلية.
مراجع
– Traditional oases in Northern Africa as multifunctional agroforestry systems: a systematic literature review of the provided Ecosystem Services and of the main vulnerabilities
تواصل مع الكاتب: gharbis@gmail.com
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء المؤلفين وليست، بالضرورة، آراء منظمة المجتمع العلمي العربي
يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة