لكثرة التحريف في التاريخ البشري عادةً ما يقال: "التاريخ وهمي" (History Is Delusional) أو يمكن صياغة ذلك بعبارة أوضح: التاريخ هو المكان الذي تبرز فيه الأوهام. وما أكثر أوهام وخيالات التاريخ المحرّفة وقت الأحداث الكبرى مثل الحروب العالمية. وعليه، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية يمكن تحوير وإعادة صياغة العبارة السابقة من: التاريخ هو المكان الذي تبرز فيه الأوهام إلى صياغة: "الفضاء هو المكان الذي تبرز فيه الأوهام". والدافع لهذا التحوير والتغيير أنّ ظاهرة "رصد الأطباق الطائرة" (UFOs)، أو "الالتقاء بالكائنات الفضائية" (Aliens) انتشرت بشكلٍ مفاجئٍ وغريبٍ بعد سنواتٍ قليلة من نهاية الحرب العالمية الثانية.
منظمة المجتمع العلمي العربي
في صيف عام 1947 زعم الطيار المدني الأمريكي "كينيث أرنولد" أنه شاهد تسعة أجسام طائرة تحلّق معًا في سرب، ووصفها بأن كل واحدٍ منها له شكل يشبه طبق الطعام. ومن هنا، بدأت الصحف ووسائل الإعلام تتداول تسمية "الأطباق الطائرة". هذه "الخلطة السامة" التي طبخت في تلك الأطباق، أتت عند اجتماع حالة الخوف والترقب من غزو الأعداء، مع تلاعب أهل الإعلام باقتناص الأخبار الغريبة والشيقة ومن هذا كله يظهر ويتولّد الوهم (Delusion). ومن الغرائب، أنّ زخم الاهتمام الشعبي والإعلامي والأمني بموضوع الأطباق الطائرة أو بتسمية أدق: "الأجسام الطائرة المجهولة"، بدأ في القديم واتّصل بأخبار ووقائع مرتبطة بمناطيد وبالونات التجسس أو الأرصاد الجوية. ونحن ما زلنا في زخم التوتر السياسي بين أمريكا والصين ووهج الاهتمام الإعلامي بقضية إسقاط بالون التجسس الصين فوق الأراضي الأمريكية، وما تلا ذلك من زيادة مخاوف البعض من الأجسام الطائرة وغزو الكائنات الفضائية.
ومع ذلك يجدر التنبيه إلى حادثةٍ مشابهة وقعت قبل حوالي 76 سنة. ومرة أخرى في صيف 1947، بعد أسبوعين فقط من قصة مشاهدة سرب الأطباق الطائرة سابقة الذكر. وحصلت ما تسمى "حادثة روزويل" والتي هي اختصار حادثة تحطم بالون مراقبة عسكري كان يحمل أجهزة تنصّت حساسة لأي أصوات محتملة للانفجارات النووية التجريبية التي قد يقوم بها الاتحاد السوفيتي.
وهنا، بالفعل، قد نجد أنّ التاريخ يعيد نفسه، فبعد إسقاط البالون الصيني، قالت الحكومة الصينية إنه كان مجرد منطاد علمي يستخدَم في إجراء القياسات البحثية، وأنه ليس بالون تجسس. وهذا بالضبط ما قالته الحكومة الأمريكية قبل 75 عام بأن البالون الذي سقط على أطراف مدينة روزويل بصحراء "نيو مكسيكو" كان كذلك بالونًا علميًا لإجراء قياسات الأرصاد الجوية، وليس أداة للتجسس والتنصت. والطريف في الأمر أن أمريكا وحلفاءها قبل أيام قد أثاروا موجةً من الرعب والترقب، عندما صرحوا بشكلٍ رسمي أنهم أسقطوا عددًا من الأجسام الطائرة المجهولة، وهو نفس الأمر الذي حدث مع ملابسات حادثة روزويل. فبالعودة لصيف عام 1947، نجد أنّ الحكومة الأمريكية، سبق لها وأن تسبّبت في نفس حالة الرعب والقلق والحيرة التي نشهدها الآن، لأنّها وقتذاك، وبعد سقوط البالون على ضواحي مدينة روزويل أعلن الجيش الأمريكي في مؤتمرٍ صحفي تصريحًا غريبًا ذكر فيه بأن جنود القاعدة الجوية الأمريكية قد استعادوا "طبق طائر" (flying disc) هبط في مزرعة بالقرب من روزويل!
وبلا شك ما حدث معقّد ويصعب فهمه بشكلٍ دقيق، ولكن يبدو أنّ الجيش الأمريكي ونظرًا لخطر انكشاف أبحاثه السرية جدًا عن تطوير أجهزة التنصت العلمية ضد الاتحاد السوفيتي، والتي يمكن أن تطلق في السماء عبر البالون، حاول أن يصرف أنظار الشعب الأمريكي، والجواسيس الروس وذلك من خلال استحضار الحداثة التي انتشرت قبل ذلك بأيام في الصحف فيما يتعلق بالأطباق الطائرة. وهذا ربما ما تكرر هذه الأيام، فالحكومة الأمريكية أرادت أن تتحايل على فضيحة وجود مناطيد، وبالونات تجسس صينية فوق أجوائها من خلال نشر أخبار عن إسقاط أجسام طائرة مجهولة. وفي جميع الحالات، تسبّب هذا التصريح والحديث عن وجود الأجسام الطائرة بانتشار حالة من الوهم والمغالطات حول "وجود غزو وشيك من الكائنات الفضائية".
تزامن الأوهام من أرض الزلزال إلى سماء الأطباق الطائرة
كما هو معلوم أنّ الخوف يشلّ التفكير، ويعيق الإدراك والحكم السليم. وبيئة الخوف هي أرض خصبة لظهور ونمو الأوهام. والجدير بالذكر أنه لتأمين المجتمع الأمريكي من الغزو الجوي السوفيتي حاول الجيش الأمريكي تطوير طائرات مقاتلة متطورة لحماية أجواء البلاد وأخذ يجرب هذه الطائرات في القاعدة الجوية لسلاح الطيران في صحراء نيفادا. هذه المنطقة العسكرية المحظور الاقتراب منها أصبحت تعرف في الإعلام والثقافة الشعبية الأمريكية بـ "المنطقة 51" (Area 51) والتي سوف تصبح لاحقاً كموقع وكعبارة مرادفة للغموض والكائنات الفضائية. المشكلة أنه انتشرت إشاعة تزعم أنّ بقايا البالون أو الطبق الطائر الذي سقط في منطقة روزويل بصحراء نيو مكسيكو تمّ نقله إلى مباني ومستودعات الهناجر المعدنية (Hanger Store) الموجودة في موقع المنطقة 51. ولهذا أصبح البعض يعتقد أن موقع المنطقة هو المكان الذي يتم فيه تخزين الأطباق الطائرة التي تسقط على الأرض، وكذلك يتم فيه إجراء الدراسات العلمية والتشريح الطبي "لكائنات الفضاء" التي يتم أسرها أو توجد ميتة داخل تلك الأطباق. وبحكم أن موقع المنطقة 51 أصبح مكانًا للتجريب والتدريب على الطائرات المقاتلة المطورة والغريبة الشكل مثل طائرة الشبح "F-117" وقبلها طائرات التجسس "U-2" وكذلك طائرة "A-12"، أصبح الأشخاص المهووسون بالأطباق الطائرة يتخيلون أن هذه الطائرات الجديدة وغير المألوفة هي أجسام طائرة. وهكذا عبر السنوات، أصبحت المنطقة رقم 51 هي محط الأنظار حرفيا لعشاق الأطباق الطائرة والكائنات الفضائية، لأنها بكل بساطة أصبحت مزارًا سياحيًا لمن يرغب "أن يشاهد أحد الأطباق الطائرة". كما أنّ موقع المنطقة 51 أصبح محل رصد ومراقبة دائمة من قبل أصحاب "نظرية المؤامرة" الذين يعتقدون بأن الحكومة الأمريكية تخفي عن شعبها معلومات مؤكدة عن وجود كائنات فضائية يُحتفظ بها ميتة في "هناجر المستودعات". أو أن ذلك المكان الغامض أصبح يستخدم "كـقاعدة للقاء بين البشر وبين الكائنات الفضائية"، لعقد اتفاقات بينها وبين قادة الحكومة الأمريكية الممثلين للشعوب البشرية حسب زعمهم.
إنّ خبر إسقاط بالون التجسس الصيني وكذلك إسقاط الأمريكيين لبعض الأجسام الطائرة المجهولة، تزامن مع وقوع زلزال تركيا وسوريا في الفترة الماضية، ولذا لعلنا نربط الخبرين مع بعض في سياقٍ واحد. ففي الأيام التالية لحدوث زلزال تركيا الهائل تتابعت الأخبار بشكلٍ غريب عن حدوث هزات أرضية وزلازل في عددٍ كبير من دول العالم، وقد يتوقع البعض أن هذه الأحداث مريبة. ومع ذلك ينبغي ألا نغفل عن حقيقة أن كوكب الأرض بالمجمل هو نشط جيولوجيا. فمثلًا وفق بيانات المركز الأمريكي لمعلومات الزلازل يحصل في المتوسط في اليوم الواحد حوالي 55 زلزالًا في مختلف أنحاء الأرض. طبعا، أغلبها خفيفة ولهذا في العادة لا يتم الإعلان عنها، ولكن بعد زلزال تركيا أصبح الجميع متحفزًا وقلقًا. وكالعادة في مثل أجواء الخوف هذه، يزداد الوهم. وعندما بدأت وسائل الإعلام وهيئات الرصد الجيولوجية في أغلب دول العالم تعلن بسرعة عن أي هزة أرضية، ونتيجة لكثرة أخبار الزلازل في الأسابيع الماضية بدأ البعض يتبنى ويتقبل "نظرية المؤامرة" وأنّ زلزال تركيا لم يكن طبيعيًا، وإنما بسبب سلاحٍ سري يمتلكه الأمريكيون يدعى "هارب" (HAARB) بالرغم من أنه هذا الأخير هو مشروع علمي متخصص في دراسة الفضاء وليس التأثير على جوف الأرض.
والمقصود أنّ حالة الخوف والارتباك تتسبب في نمو الوهم، وسهولة تحريف المعلومات، بل وتقبّل الأخبار الزائفة والكاذبة. فكما أصبح البشر حساسين بعد الزلزال لأي خبر أو معلومة عن وجود هزة أرضية، كذلك كانوا أثناء الحرب الباردة. و حول القاعدة الجوية في موقع منطقة 51 أصبح المهووسون بأخبار الأطباق الطائرة على درجةٍ عالية من الحساسية، والاستعداد لتقبّل وتصديق أن أيّ طائرة شكلها غريب أو حتى أي سحابة مختلفة الشكل هي عبارة عن طبقٍ طائر.
ونختم الحديث بالتنبيه مرة أخرى، أنّ حمى الاهتمام بالأطباق الطائرة بدأ تقريبًا قبل حوالي 75 سنة مع بالون الأرصاد الجوية المحلق فوق سماء مدينة روزويل، وتجدّد هذا الزخم لأخبار الكائنات الفضائية الأسبوع الماضي بعد إسقاط بالون آخر للأرصاد الجوية كان يحلق في أجواء ولاية كارولينا الجنوبية. وهذا يقودنا للحديث عن الظواهر الجوية في السماء وارتباطها الوثيق مع الوهم في رصد ومشاهدة الأطباق الطائرة. وفي الواقع توجد العديد من الظواهر الجوية النادرة والتي ينتج عنها وجود أشكالٍ أو أضواء غريبة في السماء مثل نوع من البرق يسمى أضواء العفاريت (Sprites) أو تجمع سحب يحتوي فراغًا بداخله ويسمى بـ "ثقب لكمة الغيوم" وكذلك أنواع غريبة من الغيوم مثل الغيوم المموجة وغيوم الأنابيب وكذلك الغيوم العدسية. هذا بالإضافة للأجسام المضيئة المتحركة في السماء مثل الشهب والنيازك والمذنبات والبرق الكروي وظاهرة الشمس المتعددة وأقواس قزح القمر.
ومن هذا وذاك وأعداد أخرى إضافية من الظواهر الجوية والفلكية، أُصيبت المخيلة البشرية "بالوهم والانحراف الإدراكي"، منذ فجر التاريخ عندما نظر الرجل البدائي إلى السماء وشاهد بعض تلك الظواهر الجوية وبدأ يتخيل أنه يشاهد في السماء "التنين الناري الطائر" أو أنه رصد "طائر العنقاء الضخم" أو حتى "بساط الريح الطائر"، ومن هنا ظهرت الأساطير والخرافات. وما زلنا مع حديث الهواء والسماء، ولكن نحن الآن في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي عندما ظهر لأول مرة في السماء اختراع بشري جديد هو المنطاد بينما على الأرض كانت المحركات البخارية تبدأ لأول مرة تهدر بصخب. ولهذا في ذلك الزمن، أصبح وصف شهود العيان لأجسام الطائرة المجهولة (القرن التاسع عشر) أنها تشبه المناطيد والبعض يتوهم أنها تصدر بخار مثل القطار وتتحكم فيها محركات بخارية تحرك مراوح ضخمة لولبية.
والمقصود مما سبق واضح أنّ الوهم المتعلق بالأطباق الطائرة والكائنات الفضائية يتطور عبر الزمن من التصورات حول التنين الطائر إلى الطائرات المروحية والصواريخ النارية. ثم أخيراً وصلنا إلى مركبات الكائنات الفضائية التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية بالذات لأن البعض يزعم أن الفضائيين كانوا منذ القدم "يراقبون كوكب الأرض" وعندما وصل البشر إلى القدرة على تفجير القنابل الذرية وتهديد سلامة بيئة الأرض. كان لزاماً على الفضائيين أن يتدخلوا الآن "لإيقاف تهور البشر من اللعب بالنار" وكأنهم أطفال يحتاجون للتوجيه من الكائنات الذكية التي سبقتهم بالتقنية المتطورة والحكمة في إدارة الكواكب!
تواصل مع الكاتب: ahalgamdy@gmail.com
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء المؤلفين وليست، بالضرورة، آراء منظمة المجتمع العلمي العربي
يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة