ماذا يتبادرُ إلى أذهانِكم عندما تُصادفون كلمة "عِلم" وأنتم تَقْرَؤون مقالاً أو تُشاهدون برنامجاً وثائقيا علمياً ؟ وهل تساءَلتُم يوماً ماذا تعني لفظة "عِلم"؟
ستُحاول مقالات هذه السلسلة؛ الإجابة على هذا السؤال؛ من خلال أسئلة فرعية ومحورية مُنتقاة ومُوَّجهة من قبيل:
– ما الحدودُ الفاصلة بين الثقافة والمعرفة والعلم؟
– هل العلمُ واحدٌ أم متعدد؟
– هل يكفي استهلاكُ العلوم لنكونَ عُلماء؟
– كيفَ يَنشأ المجتمع العلمي ويُبْنى؟
على أن نكون في نهاية هذه السلسلة (بحول الله تعالى)؛ قد أحطنا وبشكلٍ جليٍّ؛ واضحٍ ووافٍ بالعِلم مَفهوماً؛ أداوتٍ؛ غاياتٍ وممارسات.
منظمة المجتمع العلمي العربي
"الشّكُّ المنهجي" أو "البُرهان بالخُلْف"
كلما اقتربَ الباحثُ من "الشكِّ المنهجي"، أوشَكَ أن يَصل إلى الحقيقة، وكلما رَكَنَ إلى الموروث المعرفي واطمأنّ لهُ وبه، واستعملَهُ دون أن يُسائلَه، إلّا وابتعدَ عن الحقيقة وتاه عنها أشواطاً.
تنهار كلّ محاولات التفكير العلمي أو توليد العلوم، عندما يبني الباحث نظرياتِه وأطروحاتِه على ما تقدّم دون نقدٍ أو تحرٍّ أو غربلة. وبالتالي، يكون المُنتَجُ الجديدُ امتداداً للقديم وتكريساً له بقوالِبَ وأنماطٍ مُختلفة، إذ يظل الجوهرُ والمضمون هو نفسُه.
إنّ الباحث الحقيقي، هو ذاك الذي يطرح الأسئلة حول كل ما تمت مُراكمتُه في تخصصٍ مُعيّنٍ أو في إحدى فروعِه. ولا يُعتمَدُ من الموروثِ العلمي إلا ما هو مقطوعٌ بصحتِه وثابتٌ بالتجربة والبرهان.
لقد ظلّ المُشتغلون بالفلك منذ قديم الزمان حبيسي الممارسات التنجيمية. ورغم مقدرتِهم على التفريق بين النجوم والكواكب، ورصدِ بعض الظواهر الفلكية، إلا أنّ هذه البيانات كانت تُستخدَم للتكهّنات التنجيمية. وعلى امتدادِ قرونٍ عديدة، ظلّت الظواهر الفلكية مُجردَ وسيلة للنصب والدجل والتنجيم من طرف العرَّافين والمشعوذين والدجالين؛ في كلّ الثقافات ولدى كل الشعوب، بسبب البناء المتواصل على ما تراكمَ مِن مُعطياتٍ دون البحث والتساؤل والنبشِ حولَ وعن حقيقتِها.
فيما بعد، ظهرت محاولات لتفسير الظواهر الفلكية بأسلوبٍ أكثر علمية ومنطقية، واكبَهُ اختراع ُبعض الآلات والأدوات المهمة في حينها كـ"المِقراب" و"الأسطرلاب" وبعض المناظر والعدسات البدائية. إلّا أنّ هذه المحاولات باءت بالفشل للسبب نفسِه، وهو البناء على المعطيات والمُسلَّماتِ القديمة التي كانت خاطئة بالجُملة.
لقد فرضت الكنيسة في أوروبا في القرون الوسطى، اعتبارَ الأرضِ مركز المجموعة الشمسية، واعتبار روما مركز العالم. هذه المعطيات القبلية كانت عقبةً كَأْدَاءَ أمامَ كل باحثٍ وعالِمٍ يسعى لتجاوز هذا الموروث الخاطئ.
أحدث "كوبرنيكوس / Copernic "هزةً نوعية وثورةً شاملة في علم الفلك، بعد أن ألغى كلّ القوانين والأعراف والأفكار السائدة والخاطئة عن علم الفلك. وتحدى في ذلك الكنيسة والرهبان والمُنجمين والسياسيين. وأعلن حصيلتَهُ من العمل والبحث والدراسة التي امتدت على مدى عشرين عاماً، والتي تقول بمركزية الشمس، وإنّ كلَّ الكواكب تدورُ حولَها، وإنّ الأرض مجردَ كوكبٍ ضمن المجموعة الشمسية. مُشجعاً بذلك الباحثين والعلماء على تبنّي التفكير العلمي والانطلاق من "الشك المنهجي" للوصول إلى اليقين؛ بدلَ البناء على الجاهز والاستسلام للموروث المعرفي المشكوك فيه.
لم يكن للبشرية أن تَحلُمَ باستعمار المريخ أو إرسال روبوتات إلى كواكب المجموعة الشمسية لاستكشافِ مجاهِلِها وإقامة محطة الفضاء الدولية لتكون نقطة انطلاق نحو استكشاف الفضاء الواسع، كما لم يكن للبشرية أن تَحْلُمَ بإرسال أقمارٍ صناعية للبث التلفزي والذكاء الصناعي للتنبُّؤ بالطقس والأرصاد، وتحديد المواقع والإحداثيات الجغرافية… ولولا التغيير الكُلي والشامل الذي أحدثَهُ "كوبرنيكس" من خلال نظريته التي بناها على الشك في المعلوم والموجود للوصول للحقيقة والمنطق والصواب.
إنّ العشرين سنة التي أنفقَها "كوبرنيكس" في بحثِه عن الحقيقة، اختصرت على البشرية مئات القرون من التنجيم والدجل والخرافة والأباطيل، وأهَّلتِ الإنسان لإمكانية أن يستعمر الكواكب الأخرى مستقبلاً، واضِعاً عينه على مجراتٍ أبعدَ من مَجرتِنا بمليارات السنوات الضوئية.
وفي الختام، إنّنا مُلزمون اليوم، أكثرَ مِن أيِّ وقتٍ آخرَ بإعادة إحياء التفكير العلمي النقدي المَبني على "الشك المنهجي" في المدارس والجامعات والمراكز والمعاهد البحثية؛ وتكريسِه لدى الأساتذة والطلبة والباحثين، أملاً في تجاوز عمليات الاجترار والتكرار والنَّسْخ، وتطلُّعاً إلى الخَلْقِ والابتكار والإبداع والتجديد والتجاوز.
تواصل مع الكاتب: bachoud.houssaine@gmail.com
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء المؤلفين وليست، بالضرورة، آراء منظمة المجتمع العلمي العربي
يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة