السؤال الأهم الذي يسأله علماء الأوبئة كل يوم: هل يمكن التنبؤ بكارثةٍ صحية في المستقبل؟ أي جائحة تنتقل وتحصد ملايين الاصابات بين البشر. حقيقةً، لا يمكن التنبؤ بكارثةٍ فيروسية قادمة، فهناك متغيرات كثيرة في تلك المنظومة البيولوجية بشكلٍ شبه عشوائي يمكنها التأثير بوضوحٍ على النتائج .
كثيرة هي الأسئلة التي تلوح في الأفق: فهل سينبثق مرضٌ جديد مستقبلاً له من القدرة على الانتقال والانتشار، ما يكفي أن يكون جائحة عالمية مثلما حصل مع جائحة كوفيد 19 ليكون أكثر فتكًا؟ كيف سيحدث و متى؟ هذه الأسئلة هي التي تشغل غرفة عمليات علماء الاوبئة و الطب الوبائي بشكلٍ بديهي، لكنّ معظم توافق العلماء كان حول نقطة أن الجائحة الفيروسية القادمة ستكون ناتجة عن فيروسات ذات الحمض النووي “آر إن إي” (RNA) التي يكون العائل الخازن لها صنف من الرئيسيات (Primate) أو ربما الطيور البرية. وقد اتفق الجميع بشكلٍ شبه حاسم على أنه إذا كان ثمة جائحة تلوح في الأفق فسوف تكون عن مرض مشترك حيواني المنشأ (Zoonotic).
إنّ الأمراض الحيوانية المشتركة هي تلك الأمراض التي تصيب الحيوانات، و يمكنها في نفس الوقت تخطي حاجز النوع والانتقال إلى البشر. وتلك الامراض تشمل حوالي 65% من جميع الأمراض المعدية التي قد تصيب الإنسان، و حوالي 75% من جميع الأمراض المعدية الناشئة للإنسان. وفي هذا السياق نذكر مثالًا واضحًا على ذلك وهي الأمراض المتأتية عن فيروسات الانفلونزا: انفلونزا الطيور (H5N1) ، وانفلونزا الخنازير (H1N1).
في مايو من العام 1997، لم يكن معروفًا أنّ إنفلونزا الطيور تستطيع الانتقال للبشر حتى ظهرت أول الحالات في هونج كونج، حيث تمكّن الفيروس من الدخول بالفعل ونجح في التكاثر داخل خلايا نوع جديد من العوائل. بالتالي انتشرت لمعظم دول العالم في عصر العولمة والتسارع الزماني المكاني. وقد أظهر الفيروس أعراضًا مرضية شرسة بين البشر، كما وصلت نسبة الوفيات منها لاكثر من 60%. لكن بقيت طريقة الانتشار بين البشر لا تتمّ إلا عن طريق التعرض للطائر المصاب أو مخلّفاته. وعلى عكس إنفلونزا الخنازير التي أظهرت أعراض مرضية أقل من سابقتها، كما كانت نسبة الوفيات قليلة نسبيًا، لكنها أبدت قابلية كبيرة حول القدرة على الإنتقال من إنسانٍ مصاب لآخر سليم.
ويمكن القول إنّ القلق ينتاب نفوس العلماء الآن، من أن ينبثق لنا فيروس خليط من سلالة إنفلونزا الطيور التي لا تزال ضعيفة التأقلم مع عائلها الجديد (الإنسان)، لكنها تقتل بصورة عالية، وفيروس انفلونزا الخنازير الضعيف نسبيًا، لكنه سريع الانتشار بين البشر عن طريق الجهاز التنفسي. وقد تكون النتيحة ظهور فيروس متحوّر، له قدرة عالية على الإماتة و سهولة في الانتشار بين الناس. ومما يزيد هذا الإحتمال عدة عوامل أهمها أن الفيروسين من نوع “آر إن إي”، و أنّ الخنزير أظهر قابلية و استعداد على الإصابة بكلّ من النوعين. وهنا قد تكون الفرصة سانحة لأن يحدث إعادة تنسيق للحمض النووي (Reassortment)، ما قد ينتج فيروسًا قاتلًا. ومن العوامل التي قد تزيد من هذا الاحتمال أيضًا نجد العوامل البيئية مثل الجمع بين الخنزير و الطيور المدجنة في حظيرةٍ واحدة وهذا قد يحصل كثيرًا في المناطق الريفية. وأيضاً هناك التوسع الهائل في صناعة الدواجن و انتشارها مختلطة بين التجمعات البشرية. كل هذا و غيره يمكن أن يساهم في التعجيل من انبثاق جائحة فيروسية لانفلونزا جديدة شديدة الضراوة كمرض حيواني مشترك محتمل الظهور في المستقبل القريب.
المصادر
1- الفيض، أمراض الحيوانات المعدية و جائحة الوباء التالية بين البشر. الجزء الثاني تأليف ديفيد كوامن
ترجمة د / مصطفى ابراهيم فهمي. صادر عن سلسلة عالم المعرفة تصدر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب – الكويت، سبتمبر 2014.
2- المناعمة، رؤوف (2015). ميكروبات صنعت لها مكاناً في التاريخ. منظمة المجتمع العلمي العربي.
متاح في: https://arsco.org/articles/article-detail-505-3-0
تواصل مع الكاتب: sayed.mo333333@gmail.com
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء المؤلفين وليست، بالضرورة، آراء منظمة المجتمع العلمي العربي
يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة