خلال الأسبوع الماضي وبعد تنصيب ولي العهد البريطاني كوريث العرش الملكي وتغيير اسمه الرسمي من الأمير تشارلز (أمير ويلز) إلى اسمه الملكي (تشارلز الثالث) استرجع العديد بكثافةٍ خبر سلفه الأقدم الملك (تشارلز الأول)، ربما بسبب كونه ليس فقط أول ملك بريطاني يخسر الحكم (بأن يملك ولا يحكم) ولكن أيضًا لأنه في واقع الأمر تمّ الانقلاب عليه وإعدامه بتهمة الخيانة. بينما كنت أودّ شخصيًا أن يتم الربط بين الملك الجديد (تشارلز الثالث) وسلفه الأقرب (تشارلز الثاني)، تلك الشخصية ذات الأهمية السياسية والأثر الكبير في نهضة العلوم، والذي لطالما مرّ عليّ اسمه وأخباره في العديد من كتب تاريخ العلوم، بل وحتى في مواضع غير متوقعة مثل كتاب (الحب في التاريخ) للكاتب المصري سلامة موسى.
أول لحظات اللقاء والتعرّف من جهتي على الملك تشارلز الثاني كان قبل حوالي خمس وعشرين سنة من خلال المجلة الثقافية والإخبارية للجمعية الكيميائية البريطانية، وبحكم تخصّصي العلمي في مجال الكيمياء طربت عندما علمت لاحقًا أن الكاتب السوري محي الدين اللاذقاني ربط في مقالٍ منشور في جريدة الشرق الأوسط بين الملك تشارلز الثاني وبين شيخ الكيميائيين العرب خالد بن يزيد بن معاوية.
كما هو معلوم، تولّى خالد بن يزيد منصب (ولي العهد) للخليفة الأموي معاوية بن يزيد، ولكن نظرًا للخطر الداهم على البيت الأموي بسبب الطموح السياسي لعبد الله بن الزبير والذي سيطر على أغلب الأقاليم الإسلامية الكبرى غير الشام، اضطرّ بنو أمية أن يزيحوا خالد بن يزيد عن سدّة الحكم بعد تنازل الخليفة معاوية بن يزيد، وأن يسندوا منصب الخلافة إلى مروان بن الحكم. وبعد ضياع المُلك من يد خالد بن يزيد نجده يغادر دمشق إلى مدينة حمص. وكوسيلةٍ للسلوان عن ضياع الحكم ولكي يشغل نفسه، تشير كتب التاريخ أنه اتجه إلى ترجمة ودراسة كتب الخيمياء القديمة، وقد أشار الجاحظ في كتاب التبيان والتبيين إلى أن خالد بن يزيد كان أول من ترجم كتب النجوم والطب والخيمياء.
وهنا تبدأ معالم وصور التشابه بين الأمير وولي العهد الأموي خالد بن يزيد، وبين الأمير وولي العهد الإنجليزي تشارلز الثاني في التشكّل، حيث نجد أنه خلال الحرب الأهلية الإنجليزية التي اندلعت في القرن السابع عشر الميلادي يتم خلع والده الملك تشارلز الأول من الحكم وإعدامه على يد الثائر أوليفر كرومويل، وبهذا يفقد تشارلز الثاني العرش الإنجليزي كما فقد خالد بن يزيد الخلافة. وكما غادر الأمير خالد دمشق إلى مدينة حمص نجد أن الأمير الشاب تشارلز يفرّ بحياته ويهاجر من لندن إلى مدينة باريس ليعيش في المنفى لمدة أربعة عشر عاماً، ويتنقل خلالها بين فرنسا وهولندا وإسبانيا. ما يهمنا هنا أنه أثناء إقامته في مدينتي باريس الفرنسية ولاهاي الهولندية (وكما حصل مع خالد بن يزيد وكوسيلة للسلوان عن ضياع المُلك) أخذ تشارلز الثاني هو الآخر يشغل نفسه بدراسة الخيمياء وإجراء التجارب الخيميائية الهادفة لتحويل النحاس إلى ذهب.
يُشتهر عن الملك تشارلز الثاني أنه يحمل لقب الملك السعيد وذلك لطبيعة المرح والحيوية في حياته وكذلك يمكن أن نطلق عليه لقب (ملك العلماء وعالم الملوك) فقد ارتبط بشكلٍ وثيقٍ في جميع مراحل حياته بالعلم والعلماء والمؤسسات العلمية والبحثية. وبالإضافة لشغفه بإجراء التجارب الخيميائية في سنوات المنفى، كان كذلك حتى بعد توليه الحكم والإقامة في قصر بكنغهام، واستمرّ في هذه الهواية العلمية لدرجة أنه أنشأ مختبرًا علميًا في القصر الملكي، ووظّف فيه بعض العلماء لكي يساعدوه في إجراء التجارب الكيميائية العابثة أو الصيدلانية الهادفة والتي كان منها محاولة استخلاص دواء الكينين من لحاء شجرة الكينا. وبسبب انغماس ذلك الملك في التجارب الكيميائية توجد بعض التكهنات أنه من خلال أعراض المرض التي أصابته قبل وفاته، من المحتمل أن يكون ذلك عائد لتسمّمه بعنصر الزئبق المنتشر بكثرة استخدامه في التجارب الخيميائية في ذلك الزمن.
وبالإضافة لارتباط الملك تشارلز الثاني بعلم الكيمياء، نجده كذلك قد درس الرياضيات على يد الفيلسوف والمفكر البريطاني هوبس، بينما كان على معرفة بالطبيب الإنجليزي المعروف وليم هارفي مكتشف الدورة الدموية والذي كان الطبيب الخاص لوالده. هذا وقد صرح الملك كذلك برغبته في زيارة مختبر عالم الكيمياء الإنجليزي روبرت بويل الذي يعرفه جميع طلاب العلوم في المدارس لأنه صاحب (قانون بويل). ومن مشاهير العلماء الذين كانوا من رعايا الملك تشارلز الثاني نذكر إسحاق نيوتن، وروبرت هوك، والمعماري كريستوفر ورين.
وبسبب العلاقة الوثيقة والمتشعبة بين الملك تشارلز الثاني والعلم والعلماء، ليس بمستغربٍ أنه أصبح أحد أشهر (الرعاة) للعلوم في التاريخ. إذ بعد عودته من المنفى وخلال سنةٍ واحدة فقط من توليه زمام الحكم في بريطانيا، قام بقبول عريضة الالتماس التي تقدم بها عدد من كبار العلماء بأن يكون هو مؤسس وراعي المؤسسة العلمية المسماة (الجمعية الملكية Royal Society) والتي هي من أقدم الجمعيات العلمية وأكثرها عراقة وتأثيراً في تطور العلوم.
سبق وأن أشرتُ في مطلع هذا المقال إلى أنّ أخبار وذكر الملك تشارلز الثاني مرّت بي عبر السنين في مصادر كثيرة وأحيانًا في مواضع غير متوقعة، ومن ذلك أنّ في رواية الأديب الفرنسي الشهير بلزاك (امرأة في الثلاثين)، نجد فيها وصفًا للشخصية الرئيسية في الرواية بأنه شاب بريطاني يدعى أرتو أرموند وهو من أصول نبيلة ويدرس علم الحيوان والطب في فرنسا. ثم يأتي في تلك الرواية الإشارة الصريحة للملك تشارلز الثاني "… وقد تملّكه شغفٌ بهذه العلوم رغم أنه على ذلك المركز الكبير من الحسب والنسب وهذا ليس بمستغربٍ كثيرًا على هذه الأوساط، فهذا ولي العهد اشتغل في علم الكيمياء وبرع به".
وبعد هذه السردية المطوّلة عن الجوانب العلمية في حياة الملك تشارلز الثاني نأتي للنصيحة التي يمكن أن يقدمها هذا الملك العالم و(الخيميائي) لحفيده المعاصر الملك تشارلز الثالث، وتتمحور تلك النصيحة الذهبية في ضرورة التفات الحاكم وأصحاب السلطة العليا للقضايا العلمية والتقنية وبسْط عباءة ومظلة الرعاية والعناية برجال العلم والعلماء.
للأسف، فيما يتعلّق بالموقف من العلم والعلماء يوجد اختلاف شبه ملموسٍ بين الجد والحفيد (تشارلز الثاني وتشارلز الثالث) ففي حين كان الجد القديم متفتح للعلم وللأفكار العلمية الجديدة نجد أنّ الحفيد الملك تشارلز الثالث له طريقة تفكير (محافظة ومتشككة) حول القضايا العلمية. وكما تعرفْت أنا خلال العقود الزمنية الماضية من خلال الكتب على الجوانب العلمية الفريدة في حياة الجد تشارلز الثاني تابعتُ بالتزامن خلال تلك العقود العديد من الضجيج الإعلامي البريطاني والدولي حيال مواقف الحفيد تشارلز الثالث من بعض القضايا العلمية. ومن ذلك مثلًا أنه ومنذ بداية الحديث عن النهضة العلمية الجديدة المسماة (تقنية النانو) نجد الأمير/الملك تشارلز الثالث يحذّر في عام 2004 من المخاطر (المحتملة) لهذه التقنية ويقدم نصيحة لعامة الشعب أنه من الأفضل أن يتجنّبوها، حتى حين استخدام منتجات هذه التقنية الجديدة. هذا الموقف المتشكّك من تقنية النانو هو في الواقع تكرار لما حصل قبل ذلك بعشر سنوات أي في بداية التسعينيات من القرن العشرين عندما حذر الأمير تشارلز من المخاطر (المحتملة) ليس من تقنية النانو التي لم تظهر بعد، ولكن من (التقنية الحيوية) وخصوصا في مجال الهندسة الوراثية والأغذية المعدلة وراثيًا.
في الواقع يجب أن نعترف أنّ للملك تشارلز الثالث اعتناء فائق ومشكور بالقضايا البيئية، ولكن في المقابل فإنّ طريقة تفكيره المحافِظة والمتشككة في القضايا العلمية حرفته لكي يصبح في خانة من لديهم رهاب وفوبيا من الأثر السيء للعلم على البيئة وصحة البشر، ولهذا كان يدعم اتجاهات الزراعة العضوية وطرق المعالجة بالطب البديل. غنيٌّ عن القول، أن مثل هذه المواقف والضجة الإعلامية التي كانت تصحبها جعلت العديد من العلماء والباحثين يصرحون بمعارضتهم الشديدة للأفكار التي يطرحها الأمير تشارلز والبعض منهم كتب مقالات أو أرسل (رسائل مفتوحة) ناقدة بل وحتى جارحة في حق الأمير.
التسامح الديني سلوك متوارث من تشارلز الثاني إلى تشارلز الثالث
في حين يوجد اختلافٌ واضح فيما يتعلّق بالانفتاح الذهني وموقف القبول للمستجدات العلمية والمخترعات التقنية بين السلف (تشارلز الثاني) والخلف (تشارلز الثالث) نجد أن بينهما توافق عجيب، وتجانس كامل في التسامح والقبول بالآخر المخالف، بل والإعجاب به. ففي زمن الملك تشارلز الثاني كان يوجد انشقاق مجتمعي حاد بين الغالبية البروتستنتية من الشعب البريطاني وبين الأقلية المضطهدة من الكاثوليك. في بداية الأمر، وحتى يسهّل الملك تشارلز الثاني عودة لعرش السلطة، وعد حلفاءه من الفرنسيين أن يعتنقوا الكاثوليكية، ولكنه لم يفعل ذلك وإن كان له تعاطف عميق وصادق مع أتباع المذهب الكاثوليكي من رعيته. في الواقع لا يحتاج تشارلز الثاني أن يسدي النصيحة لحفيده تشارلز الثالث بضرورة اتّباع سياسية التسامح الديني وحماية حرية العقيدة لجميع الأديان والطوائف فمنذ عقود طويلة والأمير تشارلز تشهد مواقفه بالذات مع الإسلام أنه بالفعل متشرب لهذا الموقف المتفتح والمتقبل للجميع. صحيحٌ أن الملك الجديد أقسم قبل عدة أيام وعند مراسم تتويجه (أقسم بالدفاع وحماية المسيحية البروتستنتية) ولكن في الغالب هذا إعلان شكلي ولا يشترط منه أن يدخل الملك الجديد في حالة عداء مع الطوائف والأديان الأخرى.
من الأمور الشائعة والذائعة الانتشار احترام واعجاب الأمير تشارلز بالإسلام كديانة وبالحضارة الإسلامية كموروثٍ إنساني ثري وراقي، بل اشتهر عن هذا الأمير/الملك دفاعه المتكرر عن الإسلام ومعاداته لتيارات الإسلاموفوبيا. ومن المشتهر داخل بريطانيا دعمه للجالية الإسلامية ومشاركته لها في العديد من المناسبات في مسجد لندن المركزي، ولا زالت تتداعى أصداء زيارته لمركز الدراسات الإسلامية في جامعة أكسفورد والمحاضرة الشهيرة التي دافع فيها عن الإسلام كدين وحضارة وثنائه على تعاليم الإسلام فيما يتعلق بقضايا البيئة وتحذير قومه من تجاهل الدرس الذي يقدمه الإسلام. وربما يطول بنا المقام لو ذهبنا نستقصي شواهد إعجاب الأمير/الملك تشارلز بالحضارة الإسلامية وفن العمارة الإسلامية وجماليات اللغة العربية التي يقال إنه حاول أن يتعلمها، وحرصه أكثر من مرة على زيارة الجامع الأزهر في القاهرة واللقاء والحوار مع شيخ الأزهر.
ونختم على عجل أنّ النصائح والإرشادات والوصايا التي يمكن أن يقدمها تشارلز الثاني لتشارلز الثالث متعددة ومتنوعة وليس أقلها في فن إدارة الأزمات. فإذا كانت بريطانيا الحالية تعاني من آثار جائحة الكورونا ونقص طاقة الوقود، ففي زمن تشارلز الثاني مرّت بالأمة الإنجليزية كوارث طبيعية أخطر بكثير مثل وباء الطاعون القاتل عام 1665م وبعد ذلك بسنة واحدة الكارثة العظمى: حريق لندن الكبير.
تواصل مع الكاتب: ahalgamdy@gmail.com
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء المؤلفين وليست، بالضرورة، آراء منظمة المجتمع العلمي العربي
يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة