"نحن والعلم" هو كتاب للعالم المصري الكبير علي مصطفى مشرفّة، يوضح فيه ما المقصود بالعلم، وما التأليف العلمي، وما أهميته بالنسبة إلينا؛ حيث يرى مشرفّة أننا في حاجة إلى كتب عربية في كل حقل من الحقول العلمية، ويرى أننا إذا لم نهتم بنقل العلوم وإنتاجها فإننا سنبقى عالة على غيرنا من الأمم، ويضرب أمثلة بنقل العرب لعلوم وفلسفات الإغريق، ونقل الأوربيين للعلوم عن العرب. كما يتطرق مشرفة إلى بيان العلاقة بين العلم والمجتمع، وأثر كل منهما على الآخر. ويبين لنا أيضًا كيف تتم عملية البحث العلمي وكيف يمكن تنظيمها.
محتوى الكتاب
مقدمة؛ التأليف العلمي والثقافة العلمية وما يجب نحوهما؛ توجيه الرأي العام توجيهًا علميًّا؛ العلم في خدمة المجتمع؛ البحث العلمي وتنظيمه؛ كيف يوجه العلم والعلماء لتحقيق تعاون عالمي؟
وللفائدة، سوف نقوم بنشر فصول الكتاب تباعاً، وإليكم الفصل السادس، والأخير منه:
كيف يوجه العلم والعلماء لتحقيق تعاون عالمي؟
لا نكون قد وفينا العلم حقه إذا ما اقتصرنا على الدفاع منه في أنه المسئول عما يجري في العلم اليوم من خراب ودمار، بتبيان ما يُحقَّق للمجتمع من خير وعمران ومن أنه ليس المسئول عن سوء استعمال مستحدثاته ومخترعاته … ذلك لأنه في وسعه أيضًا وفي وسع العلماء أن يضيفوا إلى هذا الخير وهذا العمران اللذين يقدمونهما لكل مجتمع، في وسعه ووسعهم أن يحققوا تعاونًا وتضامنًا بين العالم أجمع.
ولن أخوض في أمر التعاون بين الأمم من ناحية إمكانيته أو استحالته، وإنما أفترض افتراضًا أن النية قد عُقدت على هذا التعاون … فكيف يساهم فيه العلم والعلماء … وكيف يوجه ويوجهون لتحقيقه؟!
إن التعاون العالمي بين العلماء قائم منذ سنين؛ فالعلماء في مشارق الأرض ومغاربها يكونون أسرة واحدة تربطهم روابط لا انفصام لها. فالعالِم الأمريكي في معمله يُتم بحثًا وينشره في مجلة أمريكية باللغة الإنجليزية، وبعد مدة وجيزة تكون هذه المجلة في أيدي علماء أوربا وآسيا وأفريقيا وأستراليا. فإذًا هم متكاتفون على دراسة هذا البحث، ثم هم بعد ذلك معقبون عليه أو ممحصون له، وقد يحدث أن يثير هذا البحث اهتمام عالِم في آسيا فيقوم بتجربة متممة لتجربة العالِم الأمريكي وينشر نتائجها في مجلة يابانية بلغة أخرى كاللغة الألمانية، ثم يتلقف الفكرة بعد ذلك عالِم نرويجي ينشر بحثه باللغة السويدية … وهكذا. بل إن الذي يحدث في كثير من الأحايين هو أن يشتغل العلماء في قارات البسيطة المختلفة في بحث مسألة واحدة، فتتكون فِرَق من العلماء في فروع العلم تجمعهم الرابطة العلمية وإن تفرقوا على سطح المعمورة.
هذا التعاون العلمي قائم بين العلماء منذ سنين، وقد نشأ عن تنظيمه والعناية به في أواخر القرن الحالي ازديادٌ عظيم في تقدم العلم ووفرة في الإنتاج العالمي. وعدا تبادل المجلات العلمية بين الأمم المختلفة توجد وسائل أخرى لتحقيق تعاون العلماء: كعقد المؤتمرات، وتبادل الأساتذة بين الجامعات، وإرسال البعثات العلمية، وانتخاب أعضاء أجانب ومراسلين في المجامع العلمية وغير ذلك من وسائل التعاضد والتساند. وقد نشأ عن هذا كله أن صار العلماء في مشارق الأرض ومغاربها ينظرون إلى أنفسهم كأسرة واحدة يُعين كبيرُها صغيرَها ويعطف عليه، ويجل صغيرُها كبيرَها ويسترشد به، وللجميع غاية مشتركة هي رعاية شجرة المعرفة وإنماؤها وإحلال نور العلم محل ظلام الجهالة. وفي وسط هذا كله يوجد التنافس السليم المشروع بين العلماء جميعًا، تنافسٌ لا يشوبه حقد أو أثرة، حتى إذا ما وصل عالم إلى الكشف عن حقيقة جديدة ووُفق في الوصول إلى ما لم يوفَّق إليه غيره، أكبَرَ العلماءُ نبوغَه وعبقريتَه وجدَّه وإخلاصَه وأحلُّوه المكانَ اللائق به بينهم.
ومما تجب ملاحظته أن هذا التعاون بين علماء الأمم المختلفة لم يكن ليتحقق لو لم يسبقه تنظيم التعاون بين علماء الأمة الواحدة، وهذه حقيقةٌ أرجو أن نُوليها ما تستحقه من عناية؛ لأنها تنطبق لا على التعاون العلمي وحده ولكن على كل تعاون منتج بين الأمم، فقبل أن توجد الجمعيات التي تنظم المؤتمرات التي تشترك فيها الدول المختلفة وُجدت الجمعيات التي يربط كلٌّ منها بين علماء الدولة الواحدة. وبعبارة أخرى: فقد كان من الضروري أن ينشأ المجمع العلمي في باريس، والجمعية الملكية في لندن، والمجامع العلمية في واشنطن وطوكيو قبل إنشاء الجمعيات الدولية الدائمة في جنيف وبروكسل.
وخلاصة ما تقدم أن التعاون بين العلماء حقيقة واقعة، وأن أساليب هذا التعاون قد درست ونظمت بحيث لا ينقصها إلا التطور الطبيعي دون مساس بالأسس التي بُنيت عليه. إلا أن هذا التعاون محدود المدى، فهو لا يخرج عن دائرة العلوم الأكاديمية، وهي دائرة تكاد لا تمس حياتنا اليومية، فالعلماء يشتغلون في معاملهم ومكتباتهم وجامعتهم ويحضرون اجتماعات جمعياتهم العلمية ويطالعون نتائج أبحاث زملائهم من العلماء، ثم هم يحضرون المؤتمرات الدولية ويتعاونون جميعًا على غرضهم المشترك وهو الوصول إلى المعرفة، وهم في هذا كله بعيدون عن مشاكل السياسة والحرب والاجتماع لا يعنون بأمرها إلا بقدر ما يُعنى الفرد العادي أو دون ذلك. لا شك في أن موقفَ العلماء هذا من المجتمع موقفٌ — كما سبق وصفه — تقليدي قد تحدد في القرون الوسطى، بل إنه قد تحدد منذ العصر الإغريقي والعصر الإسلامي، فمن ذلك الحكاية التي تُروى عن إقليدس إذ دخل عليه رجلٌ فوجده يرسم دوائر ومثلثات وينعم النظر في أشكالها الهندسية، فسأله: ما الفائدة من هذا كله؟ فكان رد إقليدس أن صفَّق بيديه، فحضر خادمه فقال إقليدس للخادم: أعطِ هذا الرجل دينارًا!
ولكن لم يعد من الممكن للعلم أن يحتفظ بموقفه التقليدي إزاء المجتمع وأن يبقى العلماء قابعين في صوامعهم وبروجهم العاجية، بل صار عليهم أن يتبصروا ما حولهم وأن يعيدوا النظر في موقفهم إن لم يكن لسبب آخر غير الاحتفاظ بصفاء حياتهم وراحة بالهم من تلك الجلبة التي سبَّبتها مستحدثاتهم. وصار على العلم أن ينظم العلاقة بينه وبين المجتمع، وعلى العلماء أن يدرسوا هذه العلاقة وأن يحددوا ما ينبغي أن يكون عليه الحال بين العلم والمجتمع وأن يوجهوا مجهوداتهم في هذا السبيل توجيهًا صحيحًا يكفل للعلم النماء ويؤدي بالبشر إلى الرخاء.
إن أول نقطة جديرة بالبحث إنما هي المسئولية الأخلاقية التي تقع على عاتق العلم والعلماء أو يُظن أنها تقع على عاتقهم إزاء تلك الآلات والمخترعات الجهنمية التي ترمي إهلاك البشر وتعذيبهم. وهنا يجدر بالمفكر أن يفرق بين العلم البحت الذي يرمي إلى المعرفة لذاتها وإلى نوع آخر من المجهود البشري له صلة بالعلم وإن لم يكن منه في شيء، وأقصد به الاختراع أو العلم التطبيقي كما يسمى. ولا شك في أن المسئولية الحقيقية في استخدام مثل هذه الآلات إنما تقع على الذين يقومون على استخدامها في التدمير والتعذيب، وكل ما يمكن أن نطلبه إلى العلماء أن يبنوا الأخطار التي تنجم عن تطبيق علمهم في اختراع مثل هذه الآلات، وعلى القائمين على تنظيم التعاون العالمي أن يُسِنوا القوانين لدرء هذه الأخطار وأن يعاملوا من تُحَدِّثه نفسه باستخدام نتائج العلم في التدمير والتخريب معاملة المجرِم سواء بسواء، وأن يكون لديهم من سلطة التنفيذ ما يُمكِّنهم من معاقبة هؤلاء المجرمين والقضاء عليهم وقطع دابرهم. والنظام القائم الآن في الأمم المختلفة يسمح لكل مخترع باختراع ما يشاء من الآلات، كما يسمح له بتسجيل اختراعه بحيث يصبح له الحق في الحصول على الفائدة المالية التي تنشأ عن استخدام اختراعه، ولا تفرق القوانين الحالية بين المخترعات المختلفة ضارِّها ونافعها، وأكثر من ذلك تقوم كل حكومة بتشجيع المخترعين على استحداث وسائل التدمير والتخريب وترصد لذلك الأموال في ميزانياتها ويتسابق الجميع في هذا الميدان تسابقًا عنيفًا. ولا شك في أن هذا النظام فاسد يجب تغييره إذا كانت الأمم جادة في طلب التعاون العالمي، كما يجب أن يحل محله نظام آخر مبني على تفرقة واضحة بين ما هو مشروع وما ليس بمشروع في الاختراعات والوسائل المستحدثة، فإذا وُضع نظام كهذا وتعاونت الأمم على تنفيذه بإخلاص وكانت لديها الوسائل الناجحة لضمان تنفيذه، أقول إذا حدث كل هذا فإن المخترعين سيتجهون باختراعاتهم في النواحي المشروعة، ونكون بذلك قد وجهناهم توجيهًا صحيحًا نحو فائدة البشرية. ويجب أن تعامل الحكومات في هذا معاملة الأفراد سواء بسواء، فالحكومة التي تشجع المخترعات الضارة تعتبر حكومة مجرمة ويحال بينها وبين غرضها الدنيء بما يكون لدى القائمين على تنفيذ هذا النظام من وسائل السلطة المشروعة. ولست أزعم أن هذا النظام كفيل بمنع كل اختراع ضار بالبشرية، فالقانون والعقوبة لا يمنعان من ارتكاب الجريمة على وجه الإطلاق، ولا شك في أن بعض الحكومات أو بعض الأفراد ستُحدثهم نفوسهم الشريرة بالخروج على القانون وارتكاب جريمة الاختراع المهلك، إلا أن هؤلاء سيكونون أقلية يستهجنها الرأي العام بين الأمم ويوقع بها العقاب المنصوص في مواد القوانين. ولعل البعض يظنني مستغرقًا في الخيال حين أتكلم عن معاقبة الحكومات، إلا أنني كما ذكرت لا أتعرض لموضوع التعاون بين الأمم من ناحية إمكانيته أو استحالته، بل أتكلم عما ينبغي أن يكون، وإذن فلا يمكن أن يقوم اعتراض على قولي مبني على افتراض عدم احتمال التعاون.
إذن فالعلم إنما يرمي إلى المعرفة ولا يمكن أن يُتهم بالتخريب. والمخترعون ومن يقوم على تمويلهم وتشجيعهم هم الذين تقع عليهم التبعية الأولى، وهؤلاء إذا نُظمت أمورهم ووُضع لهم قانون نافذ ترتضيه الأمم وتسهر عليه استقامَ الحال؛ هذه هي الخلاصة. ولكن أليس معنى هذا أن العلماء إنما يتملصون بذلك من كل تبعة ويلقونها على غيرهم خطأً أم صوابًا، ثم يتركون الأمور والتنظيم لغيرهم ويعودون إلى صوامعهم وإلى موقفهم التقليدي إزاء المجتمع؟ وإذا كان الأمر كذلك، وأخشى أنه كذلك، فما هو الدور الإيجابي الذي يريد العلماء أن يقوموا به في التعاون العالمي؟
أذكر أنني حضرت مؤتمرًا عُقد في لندن حوالي عام ١٩٣٠ سُمي المؤتمر الأول لتاريخ العلوم، وقد حضر هذا المؤتمر نفرٌ غير قليل من العلماء قادمين من أمم متعددة. في هذا المؤتمر سمعت الخطباء يضربون على نغمة واحدة، ألا وهي أن تاريخ العلوم يجب أن يُعنى به العناية كلها؛ لأن التقدم العلمي أهم بكثير للبشرية من الحروب التي يسجلها التاريخ. وقد كان الغرض الأول من عقد هذا المؤتمر إثارةَ اهتمام الناس بتاريخ العلوم، وتوجيه الجامعات والمدارس نحو العناية بهذه الناحية من نواحي التاريخ، وقد ذكر الخطباء وكرروا أن العلم هو الذي أعطى المجتمع البشري جُلَّ ما يملك من وسائل الحضارة والرفاهية، وعابوا على المجتمع أن ينكر جميل العلم والعلماء فلا يحفل بأمر تاريخ العلوم، في حين أنه يُعنى العناية كلها بتاريخ الملوك والأمراء وما يحدث بينهم من حروب ومعاهدات وأشياء أخرى كثيرة هي في الواقع قليلة الأهمية تكاد تكون تافهة في تاريخ تطور البشرية إذا قيست بتاريخ العلم والاختراع.
وقد تساءل بعض المتكلمين: أيهما كان أكبر أثرًا في تطور البشرية حروب نابليون أم اختراع جيمس وات للآلة البخارية؟ ولماذا نُعنى بتلقين أطفالنا ما حدث لنابليون في حياته العامة من أحداث حربية وسياسية؟ بل إننا لَنزيد على ذلك ما حدث له في حياته الخاصة من أمور عادية، لماذا نفعل كل ذلك ولا نلقن النشءَ كلمة واحدة عن تاريخ اختراع الآلة البخارية وعن حياة ذلك المخترع العظيم جيمس وات وما بذله من مجهود مُضنٍ في عمله المجيد؟! رجل يقتِّل الناس ويُرمل النساء ويُيتم الأطفال نعده بطلًا ونُعنى بشأنه العناية كلها، وآخر يُرفه عن الناس ويجلب لهم الخير والحرية والسعادة، فلا نكاد نذكره أو نتحدث عنه! ولا شك أن هذا التساؤل ينطوي على منطق قوي وإدراك صحيح لقيم الأشياء، إلا أنني لاحظت أن هؤلاء الخطباء في ذلك المؤتمر بالرغم من قوة منطقهم وصحة تفكيرهم لم يصلوا إلى شيء يُذكر من وراء عقد مؤتمرهم؛ فالمؤتمر نظر إليه كاجتماع عادي لطائفة من العلماء تنازل أحدُ وزراء الدولة بافتتاحه ثم أُلقيت الخطب وانتهى الاجتماع على ما تنتهي عليه أمثالُه من اجتماعات العلماء، وبقيت مناهج الدراسة والامتحانات العامة في سائر الأمم تُعنى بأمر نابليون وتهمل أمر جيمس وات.
وقد دار بيني وبين بعض المُؤتمرين في ذلك الحين حديثٌ قوامه هذا الإعراض من جانب المجتمع عن أمر العلم والعلماء، وهذا الاعتكاف عن المجتمع من جانب العلماء أنفسهم، تم تساءلنا إذا كان العلم يمنع المجتمع كل أسباب الرفاهية، فلماذا لا يكون هو صاحب السلطان في تنظيم هذه الرفاهية التي هو أصلها ومنبع معينها؟! ولماذا يعطي العلم للمجتمع النور الكهربائي والقدرة الكهربائية كهِبة خالصة لوجه الله تعالى، هذه الهبة التي يُقدَّر ريعُها السنوي بمئات الملايين من الجنيهات، ثم هو بعد ذلك يعود فيستجدي المجتمع بضعة قروش أو جنيهات ليصرفها في البحث العلمي؟! ألم يكن أولى به ألا يهب شيئًا وأن يحتفظ لنفسه بكل شيء أو على الأقل أن يحتفظ لنفسه من الهبة بقدر حاجته؟ هذه هي الأسئلة التي عنَّت لنا، ولا تزال تعنُّ للمفكر كلما أمعن النظر في العلاقة التي ينبغي أن تكون بين العلم والمجتمع. فلما أُعلنت الحرب الحالية نشأ إلى جانب هذه الأسئلة سؤال آخر هام هو الآتي: أيستطيع العلم والعلماء أن يقفوا منعزلين عما هو حادث في العالم اليوم من تخريب وتدمير، خصوصًا إذا لاحظنا أن ما وهبوه للمجتمع من العلم هو السبب الأول الذي لولاه لما أمكن هذا التدمير؟ وأليس من واجبهم وهم قوم قد جُبلوا على حب الخير والحق أن يبذلوا قصارى جهدهم كي لا تتكرر المأساة الحالية، وهي إن تكررت كانت في الغالب أدهي وأمرَّ؟ لنفرض أن رجال السياسة ورجال الأعمال في هذه الحرب لم يفلحوا في أن يحققوا التعاون العالمي المنشود بين الأمم، أليس العلماء في مركزٍ يسمح لهم بإنقاذ البشرية من سوء هذه العاقبة؟ إن القوانين والتقاليد الحالية لا تعطي للعالِم صاحب الكشف الأول ولا للجمعية العلمية التي نَشرت بحثه ولا للجامعة التي ينتسب إليها أيَّ حق من الحقوق المدنية إزاءَ هذا المخترِع الذي استفاد من مجهوداتهم جميعًا، وقد حدث هذا مرارًا وتكرارًا، بل هو حادث في كل يوم. ومن الأمثلة الظاهرة عليه الراديو أو التخاطب اللاسلكي كما فصلناه في فصل سابق، فصاحب الفضل الأول في هذا الاختراع إنما هو العالم الأسكتلندي كارك ماكسويل ثم هاينرخ هيرتز العالم الألماني ثم جاء ماركوني وغيره من المخترِعين فاستغلوا نتائج أبحاثهما وأبحاث غيرهما من العلماء استغلالًا ماديًّا عاد عليهم وعلى غيرهم بالربح الوفير. أردت أن أشرح هذه النقطة لما لها من ارتباط وثيق بالموضوع الذي نحن بصدده.
قبيل هذه الحرب نشأت حركة بين العلماء في إنجلترا وفي بعض البلاد الأخرى ترمي إلى إبراز ما هو كامن في نفوس الجميع من قواعد أخلاقية ثابتة أساسها حب الحق وحب العدل وحب الإنسانية، وقد نشرت مجلة Nature الإنجليزية، وهي مجلة لها مقامها في العالم العلمي، نشرت هذه المجلة مبادئ اقتُرحت لتكون نوعًا من الدستور بين العلماء، ولم يكن في هذه المبادئ شيء جديد، بل جاءت كما قلتُ مبرزة لما هو كامن في النفوس ولما هو مفترض عادةً بين رجال العلم، بل وبين رجال الفضل ورجال الأخلاق والمروءة في الأمم جميعًا. هذه المبادئ الكامنة في النفوس دعت الحاجة إلى إبرازها وتدوينها ونصها نصًّا صريحًا صيانةً لها من العبث، ولتكون أساسًا واضحًا يعمل به كل عالم ويدعو إليه، ولا تكاد هذه المبادئ كما قدمتُ تَخرُج عما هو مسلَّم به من الجميع: كمبدأ حرية الفكر، ومبدأ حرية العمل بما لا يتعارض ومصلحة الغير، ومبدأ تحكيم العقل والمنطق فيما يُشكل من الأمور، ومبدأ تطلُّب العدالة والإنصاف في المعاملة بين الناس، ومبدأ عدم الإضرار بالغير … وأمثالها من القواعد العامة التي يُسلم بها كل عاقل منصف. هذه الحركة الخلقية — كما يصح أن نسميها — نشأت بين العلماء لأنهم شعروا بأن عليهم مسؤولية لم يعد من الممكن التغاضي عنها، هي مسؤولية الدعوة إلى الخير والحق والدفاع عنهما. وبعد نشر هذه المبادئ في مجلة Natureوردت خطابات ورسائل متعددة من جميع أنحاء العالم، نُشر بعضها في نفس المجلة، وكلها معضِّدة للفكرة ومحبِّذة لها. ثم جاءت الحرب فاتجه العلماء في بلادهم المختلفة نحو مساعدة أممهم على كسبها وبذل قصارى ما يستطيعون من جهد عقلي وجثماني في خدمة البلاد التي ينتمون إليها. ولعل من أميز مميزات هذه الحرب كثرة عدد العلماء في فروع العلم المختلفة الذين يقومون بالخدمة الفعلية في ميادين القتال أو في القيادات العامة أو في الأسلحة الفنية المختلفة للجيوش البرية والأساطيل البحرية والجوية. فأساتذة الجامعات اليوم والباحثون في العلم والمتخصصون الفنيون في الطبيعة وفي الكيمياء وفي الچيولوچيا، بل والشباب المتخرج حديثًا من الجامعات … كلٌّ يشتغل في دائرة اختصاصه ويشحذ مواهبه في خدمة أمته: فالعالِم الرياضي يستخدم علمه في حل المسائل الرياضية الكثيرة التي تنشأ عن الحرب، والعالم الچيولوچي يضع خبرته الفنية تحت تصرف بلده، والكيميائي كذلك، وهم جميعًا يشعرون بأن هذه الحرب تتوقف نتيجتها إلى حد بعيد على المقدرة الفنية والعلمية للأمم المتحاربة.
فالعلماء إذن قد خرجوا من صوامعهم مختارين أو مرغَمين، واختلطوا بتيار المجتمع في أعنف صورة وأشدها اتصالًا بمعترك الحياة، وإذا وضعت الحرب أوزارها فهل يعقل أو ينتظر أن يعود كل واحد من هؤلاء إلى عمله وينسى ما رآه وما سمعه وما خبرَهُ بنفسه في هذه الحرب الطاحنة، كأن لم يكن شيء من ذلك أو كأنه حلم مفزِع قد انقضى؟ أم أن الذي ننتظره هو العكس؟! فالعلماء وهو قوم ذوو بصائر لن تسمح لهم ضمائرهم ولا عقولهم بأن يتركوا العالم يتعرض مرة أخرى لمثل هذه الفاجعة دون أن يُحركوا ساكنًا وعلى الخصوص يعلمون أن العلم والاختراع مسئولان إلى حد كبير عن كثير من الفتك والتدمير. والمنتظر أن تعود الحركة التي بدأت قبيل الحرب والتي أشرتُ إليها، تعود إلى الظهور بشكل أوسع وأن يكون لها أثرها الفعال في تنظيم التعاون بين الأمم. ولا شك في أن العلماء إذا هم تساندوا في أقطار الأرض وتعاونوا، فإنهم قادرون على أن يَحولوا بين ذوي المطامع والشهوات من رجال السياسة والمال وبين الفتك بالمجتمع، أقول: إذا تساندوا لأنَّ هذا شرط أساسي لنجاحهم؛ فالعلم يملك السلاح الذي يستطيع به أن يدافع عن قضية الحق والعدل والفضيلة، ولا شك عندي في أنه في آخر الأمر منتصِر على قوى الظلم والجهالة والاستعباد. ولا أستطيع أن أتنبأ بالشكل الذي سيتخذه تيار الحوادث في هذا الصدد، ولكن من المنظور — على سبيل المثال — أن تُصر الهيئات العلمية في العالم على منع كل عابث من استخدام نتائج العلم للإضرار بالبشر، فإذا اتخذت هذه الهيئات موقفًا حازمًا إزاء هذا الموضوع الخطير فإنها ولا شك تستطيع أن تضع الأمور في نصابها؛ إذ إن الرأي العام في العالم كله سيكون في جانبها، كذلك تستطيع هذه الهيئات أن تُحرِّم على كل مشتغل بالعلم أن يقوم لحسابه الخاص أو لحساب شركة أو حكومة بالاشتراك في أي عمل أو اختراع يرمي إلى التدمير والتخريب، ويكون شأن العالِم في ذلك شأن الطبيب الذي لا تسمح له الهيئات الطبية باستخدام علمه وفنه في الإضرار بالناس.
وبذلك يُوجَّه العلم والعلماء نحو تعاون عالمي يحقق السلام والطمأنينة بين الأمم والشعوب.
وإنَّا وقد استعرضنا العلم في صور شتى ونظرنا إليه من زوايا مختلفة فاستقرتْ له من غير شك في نفوسنا فكرةٌ صحيحة نيِّرة لنستطيع أن نوقن أن تحقيق تعاون عالمي ليس عليه بعزيز.
عن المؤلف
علي مصطفى مشرفة: عالِمُ فيزياء مِصريٌّ كبير، لُقِّب ﺑ «أينشتاين العرب» لنبوغه في الفيزياء النووية. مُنِح لقبَ أستاذ من جامعة القاهرة وهو دون الثلاثين من عمره، وانتُخِب في عام ١٩٣٦م عميدًا لكلية العلوم، فأصبح بذلك أولَ عميدٍ مِصري لها، وتتلمذ على يده مجموعة من أشهر علماء مصر، من بينهم سميرة موسى. وقد حصل على لقب البشاوية من الملك فاروق.
وُلِد علي مصطفى مُشَرَّفة في الحادي عشر من يوليو عام ١٨٩٨م في مدينة دمياط، وكان الابنَ الأكبر لمصطفى مشرفة؛ أحدِ وُجَهاء تلك المدينة وأثريائها. تلقَّى دروسَه الأولى على يد والده ثم في مدرسة «أحمد الكتبي»، وكان دائمًا في مقدمة أقرانه. نشأ في أسرة غنية، إلا أنَّ والده تعرَّض لخَسارةٍ كبيرةٍ وتُوفِّي على إثْرِها، فاضطرَتِ الأسرةُ إلى الانتقال إلى القاهرة. الْتَحقَ مُشرَّفة بمدرسة العباسية الثانوية بالإسكندرية، ثم بالمدرسة السعيدية بالقاهرة حتى تخرُّجه فيها عامَ ١٩١٤م وكان ترتيبه الثاني على القُطْر المصري. انتسب إلى دار المُعلِّمين العليا وتخرَّجَ فيها بعد ثلاث سنوات بالمرتبة الأولى؛ ممَّا أهَّلَه للسفر في بعثةٍ عِلْمية إلى بريطانيا على نَفقةِ الحكومة.
تخرَّجَ عامَ ١٩١٧م في جامعة نوتنجهام الإنجليزية، ثم حصل على الدكتوراه من الكلية الملكية في فلسفة العلوم عامَ ١٩٢٣م، ثم حصل عامَ ١٩٢٤م على دكتوراه العلوم من جامعة لندن؛ وهي أعلى درجة علمية في العالَم لم يَتمكَّن من الحصول عليها سوى ١١ عالِمًا في ذلك الوقت، ثُمَّ عُيِّن أستاذًا للرياضيات في مدرسة المعلمين العليا، ثم للرياضة التطبيقية في كلية العلوم بالقاهرة ١٩٢٦م.
أثرى الدكتور علي مصطفى مُشرَّفة الحياةَ العِلمية المصرية بالكثير من المُؤلَّفات، من أهمها: "الميكانيكا العِلْمية والنظرية"، و"الهندسة الوصفية"، و"مطالعات علمية"، و"الهندسة المستوية والفراغية"، و"حساب المثلثات المستوية"، و"الذرة والقنابل الذرية"، و"العلم والحياة"، و"الهندسة وحساب المثلثات"، و"نحن والعلم"، و"النظرية النسبية الخاصة".
تُوفِّي رحمه الله في ١٥ يناير ١٩٥٠م.
المصدر: https://www.hindawi.org/books/64704849/6/
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء المؤلفين وليست، بالضرورة، آراء منظمة المجتمع العلمي العربي
يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة