رغم أن أمراض المناطق المدارية المهملة مثل أمراض البلهارسيات وأمراض الليشمانيات، متوطنة في العديد من البلدان العربية، إلا أن جهود البحث العلمي العربي حولها ما زال دون المأمول بحسب دراسة علمية ببليومترية أجارها الدكتور وليد صويلح الباحث في جامعة النجاح الفلسطينية لتقييم مساهمة الباحثين في الدول العربية في البحوث العالمية حول هذه الأمراض خلال الفترة الممتدة بين عامي 1979 و2020.
وبحسب الدراسة التي نشرت مؤخرا في دورية (Tropical Diseases, Travel Medicine and Vaccines) العلمية فإن مؤسسات البحث العربية أنتجت خلال الفترة التي شملتها الدراسة، عددا غير كافٍ نسبياً من البحوث في مجال أمراض المناطق المدارية المهملة.
بحسب الدراسة، فإن أمراض المناطق المدارية المهملة (Neglected Tropical Diseases) وتسمى اختصارا (NTDs)، هي مجموعة متنوعة من الأمراض التي تصيب أكثر من مليار شخص على مستوى العالم، لا سيما في المناطق الفقيرة ذات المناخات المدارية وشبه الاستوائية والتي تعاني من سوء الصرف الصحي والخدمات الصحية غير الكافية. وبحسب منظمة الصحة العالمية فإن هذه الفئة من الأمراض تضم 20 مرضاً مختلفاً. تشمل القائمة الأمراض المعدية وغير المعدية مثل الطفيليات الخارجية وداء التريماتودا المنقولة بالغذاء (Foodborne Trematodiasis) وداء الليشمانيات (Leishmaniasis) وداء الديدان الطفيلية المنقولة بالتربة (Soil-transmitted helminthiasis). ويعد البعوض والذباب الحامل لطفيليات أو بكتيريا أو فيروسات النواقل الرئيسية لمعظم الأمراض المدارية المهملة.
يعتبر البعوض الحامل لطفيليات أو بكتيريا أو فيروسات من النواقل الرئيسية لمعظم الأمراض المدارية المهملة
ووفقا للباحث، فإن "الفقر والموقع الجغرافي وعدم الاستقرار السياسي والنظام الصحي الهشّ تُعدّ عوامل خطر رئيسية لانتشار أمراض المناطق المدارية المهملة في المنطقة العربية"، إضافة إلى التجمعات بمناسبة الحج والعمرة في المملكة العربية السعودية وفي المناسبات الدينية السنوية في العراق التي قد تسهل انتشار أمراض المناطق المدارية المهملة حيث يحضر ملايين الأشخاص من مناطق العالم المختلفة هذه التجمعات سنويا.
في هذه الدراسة أجرى المؤلف تحليلا ببليومتريا للمنشورات البحثية حول أمراض المناطق المدارية المهملة التي يكون فيها مؤلف واحد على الأقل من المنطقة العربية، بهدف "تقييم مدى مساهمة الباحثين في المنطقة العربية في المجال الذي يمكن استخدامه للتخطيط الصحي المستقبلي وتمويل الأبحاث وإقامة علاقات تعاون بحثية جديدة".
أظهرت عملية البحث التي أجراها الباحث في قاعدة البيانات (Scopus) وجود 6542 منشوراً علمياً حول أمراض المناطق المدارية المهملة نُشرت في الفترة من 1971 إلى 2020 كان أحد مؤلفيها على الأقل ينتمي إلى مؤسسة في دولة عربية. في نفس الفترة، بلغ عدد المنشورات المنتجة عالميًا 170398، مما يجعل نسبة مساهمة الباحثين العرب في حدود 3.8٪ من إجمالي المنشورات البحثية حول أمراض المناطق المدارية المهملة المنتجة على مستوى العالم.
النمو السنوي للمنشورات حول أمراض المناطق المدارية المهملة من قبل الباحثين في البلدان العربية وفي جميع أنحاء العالم (1971 – 2020)
كما أظهر تحليل البيانات المسترجعة نمواً بطيئاً وتدريجياً في عدد المنشورات بمرور الوقت، وبلغت نسبة المنشورات الصادرة خلال السنوات الخمس الأخيرة من الفترة التي شملتها (من 2016 إلى 2020) أكثر من الخمس (21.8%) من إجمالي عدد المنشورات. وتنتمي المنشورات العلمية العربية حول هذا النوع من الأمراض إلى مجالات مختلفة كمجال الطب ( 78.6%)، وعلم المناعة وعلم الأحياء الدقيقة (31.8%)، العلوم الزراعية والبيولوجية (11.4%) ، الكيمياء الحيوية والبيولوجيا الجزيئية (10.2%) ، والعلوم البيطرية ( 7.9%).
ساهم في انتاج هذه المنشورات باحثون من جميع الدول العربية، وهو ما يدل بحسب الباحث الفلسطيني، على انتشار هذا النوع من الأمراض في المنطقة. وكانت مساهمة مصر هي الأكبر بنسبة (40.9%) من جميع المنشورات العلمية العربية حول أمراض المناطق المدارية المهملة، تليها المملكة العربية السعودية (15.6%) ثم السودان (11.6%) وتونس (9.1%). وقد ظل النمو السنوي للمنشورات العلمية للباحثين في المملكة العربية السعودية متقارباً مع نظرائهم في السودان حتى عام 2010 قبل أن يشهد نمواً حاداً تجاوز النمو المسجل في كل من السودان ومصر.
النمو السنوي للمنشورات حول أمراض المناطق المدارية المهملة من قبل الباحثين في مصر (أزرق) والمملكة العربية السعودية (أخضر) والسودان (أحمر) (1971-2020)
وكشف التحليل أيضا عن هيمنة المؤسسات الأكاديمية والبحثية في مصر والمملكة العربية السعودية على قائمة أفضل 10 مؤسسات ساهمت في انتاج الأوراق المنشورة حول أمراض المناطق المدارية المهملة. فيما احتلت مجلة الجمعية المصرية لعلم الطفيليات المرتبة الأولى في ترتيب المجلات الأكثر نشرا لهذه الأوراق العلمية.
بحسب المؤلف، هناك عدة أسباب تجعل مصر تحتل المرتبة الأولى في المنطقة العربية من حيث عدد المنشورات المتعلقة بأمراض المناطق المدارية المهملة. فإضافة لكونها أكبر دولة عربية من حيث عدد السكان وبها أكبر عدد من المؤسسات الأكاديمية والبحثية ومجلات علمية محكمة، تمتلك مصر أعلى معدلات الإصابة بأمراض المناطق المدارية المهملة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، كما تنتشر فيها نسبة عالية من داء البلهارسيات وداء الاسكارس والدودة الشصية وداء المتورقات.
أما بالنسبة للسعودية التي احتلت المرتبة الثانية وتشهد ارتفاعا حادا خلال السنوات الأخيرة في عدد المنشورات فيرجع الباحث ذلك لعدة أسباب من بينها الدخل المرتفع نسبيًا الذي يتيح تمويل الأبحاث للمؤسسات الأكاديمية والبحثية. وقد أدّى قربها من البلدان الاستوائية الأفريقية، ودول جنوب شرق آسيا إلى انتشار داء الليشمانيات والديدان الخطافية وداء الفيلاريات اللمفاوي. ومن المحتمل أن تكون التجمعات أثناء الحج والعمرة قد سهّلت انتشار بعض الأمراض المعدية.
من ناحية أخرى أشارت الدراسة الحالية إلى أن أكثر من نصف المنشورات كانت مرتبطة بداء البلهارسيات وداء الليشمانيات وداء المشوكات، وهو ما يعكس انتشارها الكبير في العديد من المناطق في الدول العربية. وقد أظهرت دراسات سابقة انتشار داء البلهارسيات المعوي والجهاز البولي التناسلي في أفريقيا والشرق الأوسط منذ فترة طويلة. وتم تنفيذ استراتيجية مكافحة داء البلهارسيات بنجاح في العديد من البلدان، بما في ذلك مصر وعُمان والأردن والمملكة العربية السعودية والمغرب وتونس. وبلغت مساهمة المؤلفين من المنطقة العربية في مجال داء البلهارسيات حوالي 10% من مخرجات البحث العالمي مما يدل على الدور الفعال للباحثين في المنطقة في مجال مقاومة داء البلهارسيات، وفقاً للمؤلف.
وكان داء الليشمانيات ثاني أكثر أمراض المناطق المدارية المهملة تناولاً من قبل الباحثين في المنطقة العربية. ويميز الباحثون بين ثلاثة أشكال رئيسية للمرض: داء الليشمانيات الجلدي، والحشوي، والجلدي المخاطي. ويعد الشكل الجلدي هو الأكثر شيوعا في حين أن الشكل الحشوي هو الأكثر خطورة والشكل الجلدي المخاطي هو أكثرها تسببا في الإعاقة.
أظهرت نتائج تحليل البيانات المستخرجة كذلك، أن الأبحاث التي أجريت على داء المشوكات من الدول العربية احتلت المرتبة الثالثة في البحوث العربية حول أمراض المناطق المدارية المهملة. وكان الشكلان الأكثر أهمية، اللذان لهما صلة طبية بالصحة العامة عند البشر، هما داء المشوكات الكيسي (cystic echinococcosis)، وداء المشوكات السنخي (alveolar echinococcosis). ويعتبر داء المشوكات الكيسي مستوطنا في مناطق تربية الأغنام والماشية وانتشاره مرتفع جداً في منطقة البحر الأبيض المتوسط.
كما أشارت الدراسة إلى أن داء الديدان المعوية المنقولة بالتربة كان بين أكثر المواضيع تناولاً في المنشورات العلمية بالنظر لمعدل انتشاره المرتفع في المنطقة. ووفقاً لمنظمة الصحة العالمية، فإن العراق والصومال وجيبوتي والسودان وسوريا واليمن تعتبر مناطق موبوءة وتتطلب تدخلات.
خلص الباحث في هذه الدراسة إلى أن الدول العربية لن تستطيع تحقيق الأجندة العالمية لعام 2030 (وهي خطة التنمية المستدامة التي وضعتها الأمم المتحدة عام 2015 ومن بينها هدفاً ينص على القضاء على عدد من الأمراض السارية)، دون السيطرة والقضاء على الأمراض المدارية المهملة السائدة. كما أكد على أن الباحثين في الدول العربية في حاجة إلى إنشاء شبكات بحث قوية لتبادل الخبرات حول جميع الأمراض المدارية المهملة.
تواصل مع الكاتب: gharbis@gmail.com
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء المؤلفين وليست، بالضرورة، آراء منظمة المجتمع العلمي العربي
يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة