التغيير أمر حتمي وضروري ولا مفر منه. وجرت سنة الله أن كل شيء في هذا الكون يتغير مع مرور الزمن، وتتغير معه الحياة وأساليبها. تؤثر بعض الأحداث أو الاكتشافات أو الأفكار في هذا التغيير، ولكن الذي لا شك فيه أيضاً أن التغيير في حياتنا اليومية هو إلى حد كبير، نتيجة لتوجيه السياسة، التي يحددها لنا صانعو السياسات، سواء كانوا منظمين، أو مشرعين، أو حكومات، أو مديرين تنفيذيين، أو نواب مستشارين. سواء كنا نتفق معها تماماً أم لا، فإن السياسة تحدد عالمنا وجزءًا من حياتنا أكبر مما قد ندركه حقًا.
السياسة “الجيدة” أو “المثلى” أو التي يحبون أن يسمونها في بلداننا “الرشيدة” هي التي (تصلها) المعرفة، مع قدرة صانعي السياسات على (فهم) هذه المعرفة و(استخدامها) لعمل تنبؤات حول التأثيرات المحتملة التي قد تكون لهذه السياسة.
وهنا يأتي دور ومكان العلم. فبدون السياسة المستنيرة بالمعرفة، يمكن القول إننا تحت رحمة التوجيه التعسفي أو الذاتي من مجموعات أو أفراد قد لا يكونوا خبراء، أو من الذين قد يكونون متحيزين لوجهات نظر مستقلة أو ضيقة ومصالح مكتسبة. بينما يمكن أن يوفر العلم الأدلة والبراهين والحكمة والقدرة التنبؤية لصانعي السياسات لاتخاذ أفضل الخيارات الممكنة ضمن قيود المناخ السياسي والاجتماعي والاقتصادي السائد؛ مناخ هو في حد ذاته مهمة العلم والسياسة، التي تحدد توقعاتنا وتطلعاتنا وطريقة تفكيرنا، والطريقة التي نعيش بها حياتنا. ومع ذلك، فإن الطريق الذي تسلكه هذه المعلومات المهمة للوصول إلى أيدي صانعي السياسة ليس دائمًا كما ينبغي.
في بلداننا العربية، قل ما توجد قنوات تواصل بين العلم والسياسة، وقل ما تجد أثراً للعلم في أي سياسة تُتخذ. في هذا الفصل سنحاول تبسيط هذا المسار الشائك، ونستكشف بعض الطرق التي يمكن من خلالها تجسير الهوة وتوصيل صوت العلم للسياسة. أي الطريق الذي من خلاله يُعلِم العلمُ السياسة ويؤثر عليها. سنستكشف بعض الطرق لاستخدام العلم في صنع القرار في العالم الحديث، وكيف يمكنك جعل صوتك العلمي مسموعًا.
دورنا كعلماء، تقديم الحقائق والآراء الأفضل استنارة والمبنية على الأدلة لمن يحتاجون إليها، ويريدون أن يسمعونها. تحظى إرشادات وآراء الخبراء، خاصة من الأكاديميين والعلماء المستقلين، بتقدير كبير من جانب صانعي السياسات وكذلك ثقة الجمهور. لكن هذا التوجيه مفيد فقط إذا تم سماعه وتلقيه بشكل (يمكن فهمه) مع الحفاظ على (الدقة والصدق).
بصورة عامة، واضعو السياسة العامة والتنفيذيون ليس لديهم الوقت الكافي ولا القدرة العلمية للدخول في التفاصيل وقراءة الأوراق البحثية، في صورتها التي يتعارف عليها العلميون، لذا فهم بحاجة لمن يوصلها إليهم بأسلوبٍ واضحٍ ومبسطٍ ودقيق. وإذا كنا نأمل أن يكون للعلم أثر على السياسة واتخاذ القرارات ووضع القوانين وحل المشكلات، والتي هي بالمقابل تؤثر علينا وعلى مجتمعاتنا بشكل مباشر، فلابد أن نحرص على الدقة والمصداقية والتجرد، ولا نتحيز أو نتعصب لأنفسنا ولنتائجنا الخاصة إذا كان هناك ما يشكك في أنها الأفضل. النزاهة والأمانة في تقديم الاستشارة العلمية سبب للسمعة الطيبة والثقة واستمرار العلاقة بين العلم والسياسة.
بعض وسائل إيصال صوتك العلمي للسياسة
في الممارسة العملية، هناك العديد من الطرق التي يمكن أن يحدث بها هذا. قد يتم تحديد هويتك بواسطة وكالات أو أفراد معينين سمعوا عن عملك في مجال معين، ونتيجة لذلك قد يُطلب منك تقديم المشورة على شكل مراجعات خبراء لتقارير بتكليف من الحكومة، مكتوبة من قبل موظفي الخدمة المدنية أو الأكاديميين ومراكز الفكر الأخرى. أو قد تتم دعوتك لتقديم عطاءات للحصول على عقود لتقديم هذه التقارير بنفسك. لزيادة ظهورك في مثل هذه الدوائر، يجب أن يكون سجلك الأكاديمي نموذجيًا. أحياناً، يتم تمرير الدعوات المباشرة للمشاركة بهذه الطريقة من خلال الكلام الشفهي بين شبكات الخبراء الحالية، أو من خلال توصيات من الأكاديميين الآخرين الذين قد يستشهدون بسجلك الأكاديمي كسببٍ لطلب المشورة منك، والاستفادة من خبرتك المتخصصة. (لاحظ أهمية ما جاء في الفصول السابقة من مهارات التواصل العلمي).
عادةً ما تأتي مثل هذه الدعوات “من أعلى إلى أسفل” بطريقة ما في حياتك المهنية الأكاديمية بعد أن تثبت نفسك كخبيرٍ وقائد في مجالك، أي أنك يجب أن تحرص على بناء ذخيرتك العلمية على قاعدة صلبة وقوية، قبل البدء بمحاولة تقديم الاستشارات التي قد يكون لها تأثير على مستقبل أجيال.
مع وضع ذلك في الاعتبار، هناك طرق أكثر استباقية يمكنك من خلالها تقديم مدخلاتك مع رفع ملفك الشخصي في الوقت نفسه في دوائر السياسة في وقتٍ مبكر من حياتك المهنية. على سبيل المثال، عادةً ما تشكل المجالس التشريعية الوطنية لجانًا متخصصة تتألف من ممثلين منتخبين يرأسونها، ومكلفين بجمع الأدلة للمناقشة حول مسائل السياسة ذات الاهتمام الوطني قبل التشريع، والذين يناقشون آثار التشريع بعد تقديمه. تصدر هذه اللجان بانتظام دعوات مفتوحة للحصول على الأدلة، والتي يمكن لأي شخص تقديم مدخلات بشأنها. تعمل معظم الحكومات (الديمقراطية)، على المستويين المحلي والوطني، بطرق مماثلة – فهي تستشير الجمهور والخبراء للحصول على إرشادات لإثراء النقاش واتخاذ القرار.
إذا اخترت تقديم دليلٍ إلى مثل هذه اللجان، فمن المهم التعامل مع كتابتك بنفس الطريقة التي تتناول بها أي سرد أكاديمي من خلال هيكلتها بملخص تمهيدي (مشابه لملخص)، وهو نص يستشهد بالمراجع المناسبة في سياق السياسة التي تتم مناقشتها، والاستنتاج، مع تجنّب استخدام اللغة التقنية حيثما أمكن ذلك. قد تتطلب منك عمليات تقديم الأدلة بالضرورة استقراء معرفتك لتكوين رأي أو استنتاج حول السياسة المعنية، ادرس الموضوع من جميع جهاته قبل تقديم استشارتك. كما هو الحال في أي كتابة علمية، من المهم أن تكون واضحًا أين تعبر عن آرائك الشخصية، حتى لا يلتبس الأمر بينها وبين النتائج العلمية البحتة ما الذي يشتمل عليها الدليل الذي يؤدي إلى هذا الرأي. قد يكون من المفيد أيضًا التفكير في الثقة في استنتاجاتك وتحديد أيّ ثغرات معرفية وما هو العلم الذي قد يكون مطلوبًا لتقييد أي عدم يقين بشكل أفضل، الهدف هو الوصول إلى سياسة تستنير بنور العلم، ولا ينقص من أي واحد منا أن يقف عند حدود ما يعلم ويوصي بسد ثغرات المعرفة التي تتجاوز تخصصه ومعرفته.
قد تقوم لجنة برلمانية بعد ذلك بالإشارة إلى أدلتك في تقريرها أو في المناقشة، وقد تتم دعوتك لإجراء مقابلة من قِبَل تلك اللجنة. قد يبدو هذا شاقًا. ومع ذلك، فكر في التأثير الإيجابي الذي يمكن أن تحدثه بعد ذلك على تغيير مسار النقاش والسياسة، وما يمكن أن يترتب عليه من تصحيح مسار وإنقاذ من الوقوع في مشكلة.
يُعدّ استخدام علمك في السياسة وإمكانية تتبُّعه من خلال مساراتٍ سياسية قابلة للقياس والاقتباس، جانبًا مهمًا للغاية في عملك، وقدرتك المستقبلية على تأمين التمويل لبحثك. إنه يوضح أنك تعرف كيفية ترجمة العلم إلى تأثير، وإبلاغ النقاش العام والسياسي، وإحداث التغيير.
تأثير البحث
كما تمت مناقشته في هذا الكتاب، فإن النتيجة النهائية للعلم ليست ورقة بحثية. يتم استخدام العلم من قبلنا (كعلماء) ومن قبل الآخرين لمجموعة متنوعة من الأسباب الإيجابية وهذا يمكن أن يؤدي إلى ما يعرف باسم “تأثير” البحث.
يمكن أن يتخذ التأثير عدة أشكال. وهذا يشمل: المكاسب الاقتصادية، وتغيير السياسات، والمنافع البيئية، ومزايا الصحة العامة، وتطوير التكنولوجيا، والوعي العام بالعلوم والابتكارات في علم أصول التدريس ومناهج التعليم. يمكن أن يشمل التأثير في كثير من الأحيان العديد من هذه الجوانب في وقتٍ واحد. في معظم الحالات، يكون التأثير نتيجة للتواصل العلمي بشكل أو بآخر؛ وغالبًا ما يشار إلى عملية إحداث التأثير من العلم على أنها مسار التأثير. قد يشمل هذا المسار توصيل العلم في الأحداث العامة لزيادة الوعي العام، أو قد يركز على المشاركة مع أصحاب المصلحة العامة، أو التجاريين، أو الحكوميين لتغيير السياسة، أو إحداث تغيير يؤدي إلى منفعة اقتصادية أو بيئية أو صحية عامة.
تقوم العديد من الحكومات في العالم المتقدم بتقييم دوري لتأثير البحث ومسارات التأثير، وهو مهم للغاية في عمليات التدقيق العامة لتأثير العلم. عادةً ما يتم تقييم مدى تأثير العلم وأهميته في مجال السياسات، فضلاً عن التأثيرات على المجتمع والصحة والبيئة، بواسطة الأقران وتصنيفهم، ويتم استخدامها لحساب تسويات التمويل العام لمؤسسات البحث العامة مثل الجامعات. لذلك، فإن تأثير العلم لا يهم فقط من حيث فائدته المباشرة والملموسة، ولكن أيضًا من حيث المكانة الشخصية والمؤسسية والتمويل المؤسسي. وبشكلٍ أعمّ، فإنّ الأثر القابل للقياس للعلم يبرر الاستثمار العام بشكلٍ مباشر.
عند محاولة التحديد الكمي رسميًا وتأطير تأثير البحث من أجل التقييم، يكون الدليل هو المفتاح. يجب دعم المطالبات ويجب أن يكون الآخرون قادرين على رؤية واتّباع المسار بين مخرجات البحث وتأثيره النهائي بشكل مستقل. يمكن أن يأخذ هذا شكل شهادات من أصحاب المصلحة الذين استفادوا من بحثك، مثل مديري الشركات الذين استخدموا نتائجك لتحقيق الربح. أو قد يأخذ شكل وثائق السياسة التي تستشهد بأبحاثك، أو أدلة أخرى مبنية على مثل هذه المخرجات. قد يأخذ أيضًا شكل استطلاعات الرأي العامة التي تتعقب الوعي بالعلوم. لذلك، يعد تتبع المسارات التي يتخذها بحثك نحو التأثير، وجمع أدلة على التأثير على طول الطريق، خطوة حيوية في تطوير كل من البحث والملف الشخصي.
قد يشمل ذلك الحفاظ على علاقاتٍ نشطة مع أصحاب المصلحة الذين يستخدمون بحثك لتوليد التأثير، حيث قد ترغب في أن تطلب منهم إثبات تأثير بحثك في وقت لاحق.
والخلاصة، يمكن اعتبار أن “التأثير” هو التبرير المجتمعي العملي لعملنا العلمي، وغالبًا ما يبرر إظهار التأثير التمويل العام والتجاري للعمل الذي نقوم به. ولكي تحصل على التمويل الحكومي والتجاري يجب أن يكون للبحوث تأثير عليهم. ولذلك، لا يمكن اعتبار أن نشرك لمقالات بحثية في مجلات علمية عالية المستوى وما يتبعه من ترقية، هو الهدف النهائي لك، فيجب أن يكون للمجتمع والدولة حق عليك، فبحوثك تمول من جانبهما.
على الصعيد العالمي تقريبًا، يرحب الأشخاص المكلفون باتخاذ القرارات ووضع السياسات بمدخلات الخبراء ويتوقون إلى الأدلة لمساعدتهم على إصدار أحكام مستنيرة لصالح الجميع؛ لا أحد يحب اتخاذ قرارٍ سيء.
إن تنظيم العلوم في السياسة عادةً ما يكون من القاعدة إلى القمة، ويعتمد على استباقية الأفراد أو توسيع شبكات الخبراء الحالية. يمكنك زيادة ظهورك من خلال الانخراط في طلبات الأدلة والتحدث إلى أولئك الموجودين في الشبكات القائمة، مع تطوير سجل حافلٍ من الخبرة في الوقت نفسه ودعم البحث. ترقب الفرص، وسجل واشترك وشارك وقو مهاراتك في الاتصال الداخلي مع المجتمع العلمي والخارجي مع المجتمع بكل فئاته، وأحدث فرقًا.
وبهذا نكون قد انتهينا من كتاب “مهارات التواصل العلمي” والذي نشرناه على هيئة سلسلة مقالات، نسأل الله أن نكون قد وُفقنا في تسليط بعض الضوء على هذا الجانب من مهام ونشاط المجتمع العلمي.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
البريد الإلكتروني للكاتب: mmr@arsco.org
يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة