"نحن والعلم" هو كتاب للعالم المصري الكبير علي مصطفى مشرفّة، يوضح فيه ما المقصود بالعلم، وما التأليف العلمي، وما أهميته بالنسبة إلينا؛ حيث يرى مشرفّة أننا في حاجة إلى كتب عربية في كل حقل من الحقول العلمية، ويرى أننا إذا لم نهتم بنقل العلوم وإنتاجها فإننا سنبقى عالة على غيرنا من الأمم، ويضرب أمثلة بنقل العرب لعلوم وفلسفات الإغريق، ونقل الأوربيين للعلوم عن العرب. كما يتطرق مشرفة إلى بيان العلاقة بين العلم والمجتمع، وأثر كل منهما على الآخر. ويبين لنا أيضًا كيف تتم عملية البحث العلمي وكيف يمكن تنظيمها.
محتوى الكتاب
مقدمة؛ التأليف العلمي والثقافة العلمية وما يجب نحوهما؛ توجيه الرأي العام توجيهًا علميًّا؛ العلم في خدمة المجتمع؛ البحث العلمي وتنظيمه؛ كيف يوجه العلم والعلماء لتحقيق تعاون عالمي؟
وللفائدة، سوف نقوم بنشر فصول الكتاب تباعاً، وإليكم الفصل الثاني منه:
التأليف العلمي والثقافة العلمية وما يجب نحوهما
أقصد بالتأليف العلمي تدوين العلوم باللغة العربية بحيث تصبح لغتُنا غنيةً بمؤلفاتها في مختلف العلوم، ولا شك في أننا في أشد الحاجة إلى كتب عربية في كل فرع من فروع العلم، ففي حين نجد كل لغة من اللغات الحية غنية بكتبها ومؤلفاتها العلمية تنفردُ اللغة العربية بفقرها المُدْقع في المؤلفات العلمية، ولا أظنني أعدو إذا قلتُ الحقيقة إنه لا يكاد يوجد كتاب واحد في أي فرع من فروع العلم يمكن اعتباره مرجعًا أو حجةً، والكتبُ التي تظهر يكون مستواها عادة منخفضًا لا يزيد على مستوى التعليم الثانوي أو المرحلة الأولى من التعليم العالي. وهذا الأمر جد خطير، فإننا إذا لم ننقل العلوم إلى لغتنا ولم ندونها بَقِينا عالةً على غيرنا من الأمم وبقيت دائرة العلم في مصر محصورةً في النفر القليل الذين يستطيعون قراءة الكتب الأجنبية العلمية وفَهْمها، وحالُنا اليوم تشبه ما كانت عليه حال العرب في القرنين الثامن والتاسع، أو ما كان عليه حال أوربا في القرون الوسطى، فالعرب تنبهوا إلى ضرورة نقل علوم الإغريق إلى اللغة العربية، فقام الخلفاء والأمراء بتشجيع العلماء على الانقطاع إلى النقل والتأليف، ولعل القارئ يذكر المكتبة الكبرى في أيام الخليفة المأمون التي كانت تُعرف بخزانة الحكمة وأن كثيرًا من علماء ذلك العصر كانوا منقطعين إليها يشجعهم على ذلك ما تحلَّى به المأمون من الرغبة في العلم وتقريب أهله وإدنائهم وبَسْط كنفِه لهم ومعونته إياهم، وقد كان من نتيجة هذا كله أن صارت اللغة العربية لغةَ العلم والتأليف وبقيت محتفظة بسيادتها العلمية على لغات الأرض جميعًا عدة قرون.
ونحن إذا شئنا أن نعيد إلى لغتنا مجدَها العلمي، فعلينا أن نُعنى بتشجيع التأليف والتدوين والنقل، وعلى الدولة ألا تضن بالمال الواجب إنفاقه في هذا السبيل، ومن الممكن البدء في هذا العمل فورًا بميزانية سنوية لا تتجاوز بضعة ألوف من الجنيهات، وهو لَعمري مبلغ صغير إذا قيس بالنتائج الهامة التي تَنجُم عن صرفه، والطريقةُ المثلى لذلك هي أن تعهد الدولة للقادرين من العلماء في كل فرع من فروع العلم بنقل الكتب العلمية وتأليفها، وأن تقوم الدولة بطبع هذه الكتب ونشرها، ولا بد من تضافر العلماء وتعاونهم في هذا السبيل فكل كتاب يُنقل أو يُؤلَّف يجب أن تقوم عليه لجنة تَجمع خيرةَ من تخصصوا في موضوع الكتاب، ولا يخفى ما في هذا العمل من مشقة وما له من ارتباط بتطور اللغة العربية العلمية ومصطلحاتها. والتأليف العلمي هو الوسيلة الطبيعية لإيجاد هذه المصطلحات في لغتنا؛ فكل لغة حية إنما تنمو عن طريق التأليف والكتابة، واللغة العلمية وليدة التفكير العلمي، والمصطلحات العلمية في اللغات الأوربية إنما نشأت بهذه الطريقة ونتجت عن نمو العلم والتأليف، ومن العبث أن يقوم مجمع بفرض المصطلحات على المؤلفين فرضًا، وإنما تأتي مهمة المجامع بعد مهمة المؤلِّفين لا قبلها، فالمجمع اللغوي يجمع ما ورد في الكتب العلمية من مصطلحات ويدونها ويفسرها، على أنه لمَّا كان الأمر مرتبطًا كما قدمتُ بتطور لغتنا ونموها، فإن من الواجب أن يكون في كل لجنة من اللجان التي يُعهد إليها بالتأليف عضوٌ مضطلع في اللغة العربية وأساليبها حتى تخرج اللغة العربية سليمةً، وحتى ترتبط لغة التأليف العلمي بلغة الأدب ارتباطًا طبيعيًّا مثمِرًا.
وموضوع التأليف العلمي وارتباطه بحياتنا الفكرية إنما هو جزء من موضوع أوسع وأعم ألا وهو العلاقة بين ثقافتنا العلمية الماضية والمستقبلة، وهو موضوع الأسس التي يجب أن نبني عليها صَرْحَ مجهودنا العلمي، فالثقافةُ العلمية في كل أمة عنصرٌ هام من عناصر ثقافتها العامة، وكما أن الأمة المتحضرة تكون لها ثقافة أدبية ترتبط بتاريخها وتتجسم في لغتها، ويكون عنوانًا عليها ذلك التراث الخالد من شِعر شعرائها ونثر كُتَّابها، وكما أن الأمة المتحضرة أيضًا تكون لها ثقافة فنية تتمثل فيما أبدعته أيدي فنانيها في مختلف عصور تطورها من تلك الرموز الملموسة على المشاعر الخفية، تلك الرسالات الملهمة التي تنبعث عن قلب الفرد فتصل إلى قلب الأمة وربما تَعَدَّتْه إلى قلب الإنسانية ذاتها، أقول: كما أن الأمة المتحضرة تكون لها هذه الثقافة الأدبية وتلك الثقافة الفنية وغيرها من ثقافة خُلقية ودينية وسياسية وما إليها كذلك تكون للأمة المتحضرة ثقافة علمية ترتبط بتاريخ التفكير العلمي فيها وتحتوي ما ابتكرته عقولُ أبنائها من الآراء والنظريات العلمية وما وصلت إليه من الكشوف في سائر ميادين البحث العلمي، وما نقلته وهذَّبته واستساغته من آراء غيرها مما دخل في صلب المعرفة البشرية على مر العصور والأجيال.
وثقافتنا العلمية في حاجة إلى أن تتصل بماضينا؛ فتكسب بذلك قوة وحياة وإلهامًا، ونحن في مصر اليوم ننقل المعرفة عن غيرنا ثم نتركها عائمةً لا تمتُّ بصلة إلى ماضينا ولا تتصل بتربتنا، فهي بضاعة أجنبية عليها مسحةُ الغرابة، غرابة في اللفظ وغرابة في المعنى، إذا ذُكرت النظريات قُرنت بأسماء أعجمية لا يكاد المرء منا يتبين معالمها، وإذا عُبر عن المعاني فبألفاظ مخيفة يفر منها الفكر وترتبك أمامها المخيلة. ومن الواجب أن نعمل على تغيير هذا الحال، فأولًا: يجب أن ننشر الكتب العلمية التي وضعها العرب ونَقَل عنها الإفرنج، ككتب الخوارزمي وأبي كامل في الجبر والحساب، وكتب ابن الهيثم في الطبيعة، وكتب البوزجاني والبيروني والبتاني … وغيرهم كثيرون من قادة التفكير العلمي وعظماء الباحثين المدققين. هذه الكتب موجودة الآن ولكن أين؟ إنها محفوظة في مكتبات ومتاحف في مشارق الأرض ومغاربها يَعرف عنها الإفرنج أكثر مما نعرف، ويقومون بترجمتها وشرحها والتعليق عليها، وينشرون هذا كلَّه بلغات أجنبية في مجلاتهم العلمية، وما أجدرنا بأن نكون نحن القائمون على ذلك. وثانيًا: يجب أن نُعنى بتمجيد السلف من علمائنا وباحثينا، فيكون لنا في ذلك حافز للاقتداء بهم وتتبُّع خُطاهم، وقد بُذلت بعض الجهود في هذا السبيل في السنين الأخيرة، فأقيم حفل لتخليد ذكرى ابن الهيثم ونُشر كتاب الخوارزمي في الجبر والمقابلة، وعلينا في السنين الآتية أن نزيد في هذه الحركة وأن ننظمها.
فالتأليف العلمي، وإحياء كتب العرب، وتمجيد علمائهم أمورٌ ثلاثة يجب أن تُدرج في جدول أعمال حياتنا الفكرية في المستقبل القريب.
عن المؤلف
علي مصطفى مشرفة: عالِمُ فيزياء مِصريٌّ كبير، لُقِّب ﺑ «أينشتاين العرب» لنبوغه في الفيزياء النووية. مُنِح لقبَ أستاذ من جامعة القاهرة وهو دون الثلاثين من عمره، وانتُخِب في عام ١٩٣٦م عميدًا لكلية العلوم، فأصبح بذلك أولَ عميدٍ مِصري لها، وتتلمذ على يده مجموعة من أشهر علماء مصر، من بينهم سميرة موسى. وقد حصل على لقب البشاوية من الملك فاروق.
وُلِد علي مصطفى مُشَرَّفة في الحادي عشر من يوليو عام ١٨٩٨م في مدينة دمياط، وكان الابنَ الأكبر لمصطفى مشرفة؛ أحدِ وُجَهاء تلك المدينة وأثريائها. تلقَّى دروسَه الأولى على يد والده ثم في مدرسة «أحمد الكتبي»، وكان دائمًا في مقدمة أقرانه. نشأ في أسرة غنية، إلا أنَّ والده تعرَّض لخَسارةٍ كبيرةٍ وتُوفِّي على إثْرِها، فاضطرَتِ الأسرةُ إلى الانتقال إلى القاهرة. الْتَحقَ مُشرَّفة بمدرسة العباسية الثانوية بالإسكندرية، ثم بالمدرسة السعيدية بالقاهرة حتى تخرُّجه فيها عامَ ١٩١٤م وكان ترتيبه الثاني على القُطْر المصري. انتسب إلى دار المُعلِّمين العليا وتخرَّجَ فيها بعد ثلاث سنوات بالمرتبة الأولى؛ ممَّا أهَّلَه للسفر في بعثةٍ عِلْمية إلى بريطانيا على نَفقةِ الحكومة.
تخرَّجَ عامَ ١٩١٧م في جامعة نوتنجهام الإنجليزية، ثم حصل على الدكتوراه من الكلية الملكية في فلسفة العلوم عامَ ١٩٢٣م، ثم حصل عامَ ١٩٢٤م على دكتوراه العلوم من جامعة لندن؛ وهي أعلى درجة علمية في العالَم لم يَتمكَّن من الحصول عليها سوى ١١ عالِمًا في ذلك الوقت، ثُمَّ عُيِّن أستاذًا للرياضيات في مدرسة المعلمين العليا، ثم للرياضة التطبيقية في كلية العلوم بالقاهرة ١٩٢٦م.
أثرى الدكتور علي مصطفى مُشرَّفة الحياةَ العِلمية المصرية بالكثير من المُؤلَّفات، من أهمها: "الميكانيكا العِلْمية والنظرية"، و"الهندسة الوصفية"، و"مطالعات علمية"، و"الهندسة المستوية والفراغية"، و"حساب المثلثات المستوية"، و"الذرة والقنابل الذرية"، و"العلم والحياة"، و"الهندسة وحساب المثلثات"، و"نحن والعلم"، و"النظرية النسبية الخاصة".
تُوفِّي رحمه الله في ١٥ يناير ١٩٥٠م.
المصدر: https://www.hindawi.org/books/64704849/2/
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء المؤلفين وليست، بالضرورة، آراء منظمة المجتمع العلمي العربي
يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة