بلغ البحث العلمي أوجه في الحضارة الإسلامية وباللغة العربية مع بداية القرن الثالث الهجري -التاسع الميلادي- حتى القرن السابع (الثالث عشر) على الأقل. وصاحب هذا البحث الرياضي والعلمي واحتواه تجديدٌ ثقافيٌ عام شمل علوم اللغة والعلوم الإنسانية من تاريخٍ وفقهٍ وتفسير وآداب وفلسفة وكلام وكذلك الفنون والمعمار. وأخذ هذا كله شكل حركة دائبة في داخل حضارة متكاملة نشطة. فلم يكن إذاً من العجب ولا من المستغرب أن تتعدد أسماء الرياضيين والعلماء من أمثال الخوارزمي وأبي كامل وبني موسى بن شاكر وثابت بن قرة وابن الهيثم إلخ، أي هذه الأسماء التي سيسجلها تاريخ العلم الإنساني.
كان هؤلاء العلماء الفحول من جنسيات مختلفة توزعها العالم القديم، ومن دياناتٍ ومللٍ متعددةٍ، ومن أصولٍ اجتماعيةٍ متغايرةٍ صهرتهم الثقافة الجديدة التي نشأوا فيها وتحركوا في داخلها حركة عمادها الخبرة والثقة في الذات والرؤى الجديدة النافذة التي لاحت لهم من خلالها طرق لم يسلكها أحد من قبل في الثقافات التي خلت. أصبحت العربية بأعمالهم لغة كل المعارف وأصبحت المدن الإسلامية مراكز يقصدها طلاب العلوم. أما عن أصول هؤلاء الاجتماعية فلقد تعددت تعدد فئات المجتمع حين ذاك، كان منهم الحرفيون والتجار والكتّاب والفقهاء، كان بينهم متوسطو الحال كما كان منهم الملوك والأمراء من أمثال المؤتمن بن هود ملك سرقسطه والأمير ابن عراق موضوع الدراسة الموجزة التي نقدمها هنا.
1 ــ حياة ابن عراق
أبو نصر منصور بن علي بن عراق من علماء الرياضيات وعلم الهيئة الرياضي من النصف الثاني للقرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) وأوائل القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي)، لا ندري على وجه الدقة تاريخ ميلاده ويوم وفاته. إلّا أن أبا الريحان البيروني يذكر في كتابه "الآثار الباقية" أن ابن عراق كان أستاذه. ونعرف على وجه اليقين تاريخ ميلاد البيروني وهو سنة 362هـ/972م في خوارزم. فإذا افترضنا أن الفرق بين الأستاذ والتلميذ فرق جيل، أي عقدين ـ وهو فرض معقول ـ يكون تاريخ ميلاد ابن عراق حوالى 950 ميلادية بالتقريب. ومما يدعم هذا الفرض أننا نعرف أن ابن عراق درَّس البيروني في حدود سنة 990م عندما كان أبو الريحان في الثامنة عشرة من عمره. ولقد وافت ابن عراق المنية بعد سنة 1017 - 1018م بعد خروجه إلى غزنة (أفغاسستان الآن) مع السلطان محمود الغزنوي عند استيلاء هذا الأخير على خوارزم.
لم تنقل لنا كتب طبقات العلماء مثل فهرست النديم وتأريخ الحكماء للقفطي، الخ شيئاً عن ابن عراق؛ أما عن كتب التاريخ -أي الحوليات – فكان جلّ اهتمامها بالملوك ورجال الدولة والدين تسرد أخبارهم ووقائعهم وغزواتهم، ولم تعرض للعلماء إلا لماماً وبالصدفة. منها نعرف أن بني عراق حكموا خوارزم وأن خليفة خوارزمشاه المأمون، أي أبا العباس المأمون بن المأمون كان قد تزوج أخت السلطان محمود الغزنوي الذي استولى على كاث عاصمة خوارزم في الثالث من يوليو سنة 1017م بعد أن قتل الثوار أبا العباس في شهر مارس من هذه السنة؛ بهذا يكون قد انتهى حكم الخوارزمشاه، أي الأسرة التي كان ينتمي إليها ابن عراق. هذا ما نقرأه في كتاب الكامل لابن الأثير، وكتاب تجارب الأمم لابن مسكويه وغيرهما وخاصة في «شرح اليميني المسمى بالفتح الوهبي على تاريخ أبي نصر العتبي للشيخ المنيني». وستكرر كتب التاريخ الأخرى مثل كتاب "العبر" لابن خلدون و"البداية والنهاية" لابن كثير هذه الأخبار. اصطحب السلطان محمود عند عودته إلى غزنة أسرة أبي العباس بمن فيهم ابن عراق وكذلك تلميذه البيروني. وسيقيم ابن عراق في غزنة حتى وفاته.
هذه خلاصة ما أتى به المؤرخون وهو قليل. وأكثر ما نعرفه عن ابن عراق هو ما رواه تلميذه – وأي تلميذ هو! – أبو الريحان البيروني وما ذكره صاحب "چهار مقالة" العروضي السمرقندي.
يذكر البيروني في "الآثار الباقية" أن ابن عراق كان من نسل ملوك خوارزم القدماء قبل الإسلام، الذين «بقيت الولاية (ولاية خوارزم) بعد ذلك تتردد في هذه القبيلة، مرة وفي أيدي غيرهم – إلى أن خرجت الولاية والشاهية كلتاهما منهم بعد الشهيد أبي عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن عراق»، يعني أبا العباس. ويضيف البيروني عند حديثه على تقويم سنين وشهور خوارزم: «وقد اقتفى أبو سعيد أحمد بن محمد بن عراق أثر المعتضد بالله في كبس شهور أهل خوارزم، وذلك أنه لما أُنشط من عقاله وحُلّ من رباطه ببخارا، ورجع إلى دار ملكه، سأل من كان بحضرته من الحُسّاب عن يوم إجفارا»؛ وهذا يشهد على تمكن الولاية في أسرة ابن عراق وقدمها.
ويحدثنا العروضي السمرقندي فيقول: «كان لأبي العباس مأمون خوارزمشاه وزير اسمه أبو الحسين أحمد بن محمد السهلي، كان حليم الطبع، كريم النفس فاضلاً، وكذلك كان خوارزمشاه حكيم الطبع صديقاً لأهل الفضل، وبفضلهما اجتمع كثير من الحكماء وأهل الفضل في هذه الحضرة مثل أبي علي بن سينا وأبي سهل المسيحي وأبي الخير الخمار وأبي الريحان البيروني وأبي نصر عراق، وكان هذا ابن أخي خوارزمشاه، وكان يلي بطليموس في علم الرياضة وأنواعه».
من العروضي السمرقندي نعرف إذاً أن الأمير أبا نصر بن عراق كان ابن أخ أبي العباس خوارزمشاه، وأنه كان من بين هذه النخبة من الفلاسفة والعلماء التي جمعها الوزير السهلي في حاشية أبي العباس. ومن ابن عراق نفسه نعرف بعض آرائه في الباطنية، وكذلك في أمور أخرى حول عقيدة الإمامة، فيذكر في رسالته عن «رؤية الأهلّة» مشاركته في نقاش مع «فرقة من الغالية» في أمور الدين حول مسائل متعلّقة بأمور فلكية ذات دلالة دينية مثل رؤية الهلال وبداية صوم رمضان: «وقد كنت أنا كثير الاجتماع مع هؤلاء القوم والمناظرة إياهم، فمرة مجاهراً بالمخالفة، ومرة مستتراً بالمقاربة، إذ كان الزمان في أيام أبي عبد الله خوارزمشاه زماناً يوجب ذلك خاصة على أمثالي، فتجاريت في هذا الذي عملوا عليه أول الصوم يوماً من الأيام، أنا ورئيس من رؤسائهم، عظيم الشأن فيهم رفيع المكان من بينهم، داعي أبي عبد الله خوارزمشاه في مملكته».
كان محور هذا النقاش عميق المعنى مهم المغزى، فهو يدور حول سؤالين: هل ما يعرفه العلماء بالتقريب يعرفه الله على وجه التحقيق أو بالتقريب أيضاً؟ هل عصمة الأئمة تمتد من أمور الدين إلى مسائل الفلك والعلوم؟ وهذه الأسئلة تبين أن ابن عراق كان يهتم أيضاً بأمور فلسفية ودينية. بقي السؤال عن شيوخ ابن عراق من العلماء والرياضيين. كل ما نعرفه في هذا الأمر هو ما صرح به ابن عراق نفسه بإيجاز شديد؛ فهو يذكر أبا الوفاء البوزجاني الرياضي وعالم الهيئة البغدادي الإقامة.
2 ــ مؤلفات ابن عراق
والآن وقد فرغنا من سرد القليل الذي نعرفه عن حياة ابن عراق، علينا أن نذكر رسائله وأعماله. هنا أيضاً لن تسعفنا كتب الطبقات، قديمها وحديثها.
وصل إلينا من مؤلفات ابن عراق رسائله التي بعث بها إلى تلميذه البيروني وهي في مخطوطة في مكتبة خدابخش بتنة بالهند نشرت من دون تحقيق سنة 1948م. وترجم J. Samso إلى الإسبانية ست رسائل منها ووصل إلينا أيضاً كتاب «إصلاح كتاب منالاوس في الأشكال الكرية» الذي حققه M. Krause ونقله إلى الألمانية. ويمكن قسمة هذه الأعمال إلى مجموعتين، رياضية وفلكية.
أما الرياضية، فلم تصلنا جميعها. فبحوث ابن عراق الرياضية لم تقتصر على الهندسة الكروية التي ارتبط اسمه بها، بل تمتد أيضاً إلى ميادين أخرى كتب فيها ولم تصلنا مؤلفاته فيها، كما يشهد على ذلك عمر الخيام في رسالته «في ربع الدائرة»(12)، يقول الخيام: «وأبو نصر بن عراق مولى أمير المؤمنين من أهل خوارزم كان يحلّ المقدمة التي أخذها أرشميدس في استخراج ضلع المسبع في الدائرة، وهي تقوم على المربع بتلك الصفة المذكورة، وكان يستعمل ألفاظ الجبريين، فأدى التحليل إلى مكعب وأموال يعدل عدداً، فاستخرجه بالقطوع. وهذا الرجل، لعمري، كان متعالي الطبقة في الرياضيات».
وشهادة الخيام هذه تبين لنا عدة أمور:
- بحث ابن عراق في مسائل من علم الجبر.
- اشترك في نقاش في مسألة شغلت كبار الرياضيين في زمانه مثل القوهي والصاغاني وأبي الجود بن الليث والسجزي والشني وكذلك الحسن بن الهيثم، أو كما يقول الخيام الطبقة العليا في الرياضيات.
- أن ابن عراق ألف رسالة في عمل المسبع لا تذكرها فهارس المؤرخين مما يدل على ضياع بعض أعماله الرياضية.
- أن ابن عراق هو مع الماهاني وأبي جعفر الخازن من أوائل من قاموا بترجمة مسائل هندسية مجسمة إلى معادلة جبرية من الدرجة الثالثة، وبحسب رواية الخيام هو أول من نجح في حلها مستعيناً بتقاطع قطعين مخروطين وهذه المعادلة هي:
x3 + ax2 = c , (a > 0, c > 0)
وفي أغلب الأحوال حل ابن عراق هذه المعادلة بتقاطع قطع مكافئ وقطع زائد. وربما كان هذا الحل هو ما نجده في رسالة الخيام "في الجبر والمقابلة"، مسألة رقم 16. وهناك شاهد آخر على تعالي ابن عراق في الرياضيات، وهو لجوء البيروني إليه لحل مسائل هندسية، هذا عدا ما قام به في حساب المثلثات الكروية الذي كان من أهم مخترعيه.
وصل إلينا من رسائله الرياضية:
- ضميمة كتاب "الأصول".
- رسالة في الجواب عن بعض مسائل هندسية.
- رسالة في معرفة القسي الفلكية بعضها من بعض.
- إصلاح كتاب منالاوس في الأشكال الكرية.
- وهناك كتاب يذكره ابن عراق عدة مرات وكذلك البيروني في كتابه في استيعاب الوجوه في عمل الأسطرلاب هو تهذيب التعاليم، الذي فقد على ما يبدو.
تنقسم هذه الرسائل – التي وصلتنا على الأقل- إلى قسمين بدورها: الهندسة الإقليدسية والهندسة الكروية. فالرسالتان، الأولى والثانية، هما في الهندسة الإقليدسية، فلنقف قليلاً مع الثانية لبيان عمل ابن عراق في هذا المجال.
يقول ابن عراق في صدر رسالة إلى البيروني «في الجواب عن مسائل هندسية سأل عنها» يقول: «وصلت المسائل التي قرنتها بكتابك، وذكرت أن ثلاثاً منها قد تضمّنها كتاب أبي سهل القوهي في "البركار التام"، وأنه أحال فيها على كتابه "في إحداث النقط على الخطوط على نسب السطوح". فلما لم تفز بهذا الكتاب، سألت بعض مهندسي زماننا عنها، فأجاب مستعيناً فيها بخواص القطوع. ولم يطب قلبك بذلك، إذ كانت هي مقدمات لإيجاد القطوع، سابقة المرتبة إياها. وسألتني عملها بالأصول الهندسية والطرق الصناعية، وعمل سائر المسائل المقرونة بها، فأجبتك إلى ملتمسك».
هذا النص -مع كثير غيره – له دلالة علينا التنبه إليها، فهو يبين وجود مدينة رياضية يشترك أفرادها في بحث جماعي لحل المسائل المطروحة، ولهذا ازدادت في هذه الحقبة المراسلات العلمية مثل تلك التي كانت بين السجزي وعلماء خرسان. ويبين هذا النص أيضاً اهتمام علماء الرياضيات بنظرية البرهان الرياضي وأسسه المنطقية. ولبيان هذا فلنرجع إلى ابن عراق الذي يقول إن أبا سهل القوهي ألف كتاباً مهماً في البركار التام، وهو البركار الذي به يمكن رسم الخطوط المستقيمة والدوائر والقطوع المخروطية جميعها، وضع فيه نظرية رياضية ليشرح عمل البركار التام. ولبناء هذه النظرية قدم القوهي مقدمات هندسية كان قد برهنها في كتاب آخر سماه "إحداث النقط على الخطوط".
لم يعثر البيروني على هذا الكتاب ولم يُعثر عليه إلى الآن. أما عن المقدمات فكانت أشكالاً من الهندسة المسطحة احتاجها القوهي لبرهان أشكال في القطوع المخروطية، أي أشكال في الهندسة المجسمة. أرسل البيروني هذه المقدمات لرياضيين آخرين فبرهنوا عليها بالقطوع المخروطية مما لم يرضه لأن البرهان يجب أن تُراعى فيه البساطة المنطقية والأناقة أيضاً. فالتسلسل المنطقي يلزم أن يكون البرهان بأبسط الوسائل إن كان هذا ممكناً؛ والأبسط هنا هو برهان مقدمات الهندسة المسطحة بوسائل هذه الهندسة. كانت هذه المسألة المتعلّقة بنظرية البرهان موضع نقاش بين رياضيي هذا الزمان مثل السجزي. لهذا لجأ البيروني إلى ابن عراق. ولنأخذ للإيضاح ….
لمتابعة قراءة هذا المقال يمكنكم تنزيله كاملا من ملف PDF المرفق.
سبق نشر هذا المقال في مجلة شباب التفاهم في 30 سبتمبر 2021
– https://shababtafahom.om/post/2452/عندما-كان-الأمير-عالما
للتواصل مع الكاتب: rashed@paris7.jussieu.fr
رشدي راشد
مدير أبحاث فخري بالمركز القومي الفرنسي للأبحاث العلمية، وبجامعة باريس
أستاذ فخري بجامعة طوكيو.
متخصص في فلسفة وتاريخ الرياضيات والعلوم
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء المؤلفين وليست، بالضرورة، آراء منظمة المجتمع العلمي العربي
يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة