تستهلك المباني التقليدية كميات هائلة من الطاقة لتوفير التدفئة والتبريد والتهوية مما يجعل كلفة اشغالها مرتفعة نسبيا. لذلك، يشهد العالم تحولا واسعا نحو المباني الذكية التي تستخدم التكنولوجيا للتحكم في استهلاك الطاقة وزيادة مستوى الراحة الداخلية مع احترام النظام البيئي المحيط بها، مع استخدام مصادر الطاقة المتجددة لخفض التكاليف إضافة إلى تقليل الانبعاثات الملوثة للبيئة. وقد عمل المهندسون المعماريون على تطوير العديد من التقنيات التي تمكن من الاستفادة المثلى بشكل "سلبي" أو طبيعي، من العوامل البيئية المحيطة -مثل أشعة الشمس والتظليل والتهوية -بدلا من استخدام أنظمة التدفئة والتبريد النشطة مثل تكييف الهواء والتدفئة المركزية، مما يتيح خفض استهلاك الطاقة بنسبة كبيرة مقارنة بالمباني العادية.
وقد أجرى باحثون من مخبر "النمذجة والهندسة العددية" بالمدرسة الخاصة للهندسة والتقنيات التطبيقية بسوسة تونس عددا من عمليات النمذجة الرقمية لدراسة وتقييم الأداء الحراري لتقنيتين معروفتين في هذا المجال هما جدار ترومب والمدخنة الشمسية، في بيئة شبه جافة مثل تلك التي تسود في تونس وعدد من البلدان العربية.
جدار ترومب (Trombe Wall) هي تقنية ابتكرها مهندس فرنسي فليكس ترومب في سنوات الخمسينات والستينات من القرن الماضي. وه عبارة عن جدار يشيد في الواجهة الجنوبية للمباني في شمال الكرة الأرضية. ويكون مطليا بلون غامق لامتصاص الطاقة الحرارية من ضوء الشمس الساقط ومغطى بزجاج من الخارج مع فجوة هوائية عازلة بين الجدار والطلاء الزجاجي.
نموذج لجدار ترومبي
وعلى عكس الأنظمة النشطة لالتقاط أشعة الشمس وتستخدم الأجهزة والمعدات الميكانيكية لجمع الحرارة أو نقلها، فإن جدار ترومب هو نظام تسخين شمسي سلبي، تتدفق الطاقة الحرارية عبره بالوسائل الطبيعية مثل الإشعاع والتوصيل والحمل الطبيعي. ونتيجة لذلك، يعمل الجدار عن طريق امتصاص ضوء الشمس على واجهته الخارجية ومن ثم نقل هذه الحرارة عبر الجدار عن طريق التوصيل. ويتم بعد ذلك توزيع الحرارة التي يتم توصيلها عبر الجدار إلى الفضاءات الداخلية للمبنى عن طريق الإشعاع والحمل الحراري، من السطح الداخلي للجدار.
تقول الدكتورة هناء عوينات مديرة المدرسة والباحثة بالمخبر في حديث خاص لموقع منظمة المجتمع العلمي العربي إن الجدار "يقوم بامتصاص الحرارة ويمنع الحاجز الزجاجي الحرارة من المغادرة ويحافظ عليها في فصل الشتاء. أما في الصيف فيستخدم في تبريد البناء بفتح منفذ في أعلى الجدار لتتحرر من خلاله الحرارة المخزنة في داخل المبنى".
وبحسب الباحثة فإن الأبحاث التي قام بها فريقها "تأخذ بعين الاعتبار الخصوصيات المناخية لتونس التي تتميز بمناخ شبه جاف بهدف تحديد أفضل المواد التي يمكن استخدامها لبناء الجدار والمسافة المناسبة التي تعطي أفضل مردودية". ثم يتم إثر ذلك "مقارنة النتائج التي نتوصل إليها بالبيانات الحقيقية المتوفرة في العالم للتحقق منها، قبل أن توضع على ذمة المهندسين المعماريين لاعتمادها في انشاء البناءات الذكية المقتصدة للطاقة".
وأظهرت نتائج عمليات النمذجة التي قام بها الفريق ، أن المسافة المناسبة التي يجب أن تفصل الجدار والزجاج هي 10 سنتيمترات مع استخدام الألياف الزجاجية للكلوريد متعدد الفاينيل PVC. وإذا كانت الغرفة بشكل مربع كما هو في البناء التونسي يتعين أن يكون المنفذ الهوائي على بعد 5 سنتيمترات من السقف.
وتؤكد الدكتورة عوينات أن "هذه النتائج تتيح إمكانية توقع الكلفة الحقيقية للبناءات الذكية التي تستخدم هذه التقنية في تونس، كما يمكن استخدامها في البلدان الأخرى التي تتمتع بمناخ مشابه مثل المغرب والجزائر"، مشيرة إلى أن مثل هذه البيانات متوفرة في المناطق ذات المناخ المختلف لاسيما الباردة منها، إلا أنها غير متوفرة بالنسبة للظروف المناخية السائدة في تونس وفي المناطق شبه الجافة.
أما التقنية الثانية التي قام الباحثون التونسيون بدراستها فهي المدخنة الشمسية -التي يشار إليها غالبًا باسم المدخنة الحرارية – وتعتبر طريقة لتحسين التهوية الطبيعية للمباني باستخدام الحمل الحراري للهواء الذي يتم تسخينه بواسطة الطاقة الشمسية السلبية.
وتتكون المدخنة الشمسية في أبسط أشكالها من مدخنة مطلية باللون الأسود، تعمل الطاقة الشمسية على تسخين الهواء بداخلها خلال النهار، مما يؤدي إلى تشكل تيار هوائي صاعد فيها. ويستخدم الشفط الناتج في قاعدة المدخنة لتهوية وتبريد المبنى بالأسفل. قديما، كانت هذه المداخن تستخدم كذلك طاقة الرياح للتهوية كما هو الحال بالنسبة للملاقف التي اشتهرت بها بغداد ومدن أخرى في الشرق الأوسط خلال العصر العباسي. وهي أبراج متصلة بالمباني للتبريد، كانت تجهز بها المساجد والمشافي على نطاق واسع.
تصميم مبسط للمدخنة الشمسية
وقد أظهرت الأبحاث التي قام بها الباحثون في المدرسة الخاصة للهندسة والتقنيات التطبيقية بسوسة أن استخدام المدخنة الشمسية يمكن من خفض انبعاثات غاز ثاني أوكسيد الكربون المسبب للاحترار بحوالي 30 بالمائة.
يعمل الباحثون حاليا، وفقا للدكتورة هناء عوينات، على تطوير وحدات سكنية ذكية مسبقة الصنع يمكن تجميعها وتفكيكها ونقلها عند الحاجة. وسيتم التحكم في مكوناتها مثل الأستر والشبابيك والأبواب والتجهيزات التي تحتويها بالذكاء الصناعي لضبط التهوئة والحرارة والإضاءة بداخلها مع الاعتماد بشكل خاص على التقنيات التي تتيح الاستفادة "سلبيا" من الطاقة الشمسية مثل جدار ترومب والمدخنة الحرارية.
المصادر
الدكتورة هناء عوينات من مخبر "النمذجة والهندسة العددية" بالمدرسة الخاصة للهندسة والتقنيات التطبيقية بسوسة
تواصل مع الكاتب: gharbis@gmail.com
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء المؤلفين وليست، بالضرورة، آراء منظمة المجتمع العلمي العربي
يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة