الحديث عن تاريخ العلوم عادة ما يطولُ ويتَشعبُ ليقفَ بنا أمامَ سؤالٍ ما انفك يُلحُّ على المؤرخين: أين ومتى بدأ هذا البحثُ الذي ما فتئ يهمُ المؤرخين للحضارة ويستلهِمُه فلاسفة العلوم؟ وردي على هذا السؤال هو أن تاريخ العلوم لم يرَ النور قبل القرن الثامن عشر وفي قلب فلسفة التنوير. وربما يتعجب البعض من هذا الرد وينكرونه مستشهدين على ذلك بما كتبه السلف في تاريخ العلوم؛ وأعني بالسلف العلماءَ والمؤرخين على وجه السواء، من أي جنس ومن أية ملة كانوا. فلنأخذ أرخميدسَ على سبيل المثال، فهو يقص علينا في فاتحة رسالته عن الكرة والأسطوانة نبأ سابقيه من علماء الإسكندرية مثل قونون وتلامذته قبل أن يستأنف هو نفسه البحث ويتعمق فيه.
لم يسلك أرخميدس في هذا الأمر مسلكًا فريدًا، بل يبدو أن هذا النهج في التأليف تشارك فيه كبار رياضيي اليونان. فأبلونيوس، خليفة أرخميدس لم يتوان في سفره الضخم في المخروطات أن يُحدث بما قدمه السابقون قبل أن يأخذ على عاتقه البحث الجديد. لم يقتصر الأمر على علماء الإسكندرية، بل تجاوزهم إلى علماء الإسلام الذين أبدعوا صورًا أخرى لممارسة التاريخ. فعمر الخيام، على سبيل المثال، يسرد في أول جبره ما أتى به الخازن، والقوهي، وأبو الجود بن الليث، لحل المعادلات التكعيبية بالهندسة، قبل أن يصوغ مشروعه الجبري، وقبل أن يشرع في تفصيله وتحقيقه. والجدير بالملاحظة هو أن كل هذه المقدمات التي كتبها الرياضيون هي تأريخ للرياضيات بمعنى خاص، ففيها يذكّرون بنتائج السلف لبيان ما انتهوا إليه قبل مواصلتهم البحث وعرض ما تيسر اكتشافه. وهذا النوع من التأليف التاريخي لم يكن بالنوع الوحيد؛ بل ظهرت أيضًا منذ القديم، وخاصة عند المسلمين، كتب الطبقات، التي سجل فيها أسماء العلماء، وبعض وقائعهم الصحيحة، والمتخيلة، وعناوين رسائلهم العلمية. والشواهد على هذه عديدة، منها فهرست النديم، وتأريخ القفطي وطبقات ابن أبي أصيبعة، وكتب ابن جلجل، وصاعد، وغيرهم.
كانت هذه الكتابات المرجعية الهامة تهدف إلى التذكير والتسجيل، ولم تقصد تتبع هذا العلم أو ذاك، في ذاته، لبيان كيف أصبح على ما هو عليه في عصر من العصور، وما قابله من عقبات، تغلب على بعضها، أو كان لها جُلّ الأثر في تغيير مجراه وابتكار بنيات نظرية جديدة، وهذا السعي يتطلب نهجًا جديدًا في الدراسة والتحليل. فعلى المؤرخ حينئذٍ تتبع وصف البنيات النظرية، وظروف تكونها، وما قامت عليه. هذا الأسلوب في التاريخ لم يبدأ، حسب علمي، قبل القرن الثامن عشر، ومع فلسفة التنوير، لأسباب عدة: التراكم العلمي من جهة، وتأسيس الأكاديميات- أي مراكز البحوث- من جهة أخرى. ازداد التراكم العلمي ابتداءً من النصف الثاني من القرن السابع عشر، وذلك لدخول ميادين جديدة إلى حقل العلم، وأعني بذلك الميكانيكا، وحساب التفاضل، على وجه الخصوص، وفي نفس هذه الحِقْبة ترعرعت الأكاديميات، مثل الأكاديمية الملكية في لندن، وقرينتها في باريس من بعد. ويجب أن ننتبه إلى أن هذه الأكاديميات كانت بمثابة مراكز للبحث العلمي، ولم تكن أكاديميات بالمعنى الحاليّ للكلمة. وكان لهذه الأكاديميات على تصاريف الأحوال أثر فعال في ظهور نوع أدبي جديد، الا وهو التكريم أو التبجيل الأكاديمي الذي كان له بدوره جُلّ الأثر في هذه الوثبة التي سيقوم بها فيما بعد التأريخ للعلوم. إذا نظرنا إلى هذا النوع الأدبي الجديد، سنجده، في أكثر الأحوال، سردًا لتاريخ الحقل الذي تميز فيه العالم المُبجل، لبيان الأسباب التي دعت إلى تكريمه، واختياره عضوًا في المجتمع الأكاديمي. هذا ما نقرأه في حوليات الأكاديمية الباريسية، على سبيل المثال، بقلم Fontenelle أو Condorçet. ولقد أغنت هذه الخطابات الأكاديمية مادة تاريخ العلوم بأبحاث ووثائق ومصادر لم يكن لها وجود من قبل. أما صورة تاريخ العلوم- إذ استعرنا اللغة الأرسطاطاليسية- فمنبعها هو فلسفة التنوير، وذلك لحاجتها هي نفسها إلى تاريخ العلوم. فتاريخ العلوم يؤدي وظيفتين مترابطتين على اختلافهما عند فلاسفة التنوير: فهي الأداة اللازمة لتعريف الحداثة في سياق جدل عقائدي امتد بين منتصف القرن السابع عشر ومنتصف القرن الثامن عشر على الأقل.
فمن المعروف أن العلماء والفلاسفة قد أثاروا حينئذٍ قضية «القديم والحديث» وأشاروا في تعريفهم للحداثة إلى العلم الذي يقوم على البرهان القياسي والتجربة. هذا ما يخرج به قارئ رسالة بسكال عن الخلاء، كما ينتهي إليه الناظر في كتاب مالبرانش البحث عن الحقيقة. والوظيفة الثانية لتاريخ العلوم عند فلاسفة التنوير مرتبطة أشد الارتباط بجوهر فكرهم، أعني فص هذه الفلسفة نفسها، ألا وهو مفهوم التقدم المستمر للحقائق، أو التراكم المستمر لها، والاستبعاد والتخلص أيضًا من الأخطاء المكتسبة، التي أفسدت الطبيعة الإنسانية، وحجبت عنها «النور الطبيعي» الذي جبلت عليه.
هذا بإيجاز شديد ما نجده عند فونتيل، ودلامبير، وكوندرسيه، على سبيل المثال لا الحصر، كلّ من هؤلاء يرجع تاريخ الإنسانية، أو تاريخ تقدم الإنسانية، إلى تاريخ العلوم وتقدمها، مما ألزمهم بصياغة جديدة ومستقلة لميدان تاريخ العلوم. ومن ثم لم يعد كافيًا إحصاء العلماء ووقائعهم ونتائجهم، بل أصبح من الواجب اللازم معرفة الفترات المتعاقبة، وبنية كلّ منها، وخصائصها. هذا ما رآه كوندرسيه أمرًا لا معْدى عنه عندما كتب كتابه المشهور عن تقدم الذهن الإنساني، ففيه يقوم بتقسيم التاريخ إلى فترات، لبيان التقدم المستمر الذي حكم الانتقال من فترة إلى أخرى. بهذا الفهم الجديد لم يعد ممكنًا غض النظر عن التعمق في دراسة التراث العلمي. وبالفعل هذا ما حاوله مبسطًا كوندرسيه، في كتابه الذي ظهر فيه العلم العربي كإحدى فترات التاريخ. ومن يومئذٍ لم ينقطع اهتمام فلاسفة العلوم ومؤرخيها بالعلم العربي. فعلى غرار كوندرسيه، رأى البعض في العلم العربي استمرارًا لتقدم «الأنوار» في فترة هيمنت فيها «الخرافات والظلمات» على بقاع الأرض الأخرى، أي أوروبا العصر الوسيط؛ ورأى آخرون الشروع في دراسة متمحصة لتاريخ هذا الفرع أو ذاك لرسم معالم اللوحة التاريخية لتطور العلوم، وكذلك لإحصاء الوقائع والنتائج العلمية لهذا الفرع. هذا ما حاوله Montucla في سفره الضخم عن تاريخ الرياضيات.
غير أن فقر المعلومات ووعورة الدرب كانت أعظم مما وقع في مخيلة هؤلاء الفلاسفة والمؤرخين، فبضاعتهم من العلم العربي لم تكن غنية ولا كافية لفهم ما تم، فإنها لم تكن سوى أصداء حملتها إليهم الترجمات اللاتينية القديمة. وهنا علينا أن ننتبه وأن نحترز من الإفراط في التعميم، ونذكر أن الصلات بين الميادين العلمية وتواريخها تختلف من علم إلى آخر. فعلم الهيئة مثلًا هو بين العلوم الرياضية أوثقها ارتباطًا بتاريخه وذلك لضرورة معرفة الفلكي بقيم أرصاد أسلافه المختزنة في كتبهم على امتداد الزمن. ويبدو أن هذا السبب كاف لتفسير هذا الارتباط الوثيق، ولبيان لِمض كان علم الهيئة مميزًا بما ناله من اهتمام مبكر من المؤرخين أمثال Delambre, Sédillot, Caussin de Perceval. إن اقتصرنا على ذكر بعض المؤرخين الفرنسيين من مطلع القرن التاسع عشر.
ما لبثتْ صورة العلم العربي، في مجرى ذلك القرن- أن تغيرت واكتست بشوائب عدة غمضتْ معها صورته واستبيحت ساحته، ولهذا بحث يطول نذكّر هنا بعناوينه فقط. كان في البدء الفلسفة الرومانسية الألمانية، والمدرسة اللغوية التي تولدت منها: Franz Bopp, F. Von Sechlegel, Max Müller. كان لهذه المدرسة جُلّ الأثر في العلوم التاريخية، فدفعت بها دفعًا قويًّا. من هذا الدفع استفاد تاريخ العلم العربي أولًا قبل أن يصبح من ضحاياه لاحقًا. ولنفسر هذا. بدأ مع هذه المدرسة الألمانية، دون أدنى شك، دراسة تاريخ اللغات درسًا مكثفًا ومقارنًا. لكن سرعان ما تحول هذا الدرس للغات إلى دراسة التاريخ باللغات، أعني إلى التمييز بين الأجناس والعقليات حسب اللغات، هناك اللغات الآرية وهناك اللغات السامية، الأولى صالحة لعقلية علمية فلسفية، والثانية لذهن «ديني شعري» ومهما كان الأمر، كان من الطبيعي والمتوقع أن يزداد الإحساس بالتاريخ نفاذًا ووضوحًا. وهذا ما تم، وازداد الاهتمام بالنصوص اليونانية واللاتينية، ونشطت دراستها نشاطًا جمًّا. ولكن دراسة هذه النصوص، وخاصة اليونانية، والعلمية منها، ألزم بالاهتمام بدراسة النصوص العربية نفسها، فكثير من الأصول اليونانية لم يُقدر لها البقاء إلا في الترجمات العربية. إلا أن دراسة التاريخ بواسطة اللغات كانت بمثابة شرك يحاك لتاريخ العلم العربي: من جهة نظرية خالصة لم يكن للساميين الحق في العلم والفلسفة تبعًا لرأي هذه المدرسة في اللغة وارتباطها بالعقلية، ومن ثم لم يبق للعلم العربي شرعيًّا الحق في الوجود؛ ولكن من جهة واقعية كان هذا العلم العربي يفرض نفسه أكثر فأكثر على المؤرخين الذين تزايد رجوعهم إليه.
ودام هذا التناقض أكثر من قرنين، ولا تزال آثاره عند جمهرة المؤرخين. والغريب العجيب أن هذا التناقض لم يحكم مؤلفات ثانوية في تاريخ العلوم ولم يقتصر عليها، بل نراه يطبع بطابعه مؤلفات هامة مثل نظام الكون لـ Pierre Duhem. ويبدو لي أن هذا التناقض كان لا مفر منه، فمهما كانت نظرة المؤرخ العقائدية، في هذا الوقت، لم يكن باستطاعته تفادي العلم العربي لدى تصديه لوقائع المادة العلمية التي كان يرغب في التأريخ لها. ومن ثم إن كان هذا أو ذاك المؤرخ لا يرى في العلم إلا ظاهرة أوربية خالصة، لم يعد يمكنه أن ينظر إلى العلم العربي نظرة مستقيمة صائبة. ففي أحسن الأحوال لم يرَ فيه إلا خزانة لترجمات يونانية، ولم يعتَبِره إلا علمًا يونانيًّا محدثًا. لم يبق إذًا، حسب هذه الرؤية، للعلم العربي إلا دورٌ واحدٌ: فهو حقل للتنقيب، يحفر فيه المؤرخ بحثًا عن آثار الحضارة والعلم اليوناني. ولقد أسرف البعض في هذا، وما زالوا، مما أدى إلى تشويه نتائج العلم اليوناني، وإلى سوء فهم ما تم في القرن السابع عشر على السواء. فلقد قرأ الكثير في العلم اليوناني ما لم يكن فيه، واستقر في وهم آخرين أن علم القرن السابع عشر هو ثورة عليه من أوله إلى آخره. وأدى هذا أيضًا إلى هفوات مشهورة، أذكر منها واحدة فقط، وقع فيها مستشرق مشهور ومؤرخ معروف، منعت هذه النظرة مترجم تذكرة نصير الدين الطوسي، المستشرق Carra de Vaux، كما منعت المؤرخ P. Tannery الذي درس هذه الترجمة، من أن يتنبها إلى ما تحويه رسالة الطوسي من هيئة جديدة مختلفة عن هيئة بطلميوس ولم يصحح هذا الأمر إلا Neugebauer فيما بعد.
كان لهذه النظرة العقائدية للعلم العربي الصدارة والسيطرة طوال القرن التاسع عشر والقرن العشرين، إلا أنها لم تكن النظرة المتفردة. كان هناك أيضًا نظرة أخرى جانبية، دعا إليها القليل من المؤرخين الذين لم يأخذوا برؤية المدرسة الرومانسية الألمانية، وأولهم A. Von Humboldt. اهتم هذا الاتجاه ببيان ما يحمله العلم العربي من سمات أصيلة كشفت عنها دراسة متأنية ومباشرة لتاريخ العلوم العربية. ونذكر من علماء هذه المدرسة:
F. Woepcke, J.L. sédillot, Wiedemann, Hirchberg, Suter, Kraus, Luckey, and Nazif.
هذا مما أدى، ابتداءً من العقد الخامس من القرن العشرين، إلى تسارع لم يُسبق له مثيلٌ لهذا التيار من البحث التاريخي. وأدى تراكم هذه البحوث إلى فتح الطريق لفهم أدق وأوعى لتاريخ العلم العربي، ولإسهامه في العلم الكلاسيكي، كما سمح أيضًا بإدراك السمات الأساسية لهذا العلم، وهي سمات لم تدرك بعد حق الإدراك، وهذا ما سأعرض له الآن.
2
إن أراد الدارس المتعمق للعلم العربي أن يصفه جملة، أي يصف جوهره، ظهر له بوضوح شديد أن هذا العلم ما فتئ يحقق ما كان كُمًون الوجود في العلم اليوناني. فما يجده عند علماء الإسكندرية جنينيًّا، أعني هذا الاتجاه لتخطي حدود منطقة ما ولكسر طوق ثقافة معينة لاكتساء أبعاد العالم بأسره، نراه قد أصبح واقعًا مكتملًا في علم تطور حول حوض البحر المتوسط لا كرقعة جغرافية فحسب، بل كبؤرة تواصل وتبادل لكل الحضارات التي ترعرعت حول هذا الحوض، مركز العالم القديم، وكذلك في أطرافه؛ فكلمة «عالمي» هي أنسب وأصح الكلمات لوصف هذا العلم العربي الجديد: كان هذا العلم عالميًّا بمنابعه ومصادره، عالميًّا بتطوراته وامتداداته.
فعلى الرغم من أن أغلب مصادره ومنابعه هيلستينية إلا أنها تضمنت أيضًا مؤلفات سريانية وسنسكريتية وفارسية. من المعروف أن هذه الينابيع لم يتدفق منها نفس الفيض ولم يكن لها نفس التأثير. ولكن الجدير بالالتفات إليه هنا هو تعددها واختلاف أصولها، فهذا التعدد وذاك الاختلاف كان لهما دورٌ هامّ في صياغة بعض ملامح العلم العربي. هذه السمة تشترك فيها كل حقول العلم بما فيها أكثر الحقول يونانية مثل الرياضيات. من الممكن دون أدنى تردد أو حرج نعت الرياضيات بهذه الصفة لأنها وريثة الرياضيات اليونانية. ولكن إذا أحببنا التأريخ للرياضيات العربية علينا العودة إلى المصادر الأخرى من بابلية وسنسكريتية لفهم ما تم في حساب المثلثات وفي التحليل العددي. والمؤرخ الواعي، المدقق، لا يفوته في هذه الحال أن يقف على الإطار الجديد للرياضيات، قبل أن يغوص في دراسة النتائج المورثة، عليه أن يحلل، ويصف ظواهريًّا، إن صحت الكلمة، اشتراك كل هذه التقاليد الرياضية واندماجُها- من يونانية وفارسية وسنسكريتية- في المجتمع الجديد، أعني انصهارَ كل هذه التقاليد تحت قبة الحضارة الإسلامية.
ومما يجب الانتباه له أيضًا، أن هذه الظاهرة لم تكن وليدة الصدفة، ولا نتاج الحظ. فالتقاليد العلمية التي تمثلها علماء الحضارة الإسلامية لم تنقلها قوافل التجار، ولا سفن البحارة، ولا جيوش المجاهدين، بل كانت ثمار تنقيب وبحث عن كتب القدماء، قام بهما علماء فحول، نقلوا بنشاط جم الكتب العلمية والفلسفية، بدعم من السلطة السياسية، التي هيأت السبل، وشجعت على المُضي فيها. كانت هناك مدارس من هؤلاء العلماء، مدارس متنافسة أحيانًا، متعاونة أحيانًا أخرى، دفعهم البحث العلمي نفسه للتنقيب عن آثار السلف لنقلها إلى العربية، ولم يكن هدفهم في ذلك هو نقل هذه الكتب للتعريف بها، ولكن لمتابعة بحث علمي نشط. من هذه المدارس كانت هناك مدرسة حنين وابنه وأهله، وكانت هناك أيضًا مدرسة بني موسى وتلاميذهم، ومدرسة الكندي وقسطا وحلفائهم… هذه الظاهرة، التي لا أعرف لها مثيلًا من قبل، أنتجت، لأول مرة في التاريخ، مكتبة علمية لها أبعاد عالم تلك الحقبة. احتوت هذه المكتبة على النتاج العلمي والفلسفي لتقاليد متعددة الأصول واللغات، وأصبحت هذه التقاليد العلمية، وما أنتجته، جزءًا من حضارة واحدة، لغتها العلمية هي العربية، وهكذا أضحت هذه التقاليد تمتلك وسائل التأثير والتأثر فيما بينها، مما مكنها من التوصل إلى مناهجَ جديدةٍ، والتطرق لحقول علمية لم يعرفها الأوائل، مثل الجبر والإسقاطات الهندسية وغيرها. وفي يوم، أرجو ألّا يكون بعيدًا، ستوضح لنا الدراسة الاجتماعية للعلم العربي دور المجتمع والمدينة الإسلامية في انبثاق هذه الظاهرة التاريخية، وسنفهم عندئذٍ كيف أصبح ممكنًا للتيارات العلمية المستقلة الموروثة من الالتقاء والتزاوج. فالعلم العربي هو أول علم يمكن أن يُنعت بحق «بالعالمية». وهذه السمة، التي طبعت العلم العربي منذ القرن التاسع، تأكدت ووضحت فيما بعد. فقد تابع علماء القرنين الحادي عشر والثاني عشر مناقشة النتائج التي تم التوصل إليها في مختلف البقاع، وتابعوا تعميمها ودمجها في بنيات نظرية غريبة عن حقولها الأصلية في معظم الأحوال. وهذه الظاهرة لا تخص الكيمياء والطب فقط، بل تشهد عليها رسائل البيروني، ومؤلفات السموءل المغربي في الرياضيات، أعني فيما يسمى بالاستكمال التربيعي، وتشهد عليها أيضًا صياغة ابن الهيثم لما يسمى مبرهنة «البقية الصينية» في نظرية الأعداد.
بات من الممكن إذًا، ولأول مرة في التاريخ، قراءة ترجمات الإنتاج العلمي لحضارات متعددة قديمة، وأبحاث جديدة مبتكرة، على السواء، بلغة واحدة، أي العربية. ولم يقتصر هذا على بلدان أهل الضاد، بل عم بلادًا تكلم مواطنوها بلغات مختلفة، فالعربية كانت لغة العلم- في سمرقند وفي غرناطة مرورًا بخرسان وصقلية ومايورقة (Majorque). وكان هذا العالم أو ذاك، إن حن واشتاق إلى الكتابة بلغته الأم- الفارسية خاصة، مثل النسوي والطوسي- أسرع وعاد هو نفسه بنقل ما كتبه إلى العربية، وبالجملة لن نبالغ فقط إن قلنا إنه منذ بداية القرن التاسع الميلادي، أصبح للعلم لغة، وكانت هذه اللغة العربية؛ بل إن هذه اللغة، أي العربية، اكتسبت بدورها بعدًا عالميًّا، فلم تعد لغة شعب واحد، ولا لغة أمة واحدة، بل لغة شعوب عدة وأمم مختلفة، ولم تعد لغة ثقافة بعينها بل لغة كل المعارف العقلية، أدت وحدة هذه اللغة إلى فتح معابر جديدة لم يكن لها وجود من قبل. وكان لهذه المعابر جُلّ الأثر في تسهيل الاتصال المباشر بين المراكز العلمية المنتشرة بين حدود الصين وبين الأندلس.
وهنا يجب علينا أن نلفت النظر إلى صنفين من الممارسات الاجتماعية للعلماء، فمن جهة أصبح التنقل والسفر وسيلة للتعلم والتعليم؛ ومن جهة ثانية ظهر فرع أدبي جديد، أعني المراسلات العلمية. حقًّا كان السفر والتنقل منتشرًا بين علماء عصر الإسكندرية، إلا أن هذه الظاهرة لم يكن لها نفس البعد ولا نفس الحجم. ففي هذا العصر كان الانتقال بين الإسكندرية وأثينا وروما وبعض مدن فلسطين وآسيا الصغرى، أما في العصر الإسلامي، فقد انتشرت المراكز بين آسيا وشمال إفريقيا وحوض البحر الأوسط كلّه. وهذا السفر العلمي انتشر بين علماء الحديث النبوي، وبين الأدباء والعلماء والفلاسفة، أي أنه أصبح في ظل العصر الإسلامي ظاهرةً تَشمُل حقولًا عديدة من الثقافة. وبالفعل إن اقتصرنا على العلماء ورجعنا إلى كتب الطبقات رأيناها تحدثنا عن هذا التنقل الدائم: عن ابن الهيثم بين البصرة والقاهرة، عن ابن ميمون القرطبي بين الأندلس والمغرب ومصر، وعن شرف الدين الطوسي بين خراسان والشام، وعن السموءل المغربي بين فاس وسمرقند.
وكان هذا أيضًا شأن المراسلات العلمية، فقد زادت ونمت وتكثفت لتصبح صنفًا أدبيًّا جديدًا له أصوله وقواعده؛ وأضحى هذا اللون الأدبي أحد ألوان «الأدب» بالمعنى القديم للكلمة. ولنذكر على سبيل المثال مراسلات القوهي والصابي، ومراسلات السجزي مع رياضيي الرّي وخراسان، ومراسلة شرف الدين الطوسي مع رئيس نظامية بغداد… إلخ وتذكرنا هذه المراسلات وغيرها بما سنراه فيما بعد إبان القرن السابع عشر الأوربي.
فمن الجليّ إذًا أن هذا العلم العالمي- بمعنى هذه الكلمة في ذاك العصر- تقدم محاطًا بموكب من التحولات: تجددت العلاقات بين التقاليد العلمية الموروثة ولم تعد على ما كانت عليه، وتغيرت محتوياتُ المكتبة العلمية وإمكانياتُها، وتوحدت بصورة ما لغة العلم، وزاد كثيرًا عما كان عليه تنقل العلماء بين الأقطار.
ومن العجيب الغريب أن مؤرخي العلوم لم يتنبهوا لهذه السمة التي ميزت العلم العربي، ولم يعيروها ما تستحقه من الاهتمام على الرغم من تألقها. ويبدو أن أحد أسباب إغفال هذه السمة هو هذه النظرة العقائدية التي سبق أن أشرنا إليها، أعني غربية العلم الكلاسيكي، هذه النظرة التي ألقت على الأبصار غِشاوةً. وهذه النظرة ليست مع ذلك السبب الوحيد، بل هناك سببان آخران يعود أولهما إلى تاريخ العلوم ويرجع الثاني إلى ما كتب حول هذا التاريخ. ففي واقع الأمر يبين لنا تاريخ العلوم الروابط التي ربطت العلم العربي بامتداداته اللاتينية، وبصورة أعلم بالعلم الذي تطور في أوربا الغربية حتى منتصف القرن السابع عشر على وجه التقريب. وبالفعل لا يمكن بحال فهم ما تم باللاتينية في العلوم منذ القرن الثاني عشر دون اعتبار الترجمات اللاتينية من العربية، ودون معرفة البحث العلمي باللاتينية الذي تم في سياق العلم العربي وأسلوبه. فبحوث Jordanus de Nemours, Fibonacci في الرياضيات ومؤلفات Theodoric de Freiberg, Witelo في المناظر على سبيل المثال، أعني أكثر البحوث تقدمًا باللاتينية، لا يمكن تقديرها حق قدرها دون الرجوع إلى الخوارزمي وأبي كامل، والكندي وابن الهيثم… إلخ. إن هذه الروابط الموضوعية الوثيقة التي لا يمكن أن يتغاضى عنها مؤرخ جاد، أسرت أنظار المؤرخين فلم ينتبهوا إلى روابط أخرى، أعني الروابط بين العلوم العربية وعلوم الهند، وربما الصين كذلك، ومن ثم لم ينتبهوا إلى هذا البعد الأصيل.
أما السبب الآخر فيعود إلى الكتابات في تاريخ العلوم. ففي أغلب المؤلفات عن العلم الكلاسيكي ظهر علم القرن السادس عشر والسابع عشر، وبالأحرى علم النصف الأول من القرن السابع عشر في صورة غريبة. فجمهرة هؤلاء المؤرخين يجهلون العلم العربي والعربية، ومن ثم بدا هذا العلم ثوريًّا من البداية إلى النهاية وفي كل بقاعه على السواء، وأخذ على أنه المرجع المطلق الذي تقاس به وعليه وإليه مواقع وأماكن ما سبقه من العلوم، ومن ثم بدا متساميًا مستعليًا دون تاريخ إن صحت هذه العبارة، لأنه ثورة على كل التقاليد. لم يكن ممكنًا صياغة هذا التسامي وهذا التعالي المطلق لعلم القرن السابع عشر إلا في غياب المعرفة الصحيحة بأعمال مدرسة مراغة وما سبقها في علم الهيئة، ومؤلفات الخيام وشرف الدين الطوسي في الجبر والهندسة الجبرية، وكتابات بني موسى وثابت بن قرة وابن سنان والقوهي وابن سهل وابن الهيثم في التحليل الرياضي، وكذلك رسائل وكتب ابن سهل وابن الهيثم في المناظر… إلخ. لذلك كان من الطبيعي والمتوقع أن يحفر هذا التعالي والتسامي حفرة بين علم القرن السابع عشر والعلم العربي، ماسخة لسمات كليهما ومعالمهما.
هذه هي الأسباب التي أخفت معالم العلم العربي وخاصة تلك السمة التي نبهنا عليها، أعني عالميته- من كتب المؤرخين. وإعادة هذه السمة إلى مكانتها والإلمام بتاريخ العلم العربي ليس من شأنهما النيل من مكانة Kepler وما أتى به من جديد في علم الفلك، ولا من مكانة ديكارت وما طوره في الهندسة الجبرية، ولا من مكانة غاليلو وثورته في علم الحركة، ولا من مكانة فرما ومنهجه الجديد في نظرية الأعداد، بل على عكس ذلك تمامًا، فتصحيح الصورة والإلمام بالمادة يساعدنا على تحديد موضع الجديد في كل حال بمزيد من الدقة، أعني بالعثور عليه حيث هو، لا حيث لا وجود له، كما هو للأسف الحال عند كثير من المؤرخين. فإصلاح الصورة والإلمام بالمادة سيقودنا إلى استيعاب أعمق للنتائج العلمية التي أتي بها خلال القرن السابع عشر والقرن السابق له، فالإصلاح والإلمام يحثاننا على إعادة النظر في بعض العقائد والمفاهيم السائدة عند مؤرخي العلوم، وفي بعض المناهج التي أخذ بها في سرد التاريخ.
فمما يجب النظر النقدي له مفهوم «النهضة العلمية»، ومما يجب تحديده من جديد مفهوم «الثورة العلمية»، أي تلك التصورات السائدة في كتب تاريخ العلوم. ولن يكون هذا ممكنًا إلا إذا نشط البحث في تاريخ العلم العربي، وإلا إذا استعاد هذا الأخير هذا الطابع الذي ما انفك يميزه عما سبقه، أعني الطابع العالمي، الذي يحتم علينا تتبع هذا العلم العربي في امتداداته اللاتينية والإيطالية، وكذلك في امتداداته العبرية والسنسكرتية والصينية، إضافة إلى منجزاته في لغات الحضارة الإسلامية وخاصة الفارسية. وأخيرًا، علينا البحث في الظروف الاجتماعية لهذا العلم، أعني المجتمع الذي انبثق فيه، بمشافيه ومراصده ومساجده ومدارسه. فكيف يمكننا فهم تطورات هذا العلم إن غابت عن بالنا المدينة الإسلامية، ومؤسساتها، ووظيفة العلم فيها، وأهمية دوره. فالعلم لم يكن- كما زعم البعض- هامشيًّا في هذه المدينة الإسلامية، والبحث العلمي لم يركد نتيجة لردة كلامية دينية كما زعم آخرون.
ومن الواضح إذًا أن تجديد كتابة تاريخ العلم العربي يقودنا إلى تجديد تاريخ العلوم نفسه. هذا هو الثمن علينا أن ندفعه حتى يمكننا أن نساهم في تقدم تاريخ العلوم جملةً، وحتى يحقق تاريخ العلم العربي على الأقل المهام الثلاث التالية: فتح الطريق أمام فهم حقيقي لتاريخ العلم الكلاسيكي بين القرن التاسع والقرن السابع عشر؛ تجديد تاريخ العلوم عامة بإعادة رسم الصورة التي شوهتها النظرات العقائدية، ومعرفة الثقافة الإسلامية حق المعرفة بإعادة ما كان من أبعادها، وهو البعد العقلي العلمي، فالتراث الإسلامي لم يكن لغة ودينًا وأدبًا فحسب، بل كان أيضًا علومًا وفلسفة ومنطقًا؛ وهنا وهناك كانت أصالة هذا التراث في عالميته وانفتاحه.
3
بقي علينا أن نبين باختصار شديد كيف يمكن لمؤرخ العلم العربي تجديد تاريخ العلوم؛ وذلك بأخذ مثل من أبحاثي الأخيرة في تاريخ الهندسة. وبالطبع سيكون عرضي سريعًا ومبتورًا ومبسطًا. فقصدي هنا ليس التأريخ للهندسة، ولكن بيان دور العلم العربي في إعادة رسم الصورة، ورفع الشوائب التي شوهتها. ففي هذا المثال أهدف إلى بيان كيف قرأ السلف العلم اليوناني، أو بالأحرى كيف نشأ وتطور فصل من فصول الرياضيات على أيدي فحول الرياضيين، وكيف استطاعوا تكوين تقليد جديد لم يتجاوز حتى بداية القرن الثامن عشر. هذا المثال يخص حساب المساحات والحجوم القصوى، أي أحد فصول التحليل الرياضي، ويتعلق بمسألة عرفها منذ القديم البابليون واليونان، وهي بيان أن الدائرة أوسع الأشكال المسطحة المتساوية الإحاطة، وأن الكرة أعظم المجسمات المتساوية الإحاطة. ومن الواضح أهمية هذه القضية للفلك.
لم يتوان علماء الهيئة والرياضيات من الإسكندرانيين عن الاهتمام بهذه المسالة. هذا ما نقرأه عند هيرون وبطلميوس وبابوس وثيون… وإن ظل الفضل الأول يرجع لبطلميوس ولكتابه المجسطي. ففي هذا الكتاب لجأ بطلميوس إلى هذه النظرية لدعم رأيه حول كرية السماء وكرية الأفلاك وكرية الأرض. ونقرأ على لسانه في نقل الحجاج لكتاب المجسطي يقول: «ومن أجل أن الأشكال الكثيرة الأضلاع التي تكون في دوائر متساوية أكثرها زوايا أعظمها عظمًا، تكون الدائرة أعظم الأشكال البسيطة وتكون الكرة أعظم الأشكال المجسمة، فالسماء أعظم مما سواها من الأجسام». ولم يكن لهذه العبارة أن تمر مر الكرام على شرّاح المجسطي، وخاصة أن بطلميوس يقرها إقرارًا دون أن يقدم عليها البرهان؛ لهذا لجأ ثيون الإسكندراني في شرحه للكتاب الأول من المجسطي إلى الاستشهاد بما قام به Zénodore في محاولته للبرهان عليها. وظل الأمر على هذا عندما شرح بابوس المجسطي، واستمر على ذلك حتى ترجم الحجاج المجسطي ترجمة أولى. بعد هذه الترجمة ألف الكندي رسالتين، الأولى في الصناعة العظمى كتبها تحت تأثير شرح ثيون السابق، ونقرأ بقلم الكندي ما يلي «وأيضًا، لأن أعظم الأشكال التي في الدائرة المتساوية الأضلاع أكثرُها زوايا، وأعظمَ الأشكال المجسمة المعتدلة المتساوية السطوح الكرةُ كما أوضحنا ذلك في كتابنا في الأكر، تكون السماء إذًا هي أعظم مما سواها من الأجسام كريةً، لأنه ينبغي أن يكون لها هذا الشكل الأعظم». أما الرسالة الثانية، ففيها يبرهن الكندي هذه القضية، إلا أننا للأسف لم نعثر عليها بعد. وحتى لا نستطرد كثيرًا ولا يطول بنا الحديث نقول جملةً إن كل شروح كتاب المجسطي بالعربية لا تخلو من التعليق على عبارة بطلميوس هذه والبرهان عليها أحيانًا. وهنا برز تياران رياضيان للبرهان على دعوى بطلميوس، يمثل الأول منهما أبو جعفر الخازن من منتصف القرن العاشر الميلادي، ويمثل الثاني الحسن بن الحسن بن الهيثم من أواخر ذلك القرن. ولنعرض لهما في كلمات قليلة.
كتب أبو جعفر الخازن، في شرحه للمقالة الأولى من المجسطي، رسالة كاملة حول دعوى بطلميوس، تقوم على فكرة لم تتيسر لسابقيه، وهي وضع هذه الدعوى في سياق أشمل وأعم، وهو سياق الأشكال المحدبة. وهذه النقلة المعرفية ضخت في البحث الرياضي انتعاشًا وخصوبة غيرت من رسومه القديمة. برهن الخازن أولًا أن الأشكال المحدبة من نوع ما (المثلثات والمتوازيات الأضلاع… إلخ) أكثرُها تناظرًا symétrique أعظمها (أي يحقق نهاية قصوى) لأحد المعاملات (المساحة، نسبة المساحة، المحيط… إلخ). ونهج الخازن في بحثه هذا النهج:
1- تثبيتُ إحدى المعاملات وتغييرُ الشكل المحدب بتطبيق تناظر عليه symétrisant بالنسبة لخط ما. على سبيل المثال: تثبيت محيط (متوازي الأضلاع) وتحويله إلى (متوازي الأضلاع ومتساويها) بتطبيق تناظر عليه بالنسبة للقطر.
2- مقارنة الأشكال الكثيرة الأضلاع ومتساويتها، والمتساوية الإحاطة، مبرهنًا أن أكثرها أضلاعًا أعظمُها مساحة.
3- تلو الخازن ذلك بمقارنة شكل كثير الأضلاع ومتساويها، محيط بدائرة، بدائرة أخرى لها محيط الشكل نفسه.
ومن البين أن هذا الطريق طريق «سكوني» بالمعنى التالي: فمن جهة هناك الشكل الكثير الأضلاع المعلوم ومن جهة أخرى هناك الدائرة.
المقام هنا ليس المقام الذي نعكف فيه على فحص ما أتى به الخازن، فلقد أنجزنا ذلك من قبل، ويكفي أن نقول أنه وقف في بحثه عندما انتهى من البرهان على دعوى بطلميوس دون أن يتجاوزها إلى غيرها في هذا البحث الرياضي الخالص. وسيكون الأمر غير الأمر مع التيار الآخر الذي بلغ ذروته مع ابن الهيثم.
أراد ابن الهيثم على خلاف الخازن تقديم برهان «حركي» لا «سكوني» لهاتين القضيتين: الأشكال المتساوية الإحاطة والأجسام المتساوية المساحة. وأقصد بالبرهان الحركي ذلك البرهان الذي تسير بين ثناياه الحركة نحو النهاية. حرر ابن الهيثم لتحقيق هذا الهدف كتابًا يُعد بحق طليعة البحث الرياضي في قرنه وفي القرون التالية، وعنوانه قول للحسن بن الحسن بن الهيثم في أن الكرة أوسع الأشكال المجسمة التي إحاطتها متساوية. يبدأ ابن الهيثم كتابه هذا بالأشكال المسطحة وينتهي منها سريعًا، ومن ثم يبرهن القضايا التالية:
1- كل دائرةٍ محيطُها مساوٍ لمحيطِ شكلٍ مستقيم الخطوط متساوي الأضلاع والزوايا، فإن مساحتَها أعظمُ من مساحته.
2- كل شكلين مستقيمي الخطوط متساويي الإحاطة، وكل واحد منهما متساوي الأضلاع والزوايا، وتكون أضلاع أحدهما أكثرَ عددًا من أضلاع الآخر، فإن مساحته أعظم من مساحة الآخر.
3- كل شكلين، كل واحد منهما متساوي الأضلاع والزوايا، تحيط بهما دائرة واحدة، وأضلاعُ أحدهما أكثر عددًا من أضلاع الآخر، فإن مساحة الشكل الذي هو أكثر أضلاعًا أعظم من مساحة الشكل الآخر، ومحيطه أعظم من محيطه.
ومنه يبين أنه إذا كان هناك شكل متساوي الأضلاع والزوايا ودائرة لهما نفس المحيط، فالدائرة أعظم من الشكل المتساوي الأضلاع.
ومن البين أن ابن الهيثم في برهانه يعتبر الدائرة نهاية لمتوالية من أشكال كل منها متساوي الأضلاع. وهذا هو الفرق الأول والهام بينه وبين سابقيه.
وعلينا أن ننتبه إلى أن ابن الهيثم يفترض وجود النهاية- أعني مساحة الدائرة- ولكن هذا كان مبرهنًا من قبل في رسالة أرخميدس في مساحة الدائرة.
هذا هو مضمون الجزء الأول من رسالة ابن الهيثم. أما الجزء الثاني فيحاول فيه البرهان على القضية التالية: أن كل كرة يكون سطحها المحيطُ بها مساويًا لسطح شكل مجسم متساوي القواعد، وقواعده متساوية الأضلاع ومتشابهة، فإن مساحة الكرة أعظم من مساحة المجسم المتساوي القواعد. وللبرهان على هذا يقدم ابن الهيثم عشر مقدمات يشيّد بها صرح أول نظرية في الزاوية المجسمة، أي يشيّد بها صرح فصل جديد من فصول الرياضيات لم يسبق البحث فيه. والمقام هنا ليس هو مقام شرح هذا الفصل وما قام به ابن الهيثم. كل ما نريد قوله هنا أن هذه المقدمات مكنته من برهان القضيتين التاليتين:
1- كل مجسمين كثيرَيْ القواعد- وقواعدُهما متساويةٌ ومتساويةُ الأضلاع ومتشابهةٌ، وقواعدُ أحدهما شبيهةٌ بقواعد الآخر، والسطحُ المحيط بأحدهما مساوٍ للسطح المحيط بالآخر. فإن مساحة المجسم، الذي قواعدُه أكثرُ عددًا، أعظمُ من مساحة الآخر.
2- كل مجسمين متساويَيْ القواعد، وقواعدهما متساوية الأضلاع ومتشابهة، فقواعد أحدهما شبيهةٌ بقواعد الآخر، وقواعد أحد المجسمين أكثرُ عددًا من قواعد المجسم الآخر، إذا أحاط بهما كرةٌ واحدة، فإن السطح المحيط بجميع المجسم، الذي قواعده أكثرُ عددًا، أعظمُ من السطح المحيط بالمجسم الآخر، ومساحةُ المجسم الأكثر قواعدَ أعظمُ من مساحة المجسم الآخر.
من الواضح إذًا أن ابن الهيثم لا يأخذ إلا بالمجسمات المتساوية القواعد، ومن ثمّ فالقضيتان السابقتان لا تطبقا إلا على ذي الأربع قواعدَ وذي الثمانية قواعدَ وذي العشرين قاعدة وذلك لأن عدد قواعد المجسم المتساوي القواعد المربعة أو المجسمة ثابت (ستة أو اثنتا عشرة). وعلى تصاريف الأحوال فقصد ابن الهيثم واضح: البداية بالمقارنة بين المجسمات التي لها نفس السطح والتي يختلف عدد قواعدها حتى يمكنه فيما بعد البرهان على الخاصة القصوى للكرة، ويعني هذا الاقتراب من الكرة على أنها نهاية قصوى لمتتالية من المجسمات التي تحيط بها الكرة. ولكن هذا النهج «الحركي» أدّى إلى طريق مسدود، فنحن نعرف، وهو يعرف قبل الجميع، أن عدد المجسمات المتساوية القواعد منتهٍ ولا يسمح بهذا. وهذا الخطأ- الذي لم أستطع فهمه ولا تفسيره- وهذا الطريق المسدود هو، بصورة أو بأخرى، الذي فتح أمام ابن الهيثم الطريق الذي لم يسبق لأحد أن طرقه، أعني نظرية الزاوية المجسمة.
ودراسة كتاب ابن الهيثم تبين لنا أن الصفة الغالبة عليه هي الابتعاد عن الخلفية الفلكية التي نبع منها هذا البحث. ولم يزل ابن الهيثم في الابتعاد والاهتمام والكشف عن مسائل أخرى تتعلق بالبحث عن النهايات القصوى، أعني المسائل التي سيهتم بها فصل كامل من فصول الرياضيات فيما بعد. ففي رسالة، للأسف لم نعثر عليها بعد، يقارن ابن الهيثم بين الخطوط المحدبة المختلفة في قطعة دائرة، معتبرًا طول كل خط منها كحد أقصى borne supérieure للأشكال المستقيمة التي يحيط بها هذا الخط، مرجعًا بهذا المقارنة بين الخطوط المنحنية إلى مقارنة بين الأشكال المستقيمة الخطوط.
لن يذهب البحث الرياضي إلى أبعد مما أتى به ابن الهيثم قبل اكتشاف الحساب التفاضلي وازدهاره، أي أواخر القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر، أو بعبارة أخرى مع بداية حساب التغييرات مع الإخوة Bernoulli ثم Euler وLagrange. فمع بداية القرن الثامن عشر ستتحول مسألة البحث عن النهاية القصوى لأشكال متساوية الإحاطة أو لأجسام متساوية المساحة إلى مسألة أعم وهي البحث عن خط أو مجموعة من الخطوط يمكنه أن يصل بعظم متعلق بكل خط من فئة من الخطوط المعلومة إلى النهاية القصوى.
من الواضح إذًا أن صورة هذا الفصل من الرياضيات ليست على ما يقصه المؤرخون، فما تزال جمهرة هؤلاء تجهل هذا الفصل من تاريخ الرياضيات العربية، ولا تزال صورة هذه، دون هذا الفصل، صورة مبتورة مشوهة. والآن مع هذا الفصل ستتغير كلتا الصورتين، والأهم من ذلك أننا سنستطيع وضع السؤال الحق، وهو التالي: شارف ابن الهيثم مطالع ما بدأ الإخوة Bernoulli في أواخر القرن السابع عشر البحث فيه، لماذا لم يمكنه الذهاب إلى أبعد مما وصل إليه، وما الجديد فعلًا مع الإخوة Bernoulli على هذا السؤال يمكننا الآن الإجابة، وذلك لم يكن ممكنًا قبل معرفة ما قدمته الرياضيات العربية في هذا الشأن. وهذا مثل على ما يمكن أن يقدمه العلم العربي لتاريخ العلوم، وشاهد على قلة زادنا وكثرة تقصيرنا في التأريخ له. فهذه النتائج حول دراسة ابن الهيثم لم تكن معروفة قبل بضع سنين.
– هذا المقال منقول من الموقع الالكتروني لمؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي
تواصل مع الكاتب: rashed@paris7.jussieu.fr