يُسبّب الصوم، كما هو الحال أثناء صوم شهر رمضان المبارك، أحداثاً فسلجية وأخرى كيمياحياتية في أجهزة الجسم المختلفة. ومن أهم هذه التأثيرات التي جلبت الكثير من البحوث والنقاش العلمي ظاهرة حدوث الكرب أو الإجهاد التأكسدي Oxidative Stress في مستويات متعددة بالجسم. ونهدف من هذه المقالة تسليط بعض الضوء على تأثيرات كرب الصوم التأكسدي في صحة الأنسان.
الكرب التأكسدي
يُقصد بالكرب التأكسدي حالة من إنعدام التوازن في إنتاج أصناف الأوكسجين التفاعلية Reactive Oxygen Species (ROS) في الخلايا والأنسجة وبين قدرات الجسم الحيوية لإزالتها. وهذه الأصناف التفاعلية تتلخص بما يأتي:
– (O2• -, Oxide الأوكسيد)
– (H2O2,Hydrogen peroxide بيروكسيد الهيدروجين)
– (•OH, Hydroxyl ionأيون الهيدروكسيل)
– (1O2,Singlet molecular oxygen الأوكسجين الأحادي)
وتلعب هذه الأصناف دوراً مهماً في إستحداث إشارات خلوية ضمن التفاعلات الفسلجية والكيمياحياتية. ويمكن أن تُنتج أصناف الأوكسجين التفاعلية من محيط الجسم الخارجي، مثل الأشعة فوق البنفسجية والملوثات البيئية والمعادن الثقيلة والأمراض المزمنة والتدخين والكحول وبعض الأدوية، فضلاً عن تحديد تناول الغذاء بما يشبه الصوم. وعندما تزداد مستويات الأصناف التفاعلية عن الحد الطبيعي تبدأ الأضرار الجانبية بالظهور في الجسم مستهدفةً الخلايا والبروتينات والدهون والأحماض النووية، وقد تمدد هذه التأثيرات لحالات الأمراض المزمنة والسرطانية والأمراض الأيضية فضلاً عن تصلب الشرايين، وأمراض وعائية قلبية متعددة.
مضادات الكرب التأكسدي
في مقابل أصناف الأوكسجين التفاعلية يمتلك الجسم أجهزة وأدوات فاعِلة مقاوِمة لها، مثل الأنزيمات الكاتالاز ديسموتاز فوق الأوكسيد وبيروكسيداز الكلوتاثيون ومكونات أخرى ضمن الدم أو الخلايا مثل الببتيد القصير الكلوتاثيون لمنع تضرر الخلايا. وعلى المستوى الغذائي تتوفر فيتامينات وعناصر متعددة في الغذاء تعمل ضد الكرب التأكسدي، نذكر منها فيتامين ه الذي يتوفر في بعض أنواع الحبوب والجوز واللوز، وفيتامين ج أو سي الذي يوجد في الحمضيات والفلفل الأخضر على سبيل المثال لا الحصر، فضلاً عن الفلافونويدات التي تتوفر في الفواكه والخضراوات والنباتات الطبية مثل الكركم، ومن المعادن الغذائية ضد الكرب التأكسدي نذكر السلينيوم لفائدته الجمّة.
حدوث الكرب التأكسدي في الجسم والتغيرات المصاحبة له أثناء الصوم
يتميز صوم رمضان المبارك عن غيره من حالات الجوع أو التجويع المتعمد بكونه يعتمد على الإمتناع عن الطعام والشراب لمدة محددة (ساعات النهار) ويكون فيه الأكل محدداً مع السيطرة على السعرات الحرارية المتناولة. ويُعد صوم رمضان إنموذجاً فريداً من نوعه ويمتاز بتغيرات في الجسم مع قلة النشاط الجسماني ونمط النوم. هذه العوامل لصوم رمضان تساهم في إحداث حالات من تغييرات وتحويرات في فسلجة الجسم وكيمياحياتيته في الأنسجة والأجهزة والدم، وغيرها كثير. وقد وجد الباحثون في العديد من الدراسات بأن الصوم يصاحبه إنخفاض وزن الجسم وكتلته، فضلاً عن ظهور الأجسام الكيتونية Ketone bodies في الدم مع رائحة مُميّزة من الفم والتنفس. وبالرغم من الحقيقة القائلة بأن الجوع، بالأخص طويل الأمد، يسبّب نوعاً من الكرب التأكسدي، إلاّ أنه قد وُجد عدم زيادة (أكثر من المتوقع) في نواتج الكرب التأكسدي والأكسدة الفوقية للشحوم في الجسم عند قياس المالوندايالديهايد Malondialdehyde (معيار الكرب التأكسدي) في بلازما دم الصائمين في رمضان.
وهذه حالة فريدة تستدعي الوقوف عندها، إذ أن الأجسام الكيتونية المحدَثة بالصوم المتقطع يُسبّب تحطم الأحماض الأمينية بتفاعل يُسمى أكسدة- بيتا ß-Oxidation الذي يحدُّ من الكرب التأكسدي والإلتهابي مع التقليل من الإعتماد على هرمون الأنسولين الداخلي. والنتيجة هي الإستفادة من الأجسام الكيتونية على المدى الطويل لتنظيمه دفاعات الخلايا وإصلاح الخلل، إن حصل في الأنسجة، في مستويات الأحماض النووية. ويرافق ذلك حالة إيجابية من نقص وزن الجسم بسبب أيض الشحوم وتحطمها أثناء الصوم، متزامناً مع إنخفاض ملحوظ في تناول الشحوم. وعلى مستويات عدة نلاحظ في الصوم إنخفاض فرط ضغط الدم، وإنخفاض مستويات الشحوم من LDL وإرتفاع HDL في الدم، مع تقليل من مخاطر الأمراض القلبية الوعائية وتلك المتعلقة بمقاومة هرمون الانسولين.
وتحدث أثناء الصوم المتقطع تغيرات في مستويات ما تحت الخلوية والتي يتم التعبير عنها بإرتفاع في الجينات التابعة للشيخوخة والحد من الكرب التأكسدي المفرط. وهنا نذكر بأن الغذاء المتوازن والإضافات الغذائية المفيدة تحد من هذه التأثيرات الضارة في مستويات الجينات ووظائف الدماغ وعمل النواقل العصبية، بحيث نرى أن الكرب التأكسدي ينخفض مع تحسن في الشهية عموماً وتنظيمها، وحدوث تحويرات إيجابية في الأحياء المجهرية المفيدة في الأمعاء.
الخاتمة
في ضوء التغيرات المصاحبة للصوم المتقطع، كما هو الحال في صوم رمضان المبارك، في أجهزة الجسم وآليات دفاعها ضد الكرب التأكسدي، فضلاً عن التحويرات في الوظائف الفسلجية والكيمياحياتية والاستجابات للأدوية يمكن الاستخلاص عمّا ورد في هذه المقالة ومن مراجعها المعتمَدة إلى أن الصوم ذو فائدة جمّة للجسم لدوره المنظِّم في دفاعات الجسم والحفاظ على وزن مناسب للجسم وكتلته، مع الحد من الكرب التأكسدي. وهذه دعوة للصائمين بالحد من تناول السكريات وإعتماد الطعام المتوازن، وللباحثين لإجراء المزيد من الدراسات عن الصوم وإستجابة الجسم للأمراض المزمنة والكرب التأكسدي مع الحفاظ على وزن جسم مناسب وصحي.
المراجع
1- Ensminger DC, Salvador-Pascual A, Arango BG, Allen KN, Vázquez-Medina JP. Fasting ameliorates oxidative stress: A review of physiological strategies across life history events in wild vertebrates. Comp Biochem Physiol A Mol Integr Physiol. 2021 Jun;256:110929. doi: 10.1016/j.cbpa.2021.110929. Epub 2021 Feb 26. PMID: 33647461.
2- Faris MA, Hussein RN, Al-Kurd RA, Al-Fararjeh MA, Bustanji YK, Mohammad MK. Impact of ramadan intermittent fasting on oxidative stress measured by urinary 15-f(2t)-isoprostane. J Nutr Metab. 2012;2012:802924. doi: 10.1155/2012/802924. Epub 2012 Oct 22. PMID: 23150812; PMCID: PMC3485525.
3- Gabel K, Cienfuegos S, Kalam F, Ezpeleta M, Varady KA. Time-Restricted Eating to Improve Cardiovascular Health. Curr Atheroscler Rep. 2021 Mar 26;23(5):22. doi: 10.1007/s11883-021-00922-7. PMID: 33772388; PMCID: PMC8218778.
4- Kolb H, Kempf K, Röhling M, Lenzen-Schulte M, Schloot NC, Martin S. Ketone bodies: from enemy to friend and guardian angel. BMC Med. 2021 Dec 9;19(1):313. doi: 10.1186/s12916-021-02185-0. PMID: 34879839; PMCID: PMC8656040.
5- Martin B, Mattson MP, Maudsley S. Caloric restriction and intermittent fasting: two potential diets for successful brain aging. Ageing Res Rev. 2006 Aug;5(3):332-53. doi: 10.1016/j.arr.2006.04.002. Epub 2006 Aug 8. PMID: 16899414; PMCID: PMC2622429.
6- Pizzino G, Irrera N, Cucinotta M, Pallio G, Mannino F, Arcoraci V, Squadrito F, Altavilla D, Bitto A. Oxidative Stress: Harms and Benefits for Human Health. Oxid Med Cell Longev. 2017;2017:8416763. doi: 10.1155/2017/8416763. Epub 2017 Jul 27. PMID: 28819546; PMCID: PMC5551541.
7- Varady KA, Cienfuegos S, Ezpeleta M, Gabel K. Cardiometabolic Benefits of Intermittent Fasting. Annu Rev Nutr. 2021 Oct 11;41:333-361. doi: 10.1146/annurev-nutr-052020-041327. PMID: 34633860.
8- Wegman MP, Guo MH, Bennion DM, Shankar MN, Chrzanowski SM, Goldberg LA, Xu J, Williams TA, Lu X, Hsu SI, Anton SD, Leeuwenburgh C, Brantly ML. Practicality of intermittent fasting in humans and its effect on oxidative stress and genes related to aging and metabolism. Rejuvenation Res. 2015 Apr;18(2):162-72. doi: 10.1089/rej.2014.1624. PMID: 25546413; PMCID: PMC4403246.
تواصل مع الكاتب: fkmohammad@uomosul.edu.iq
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء المؤلفين وليست، بالضرورة، آراء منظمة المجتمع العلمي العربي
يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة