عندما فرض الله عز وجل الصيام على بني آدم أراد لهم خير دينهم ودنياهم. وخير الدنيا يعني جسدا معافىً وعقلاً متزناً وأماناً متواصلاً وعطاء ناجحا ومتعة بالجسد والمحيط. وخير دينهم هو الأمانة والقناعة والرضا والراحة النفسية وهذا يأتي من تطبيق أوامر الله عز وجل ونبيه الكريم (صلى الله عليه وسلم). هذه المكاسب يمكن الحصول عليها فقط عند قيامنا بالصيام الصحيح.
ولكن هل نحن نقوم بالصيام الصحيح كما أراد الله عز وجل. هل حصلنا على خير الدنيا وخير الدين؟
الصيام الصحيح يجب أن يكون فيه الإنسان أكثر عطاءا وعملاً وأقل أكلاً وشراباً، وأوسع صدراً وأريح نفساً، وأنفع لنفسه وعائلته ومجتمعه. الصيام هو كبح النفس عن غرائزها بالدرجة الأولى ودفعها نحو الفضيلة والإحسان وتدريبها على الزهد والتحمل وحب الآخرين. الصيام الصحيح يجلب الصحة للإنسان بكل المقاييس الحيوية والطبية.
ولكن هل نصوم الصوم الصحيح؟ ماذا ربحنا من أشهر الصيام السابقة؟ هل كسبنا خير دنيانا وخير ديننا؟ كيف صمنا في الماضي وكيف سنصوم إن شاء الله هذا العام؟ وهل أصبح شهر رمضان شهراً للصحة أم للمرض؟ لماذا تزداد الأمراض شدة والنفوس قلقاً؟ لماذا يصبح البدين أكثر وزناً والنحيل بديناً؟ لماذا ينقلب الليل نهاراً والنهار ليلاً وتضطرب الساعات الدماغية؟ لماذا يكون العطاء قليلاً ودوام العمل قصيراً، وكأن شهر رمضان شهر الغذاء والسهر والنوم وليس شهر الجوع والعطش والعطاء؟ هل تغير مفهوم الصيام فأصبح ساعات للنوم والكسل والجمود؟ لماذا يتزاحم الناس لجلب كل ما هو دسم وثقيل ومليء بالغذاء المصنع؟ لماذا يكثر استعمال الحلويات والدسوم والسكريات؟ لماذا تزدهر موائد الطعام بأنواع لم نعهدها إلا في شهر رمضان؟ هل تطور الصيام ومفهوم الصيام كتطور الآلة؟ لماذا يتسابق الناس لتناول اللحم والشحم والدسم وكل ما تنتجه الآلة الصناعية وتخربه من طعام مُصنّع أو غذاء مُغيّر؟ لماذا تقل ساعات العمل ويخسر الناس والمجتمع مالاً وموارداً وعطاءً؟
القراء الكرام: الأسئلة كثيرة، والتغيرات التي صاحبت وتصاحب شهر رمضان واسعة وجمة، فيها المفيد وفيها الضار، تغيرات أحدثها الإنسان على طعامه ونومه فكان لها الأثر الواسع على صحته وحالته النفسية.
الصيام تدريب
عندما تريد أن يبقى القوي قوياً لابد لك من أن تعطي هذا القوي مقويات أو محفزات بين فترة وأخرى لكي يستمر بقوته بل يزداد قوة ونشاطاً. أعطيك مثالاً: إذا أرادت الدول أن يكون لهم معلمين أقوياء بالعلم والتطوير لابد أن تدخلهم دورات تدريبية على أساليب التعليم وكل ما يستجد من تقدم في طرقه ومناهجه. وإذا أرادت الدول أن يكون لها جيش قوي متوثب لابد أن تدخل منتسبي الجيش دورات بانتظام لزيادة لياقتهم البدنية ومعرفتهم بكل شئ حديث. هذه أمثلة بسيطة يمكن من خلالها إدراك أهمية الدورات التدريبية لكل مناهج الحياة وأقسامها وأعمالها. فالدين والعقيدة أيضاً تحتاج إلى دورات تدريب بين فترة وأخرى لتزداد العقيدة رسوخاً. والجسد يحتاج إلى تدريب وصيانة لكي يبقى قوياً معافى. الصوم هو الصيانة المثالية للجسد. الآلة أو السيارة الجيدة هي التي تُعمل لها صيانة باستمرار. والنفس أيضاً تحتاج إلى تدريب لكي تبقى راضية فرحة ومسرورة.
فشهر رمضان هو شهر فرضه الله عز وجل للتدريب. أي يدرب الإنسان نفسه لمدة شهر كامل في كل سنة.
وهذا التدريب يشمل:
• الصوم عن الغذاء والماء.
• الصوم عن الغرائز.
• الصوم عن المنكرات.
ولهذا التدريب فوائد كبيرة للإنسان والصحة والبيئة وكذلك للمجتمع. وما فرض الله أمراً إلا فيه منفعة للإنسان. والفوائد المرجوة من الصيام هي فوائد صحية للإنسان، وفوائد روحية تهيئه وتدربه لكي يكون عنصراً متماسكاً ملتزماً قادراً على مكافحة النفس وغرائزها التي تداعب خياله ليلاً ونهاراً. ووعد الله عز وجل الإنسان فيه كثيراً من الأجر والثواب. وكلما تعلق الإنسان بربه وتقرب منه قياماً وقعوداً وعبادة وانقطع إليه وتلذذ بحلاوة حب الله والاعتماد عليه فإن الإنسان سيكون محصناً نفسياً ضد عوادي الزمان. فالصيام هو تربية للنفس البشرية، فيزداد الإنسان قناعة وسكون ولطف ورقة وحسن معاملة مع الناس. إذن شهر رمضان هو علاج للقلق والشد النفس، ابتعاد عن الحسد والكراهية والبغضاء، وهو التسامي بالروح الإنسانية من المادة وشد الحياة والضغوط النفسية إلى عالم الروحانيات المليء بالقناعة والرضا والحب والابتسامة والشعور بالأمل والرغبة في الحياة والعطاء واستغلال الزمن المحسوب من عمري وعمرك.
الصيام والعمر
توجد دلائل علمية وخاصة في السنوات الأخيرة على أن قلة تناول السعرات الحرارية يؤدي إلى إطالة العمر. هذه الدلائل جمعت في المشاهدات والأبحاث الحديثة التي أجريت على الحيوانات المخبرية مثل القوارض. إن خفض السعرات الحرارية يؤدي إلى زيادة عمر الحيوانات بعمر بنسبة تصل إلى 30-40%. أجريت دراسة على القوارض من فصيلة الفئران. عندما أخضعت هذه الحيوانات إلى برامج غذائية تحوي على نقص 30% من السعرات الحرارية المقررة لها يومياً زاد معدل عمرها من 38 شهراً إلى 52 شهراً. هذه الفترة تعادل 56 سنة من عمر الإنسان.
هذا معناه أن تقليل الفعاليات الأيضية إلى 30% يؤدي إلى إطالة العمر. من هنا يحاول العلماء الآن إيجاد عقاقير يمكن لها تقليل الفعاليات الأيضية للحصول على عمر أطول. في مقالة مطولة نشرت عام 2000 في جامعة تكساس أظهرت بأن تقليل الطعام يؤدي إلى زيادة العمر وإيقاف التدهور في الفعاليات الوظيفية والحيوية التي تصاحب تقدم العمر، وأيضاً فإن تقليل الطعام يؤدي إلى منع حدوث الأمراض المصاحبة لتقدم العمر (Exp Gerontol 2000,35,299).
وفي إيطاليا نشرت مقالة عام 1999 أظهرت بأن تقليل الطعام يؤدي إلى تأخر ظهور أعراض تصلب الشرايين وهذا يؤدي إلى منع حدوث أمراض كثيرة وخاصة ضغط الدم والذبحة الصدرية وجلطات القلب والدماغ Connect Tissue Res 1999,40,131.
كل التجارب العلمية أخي القارئ أظهرت هذه السنوات حقيقة علمية مفادها أن تقليل الطعام يؤدي إلى مردودات مفيدة فيما يتعلق بأمراض كثيرة ومنها السرطان. إن قلة الغذاء تؤدي إلى إيقاف النمو وانقسام الخلايا السرطانية وإدخال الخلايا التي بدأت بالتحول إلى خلايا سرطانية إلى برنامج الموت وهذا ما تم إثباته في خلايا الثدي (Carcinogenesis1999,20,1721) إن الكادميوم من المواد السامة للجسد وتؤدي زيادته إلى أضرار بالغة في الكلى والعظام. ولكن قلة الطعام تمنع حدوث أضرار في الكلى والعظام عند التعرض للتسمم بهذا العنصر الثقيل. هذا ما تم التوصل إليه في قسم العلوم الطبية الحيوية، جامعة رودازلاند، أمريكا عام 1999. (Toxicology 1999,133,93)
وفي بحث مثير في جامعة كنتوكي في الولايات المتحدة تبين بأن قلة الطعام ليس فقط تؤدي إلى إطالة العمر ولكنها تؤدي إلى رفع مقاومة خلايا المخ والأعصاب ضد أي مواد سمية أو تفاعلات أيضية مضعفة (Ann Neurol 1999,45,8). كما ثبت أيضاً أن تقليل الطعام بنسبة 25% يؤدي إلى إطالة العمر وتأخير ظهور علامات الأمراض المزمنة. هذه الحقيقة العلمية نشرت عام 2002 (J Ann Med Assoc 2002,220,1315) في عام 2001 اكتشف في كلية الطب – جامعة هماتسوا في اليابان بأن تقليل الطعام يؤدي إلى تأخير ظهور علامات الأكزما الجلدية (Exp Biol Med, 2001,226,1045)
وفي عام 2001 اكتشف بأن تقليل الطعام يؤدي إلى خفض نسبة ترسب الدهون في أغشية الكلى وهذا يوقف التدهور في وظائف الكلى المصاحبة لتقدم العمر (J Med Assoc Thai 2001,84,295).
وفي عام 2001 أظهرت الدراسات العلمية على أن تقليل الطعام وسعراته الحرارية يؤدي إلى إيقاف الخراب التأكسدي للكبد الذي يكون على أشده عند تقدم العمر(Lipids 2001,36,589)
من مختبرات علوم الأعصاب في ميرلاند في أمريكا أثبتت التجارب العلمية للعلماء بأن تقليل الطعام يؤدي إلى حماية الخلايا العصبية وتقليل عمليات التخريب الخلوي في الأعصاب في أمراض الجهاز العصبي المزمنة (J Mol Neurosci 2001,16,1).
السمنة وداء السكري يؤديان إلى تلف الكلى وأغشيتها المصفية للدم. ولكن اكتشف عام 2001 من جامعة كاليفورنيا، قسم علوم الغذاء في أمريكا بأن توجد دلالات على أن قلة الغذاء يؤدي إلى تأخير عمليات الهدم الخلوي في خلايا الكلى عند داء السكري والسمنة (J Nutr 2001,131,913)
قد يفكر القارئ بأن تقليل الطعام قد يؤدي إلى أضرار في الجسد وخاصة في العظام وعناصر الجسد الفلزية. ولكن أثبت عام 2001 من قسم علوم الأعصاب في المعهد الوطني للشيخوخة في بالثميور – أمريكا بأن تقليل الغذاء لا يؤدي إلى حدوث أي خلل ف ميزان العظام الفلزية ولا يؤثر على كثافة العظام أو الدورة الشهرية أو الهورمونات التناسلية (J Nutr 2001,131,820).
كلنا يعرف بأن الأوزون يعتبر من عوامل التأكسد الخطيرة ويؤدي إلى زيادة الجذور الحرة في الجسد ولكن أثبت بأن تقليل الطعام يزيد مقاومة الجسد لمخاطر الأوزون. هذا الاكتشاف نشر في معهد أبحاث ولتر ريد العسكري – واشنطن – في أمريكا عام 2001 (Toxicology 2001,159,171)
في الأبحاث المثيرة التي نشرت عام 2000 وبالتحديد في مختبرات علوم الأعصاب –بالتيمور –أمريكا هي اكتشاف قدرة خلايا الأعصاب على الانقسام وإنتاج خلايا عصبية جديدة بواسطة تقليل الطعام. وهذا يثبت بأن تقليل الطعام سوف يساعد أنسجة الدماغ والأعصاب على تصليح الخراب التي تعرضت له في الأمراض المزمنة التي تصيب المخ والجهاز العصبي. ليس هذا فقط ولكن الفائدة تكون أكبر لو زادت حركة الإنسان وازداد استعمال مخه في العمل (Brain Res 2000. 886,47).
إن عمل تقليل الغذاء كعمل مضاد للتأكسد ويمكن لك أخي القارئ مطالعة مقالتي في الصحة والطب عام 2002 حول التأكسد ومضاره وأن التأكسد هو القاسم المشترك لكل الأمراض.
عام 1998 أثبت بأن قلة الغذاء تؤدي إلى تقليل الموثين من نوع Thromboxane وزيادة أنواع الموثين الأخرى وهذا عكس ما يحدث عند تقدم العمر. وظهر أيضاً بأن تقليل الغذاء يؤدي إلى قلة إفراز الموثين وعوامل الالتهابات وأيضاً إنتاج الدهون المؤكسدة (J Nutr Health Aging 1998, 2,138).
أنت تعرف أخي الكريم بأن الناس الذين يعيشون في الهملايا، القطب الشمالي، جبال القوقاز، تكون أعمارهم طويلة. السبب هو تناولهم كميات قليلة من الطعام. لذلك إذا أردت أن تعيش أطول- والأعمار بيد الله عز وجل- عليك بالصيام اليومي لمدة 12 ساعة مع تقليل السعرات الحرارية، البروتينات، الزيوت الحيوانية والإكثار من مضادات التأكسد، الحركة، زيت السمك، العصائر، الفايتامينات والعناصر، والأغذية العضوية.
من هنا ندرك أخي القارئ بأن الصيام وتقليل الغذاء مفيد للجسد ومهم لعمر أطول وصحة دائمة.
تابع قراءة سلسلة "هل نصوم الصوم الصحيح؟"
1- الصيام تدريب وصحة وطول عمر "أنت هنا"
2- الصيام والنفس والوقاية من الأمراض
3- رمضان والبيئة
4- الصوم والعمل والنوم
5- الصوم والغذاء
6- كيف نعيش الصيام
7- ماذا أعددنا لشهر رمضان؟
المراجع
1. Caloric restriction and aging: an update
2. The Effect of Caloric Restriction on the Aortic Tissue of Aging Rats
3. Effect of energy restriction on tissue size regulation during chemically induced mammary carcinogenesis
4. Protection against chronic cadmium toxicity by caloric restriction
5. Food restriction reduces brain damage and improves behavioral outcome following excitotoxic and metabolic insults
6. Effects of Dietary Restriction on Spontaneous Dermatitis in NC/Nga Mice
7. Effect of dietary restriction on age-related increase of liver susceptibility to peroxidation in rats
تواصل مع الكاتب: drnoori6@yahoo.com
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء المؤلفين وليست، بالضرورة، آراء منظمة المجتمع العلمي العربي
يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة