"إذا كان لكل جسد ملامح، فملامح الكتابة العلمية هي الملخص، وإذا كان الملخص باللغة الإنجليزية هو زينة الملامح فالملخص باللغة العربية هو حسن الملامح وزينتها".
ومع أن عملية القراءة مهمة إلا أن عملية الكتابة أهم، لأنها هي المادة التي نقرأها. فإذا كانت المادة المكتوبة رديئة كانت المقروءة أردأ وعزف الناس عن قراءتها. فالكتابة عموما علم كبير قبل أن تكون فن أصيل. فلعلم الكتابة أصول تحكمه كباقي العلوم بغض النظر عن نوع لغة الكتابة. ومن أهم أنواع الكتابة التي تحتاج إلى معرفة وتطبيق أصولها هي الكتابة الأكاديمية أو العلمية. فالباحث العلمي قد يكون غير قادر على كتابة موضوع تعبير بإتقان وإبداع، ولكن مطلوب منه أن يكون متقنا في كتاباته العلمية، لأن الكتابة العلمية ليست هواية، ولكنها ضمن التوصيف الوظيفي لمهنة كل باحث علمي. ولذلك فتطبيق قواعد الكتابة العلمية هي من أبجديات وظيفة الباحث العلمي ثم تأتي بعد ذلك عملية الاتقان والابداع والتميز في الكتابة الذي بالطبع يختلف من باحث إلى آخر.
وقفت متحيرا أمام الكلمات المتراصة وراء بعضها البعض بين جملة طويلة وأخرى قصيرة. لم أفهم ماذا يريد الباحث (الكاتب) أن يعبر للقارئ من خلال تلك الكلمات. اضطررت أن أستعين بملخص البحث باللغة الانجليزية الذي رغم الكثير من الأخطاء فيه إلا أنني استطعت أن أستوعب وأدرك ما يريد أن يقوله الباحث في بحثه المنشور والذي أقوم بتقييمه من أجل ترقية علمية. شعرت بضيق في صدري لم يؤثر فيه فنجان القهوة الذي ظللت أرتشف منه مع كل جملة أقف أمامها فاغرا فاهي من شدة الدهشة، هل يصل الإهمال واللامبالاة لدى باحث من المفترض أن يكون على درجة عالية من العلم والاتقان والجودة إلى هذا الحد.
شعرت بغضب شديد لم أجد رد فعل مناسب وأنا وحدي مع ملف الأبحاث الذي انكب عليه أراجعه في غرفة مكتبي سوى أن أكتب على صفحة الملخص وبخط كبير "كلها أخطاء ولا بد من إعادة الصياغة". وبالطبع لم تكن هذه حالة واحدة ولكنها عشرات بل مئات الحالات التي رصدتها أثناء تحكيمي لأبحاث أو رسائل ماجستير أو دكتوراة. العجيب والغريب أني لاحظت أن نسب الأخطاء اللغوية والإهمال واتقان الصياغة في حالة الملخصات العربية في المشروعات البحثية المقدمة للتمويل من جهات محلية قليلة جداً أو تكاد تكون معدومة، بالطبع خوفاً من رفض تمويل المشروع، مما يدل على أن الإهمال هو ما وراء هذه الأخطاء في حالة الأبحاث. وهذا ما يحزنني أكثر، لأن الإتقان يجب ألا يكون بشروط لأنه فعل وصفة.
توقفت عن القراءة والمراجعة ورجعت بمقعد مكتبي إلى الوراء أفكر في الأمر وأنا أتسائل: ما هو السر وراء عدم اهتمام الباحثين في العلوم الأساسية والتطبيقية بلغة الملخص العربي. هل هو إهمال أم جهل؟
أيًا كان السبب الأول أو الثاني فهو ضد مبادئ استخدام اللغة العربية الفصحى والتعريب الذي دخل عليها. بالطبع عيب كبير ألا يكون الباحث ملما بالقواعد الأساسية للغة العربية، والعيب الأكبر ألا يراجعها بنفسه أو من قبل متخصصين.
ملخص الرسالة أو البحث باللغة العربية في معظم الحالات هو ترجمة للألفاظ والمصطلحات والمعاني من اللغة الإنجليزية إلى اللغة العربية بهدف واحد وهو توصيل المعلومة المكتوبة بلغة أجنبية عن طريق اللغة العربية (اللغة الأم للباحث!) حتى يتم فهمها في حالة تداولها بين غير المتخصصين أو متخذي القرار. كما أن الغرض الجانبي منه ألا ينسى الباحث لغته الأم وأن يكون قادرا على التعبير بها عن أدق المعلومات العلمية. وأيًا كانت لغة الملخص فهو من أهم أجزاء البحث المنشور لأن معظم المحررين والباحثين لن يكملوا قراءة البحث إذا كان الملخص مكتوب بلغة ركيكة.
وقواعد الترقية أو الحصول على درجة علمية في معظم الدول العربية، تشترط وجود ملخص للبحث باللغة العربية حتى ولو كان البحث منشورا في دورية عالمية باللغة الإنجليزية. والملخص يتكون من خمسة أجزاء لا تزيد في مجملها عن 250-300 كلمة وفي بعض الأحيان 150 كلمة مما يجعل المساحة محدودة لكتابة أهم العبارات الدالة على الأجزاء الآتية:
مقدمة عن موضوع البحث والمشكلة أو الفجوة التي يتعرض لها البحث؛ الهدف من إجراء هذا البحث؛ المواد والطرق المستخدمة في البحث؛ أهم النتائج التي توصل إليها البحث؛ الخلاصة والتي يلخص فيها الباحث أهم النتائج وأهمية البحث وتطبيقاته الحالية والمستقبلية. ولذلك فالملخص يمثل كبسولة علمية فيها مستخلص فكري لأهم محتويات البحث والرسالة. فإذا فشل الباحث في كتابة الملخص بلغة سليمة ومفهومة سواء باللغة الانجليزية أو العربية فللأسف لن يلقى بحثه اهتماما.
كما توقعت، اكتشفت أن الكاتب عادة ما يلجأ إلى استخدام خاصية الترجمة المتوفرة في محرك جوجل. وقد تأكدت من ذلك أكثر من مرة عندما قمت بنسخ الملخص الانجليزي للرسالة أو البحث وترجمته بجوجل (أفندي). بالطبع الترجمة بجوجل تساعد إلى حد ما خاصة في المصطلحات الصعبة والغريبة وفي حالة النصوص الطويلة والتي لا بد من مراجعتها جيدا وبدقة أكثر من مرة قبل الوصول إلى النسخة النهائية. أما أن يستخدم الباحث نتائج الترجمة من جوجل كما هي بدون بذل أي جهد أو عناء في المراجعة وضبط المصطلحات والعبارات والمسميات فهذا يمثل خلل كبير ويعكس لا مبالاة الباحث وعدم جديته ودقته. ولذلك فأشد ما يحزنني هو لجوء بعض أعضاء هيئة التدريس المتقدمين للترقية لدرجة أستاذ أو أستاذ مساعد لجوجل أفندي في كتابة الملخص العربي للبحث دون بذل أدنى مجهود في مراجعته.
هل الحل لهذا الإهمال اللغوي هو تعديل اللوائح لإلغاء الملخص العربي من رسالة الماجستير أو الدكتوراة وكذلك الملخص المرفق مع الأبحاث المقدمة للترقية لأستاذ مساعد أو أستاذ في التخصص العلمي؟ بالطبع لا، فالملخص العربي للمنتج العلمي حق أصيل للمجتمع العلمي عامة والغير متخصص سواء كان مستفيد بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. فمن حق غير المتخصص أن يقرأ ملخص عن كل بحث تم اجراءه في وطنه ليكون على دراية بما يجري وأهميته في تطوير حياته وتحقيق رفاهيته، فكلنا دافعين للضرائب التي يتم من خلالها تمويل المشروعات البحثية. حتى وإن كان البحث العلمي المنشور ممول على نفقة الباحث، فيجب عليه تقديم ملخص عربي مفهوم عن بحثه.
أتذكر في كل مرة كنت أقدم فيها على مشروعات بحثية للتمويل طوال العشر سنوات التي قضيتها في الولايات المتحدة كأستاذ مساعد، كنت أكتب ملخصين للمشروع البحثي. أحدهما ملخص علمي بلغة علمية رصينة يفهمها المتخصص الذي سوف يقيّم المشروع. أما الملخص الآخر فلا بد من كتابته بطريقة تميل إلى الأسلوب الروائي يعكس ببساطة وبعيدا عن المصطلحات العلمية المتخصصة أهمية موضوع البحث وانعكاسه على المواطن العادي دافع الضرائب سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. وتقوم الهيئة الممولة للمشروع بتجميع ملخصات المشروعات المكتوبة بالأسلوب المبسط والتي تمت الموافقة عليها للتمويل بنشرها على الصفحة الرسمية للجهة المانحة لكي يضطلع عليها المتخصصون وغير المتخصصين.
الملخص العربي ليس فقط ترجمة للملخص باللغة الإنجليزية، بل هو ترجمة حقيقة لمفهوم الباحث العلمي الذي قضى شهورا وسنوات في إجراء البحث في المختبرات حتى اخراجه ونشره في الدوريات العلمية العالمية. وهو ترجمة لأهمية البحث من وجهة النظر الوطنية وانعكاس النتائج على المواطن. وهو ترجمة حقيقية لقدرة الباحث على الاهتمام وتقدير لغته الأم والإلمام بقواعدها الأساسية، وهو ترجمة لقدرته على توصيل العلوم وتبسيطها للمستفيد المتخصص من ناحية والقارئ غير المتخصص من ناحية أخرى.
اللغة العربية بالنسبة لنا أهم من اللغة الإنجليزية. وإذا كان التقدم العلمي في العصر الحديث قد حكم لصالح اللغة الانجليزية، فهذا لا يعني أن نهمل لغتنا في أبسط صورها على هيئة صفحة واحدة يلخص فيها الباحث بحثه بلغته التي يتحدث بها. اللغة العربية يحتفل بها العالم في ١٨ من ديسمبر من كل عام بعد أن اعترفت بها الأمم المتحدة كلغة رسمية في المحافل الرسمية بقرار ٣١٩٠ عام ١٩٧٣. فإذا كان العالم قد اعترف بلغتنا رسميا منذ خمسين عاما، فكيف لنا وخاصة النخب العلمية أن تفرط وتهمل في حق اللغة العربية في مجرد صفحة واحدة تسمى الملخص العربي.
العجيب أن معظم النخب العلمية تنتقد أداء مقدمي البرامج في الإعلام وتنتقد استخدام اللغة العامية وسط الفصحى وتشتكي من تدهور اللغة العربية، وفي نفس الوقت لا يهتم معظمهم بإخراج صفحة الملخص العربي أو المقالات المكتوبة باللغة العربية بمستوى يتناسب مع قيمة ومكانة اللغة العربية. هل من المعقول أن كل دروس اللغة العربية التي تلقيناها في مراحل التعليم قبل الجامعي المختلفة لا تكفي لنكون قادرين على كتابة صفحة واحدة باللغة العربية.
الباحث العلمي أيًا كان في بداية حياته أم بعد أن يصبح خبيراً، لا بد وأن يتقن ما يقوم به وما يستخدمه من أدوات أثناء دورة البحث العلمي التي تبدأ من الفكرة وتنتهي بصياغة النتائج واخراجها على هيئة بحث ينشر أمام العالم أجمع. ولذلك فأول صفة لا بد من أن يكتسبها الباحث، إن لم يكن مولود بها بالفطرة، هي الإتقان الذي هو أساس الإبداع وأساس الجودة. والباحث هو قدوة للآخرين في العلم والعمل، فإن أهمل في عمله وعلمه فهي مصيبة، وإن جهل أسس وقواعد عمله في علمه فتلك مصيبة أكبر.
أدعو كل الباحثين وخاصة الشباب منهم، بالتمسك بالجودة والإتقان في العمل واحترام اللغة العربية الذي هو احترام لذواتهم.
تواصل مع الكاتب: mohamedlabibsalem@yahoo.com
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء المؤلفين وليست، بالضرورة، آراء منظمة المجتمع العلمي العربي
يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة