ما يزال الإنسان يتعلم من مخلوقات الله من حوله، ويُحَوِّل ذلك العلم والمعرفة إلى ما ينفعه في عمارة الأرض وتحسين حياته، وعلم الفيزياء يختص بفهم الظواهر والمشاهدات والكون، ووضع تلك المعرفة في متناول من يستفيد منها ويحولها إلى منتجات وتطبيقات تخدم الإنسان وحياته، فالإنسان بطبيعته يلاحظ ما حوله، ولكن الشخص العلمي يتميز بطرح التساؤلات على كل ما يلاحظه: لماذا؟، وكيف؟
كلنا يلاحظ المناظر الرائعة والمدهشة لصغار البط وهي تسبح خلف أمها في خط مستقيم، أو طيور الوز البري وهي تحلق خلف قائدها في شكل منتظم مثل شكل العدد ٧ أو الحرف الأجنبي (V)، ولكن الفيزيائي يتساءل: لماذا؟، وكيف؟
شكل (1) لماذا يسبح صغار البط خلف الأم في خط مستقيم؟
شكل (2) لماذا تحلق بعض الطيور في منظومة حرف (V)؟
لعلنا نتذكر أن أول درس تعلمه الإنسان من الطير قد كان في الوقت الذي تعلم فيه أحد ابني آدم كيف يواري سوءة أخيه بعدما قتله، وذلك عندما أرسل الله له غراباً يعلمه كيف يدفن الميت، وهذا الدرس لم يكن الأخير كما سنلاحظ في هذا المقال؛ وسيتضح لنا أيضا بأنَّ الكثير من الأدوات التي يستخدمها الإنسان في الطيران هي محاكاة لظواهر طبيعية بما فيها حركة الطيور.
عند تناول الحركة في الماء مثل سباحة البطة وصغارها أو الحركة في الهواء مثل طيران الطيور على شكل حرف (V)، لا بد من الأخذ في الاعتبار حالة التدفق والتعامل مع هذه الأمثلة بطرق رياضية شمولية تتضمن التغييرات السريعة في كل مواقع السائل؛ فلماذا تلجأ الطيور إلى طرق مختلفة للطيران في الهواء؟؛ كتحريك الجناحين للأعلى وللأسفل وللخلف للتحليق في الهواء مباشرة أو للقفز من مكان مرتفع، وفي كلتا الحالتين يحصل الطائر على قوى الرفع للأعلى وكذلك الدفع للأمام، وكيف تعمل هذه الحركات لتحقيق الهدف وتسهيل الطيران والارتفاع؟
إن الحركة في الموائع -سوائلا أو غازات- تحكمها قوانين تابعة لخصائص ذلك المائع؛ مثل قوانين التدفق (الانسياب) بأنواعه والتعامل مع الموجات المتكونة فيه، إذ يميل كل شيء في الطبيعة إلى الاقتصاد في بذل الطاقة، ومن هنا تتبع الكائنات في حركتها تلك الموائع فهي الشكل الأمثل والأكثر توفيرا للطاقة، وسبحان الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.
الشكل (3):
صغار البط خلف الأم في خط مستقيم
يلاحظ بشكل شائع في المياه المفتوحة أن صغار البط تتبع أمها في تكوين منظم للغاية، ولنحاول الإجابة على الأسئلة الآتية:
لماذا يسبح صغار البط في هذا التشكيل؟، وما هو أفضل تشكيل للسباحة؟، وما مقدار الطاقة التي يمكن لكل فرد الحفاظ عليها في السباحة التشكيلية؟
ولمعالجة هذه الأسئلة؛ قام فريق من جامعة كيمبردج في بريطانيا بإنشاء نموذجاً رياضياً وعددياً مبسطاً لحساب قوى السحب الموجية على مجموعة من الطيور المائية في تشكيل السباحة، وخرجوا بنتيجتين هامتين؛ وهما ركوب الموجات وتمريرها.
إذ إنّ من خلال ركوب الموجات التي تولدها البطة الأم يمكن أن تحصل البطة الخلفية على انخفاض كبير في قوى سحب الموجة؛ فعندما تسبح البطة عند "النقطة المميزة (الظروف المناسبة لتحقيق هذه الحالة)" خلف الأم تحدث ظاهرة تداخل هدّام للموجات، مما يضعف قوى السحب على البطة، ويساعد في دفع فرخ البطة إلى الأمام، والأكثر إثارة للاهتمام هو فائدة ركوب هذه الموجات؛ إذ يمكن أن تستمر من قِبل بقية فراخ البط في تشكيل خط واحد.
لقد أكدت القياسات أن فراخ البط يمكن أن توفر ما يصل إلى 62.8 % في جهد التمثيل الغذائي عند السباحة خلف البطة الأم القائد بهذا الأسلوب، وهذا يلهمنا لمحاولة شرح تكوين سير صغار البط من منظور جديد – ظاهرة تداخل الموجة الفريدة على سطح الماء الحر.
ويوضح الشكل 3 (ب – د) نموذجًا ميكانيكيًا مبسطًا ثنائي الأبعاد لبطة على سطح الماء الحر تحت ظروف مختلفة في حالة المياه الهادئة، كما هو موضح في الشكل 3 (ب)؛ إذ تخضع البطة لقوة الضغط الهيدروستاتيكي بدون مكون أفقي، أما في الشكل 3 (ج)؛ فتجلس البطة على موجة مع صدرها على قمة الموجة وبطنها على قاع الموجة، حيث إن ارتفاع الموجة يعكس توزيع الضغط على سطح الماء، ومن المتوقع وجود مقاومة إضافية معاكسة لاتجاه الحركة بسب الضغط المتكامل على سطح جسم البطة المغمور، وفي هذه الحالة يكون تأثير الموجة سالبًا، ويلزم المزيد من جهود الحركة مقارنة بالسباحة فقط في الماء الهادئ ـ
في الشكل 3 (د) تركب البطة نفس الموجة ولكنها 180 درجة خارج طور الموجة الموضحة في الشكل 3 (ج)؛ حيث يكون صدر البطة على قاع موجي والبطن على قمة الموجة، وسيتم دفع البطة بواسطة الموجات، وبالتالي سيتم تقليل الجهد اللازم للحركة.
كما تجدر الإشارة إلى أن الفائدة المتلقاة من الموجات لا يمكن أن تستمر إلا عندما يبقى الوضع النسبي للبطة مع وضع الموجة دون تغيير؛ لذلك يتطلب أن تكون سرعة البطة الأمامية مساوية لسرعة مجموعة الموجة، ويمكن تحقيق حالة ركوب الموجات هذه بسهولة طالما أن الجسم الخلفي يحافظ على نفس سرعة جسم الأم؛ لأن الموجات الثابتة التي تنتجها الأم لن تغير طورها عند ملاحظتها من نظام إحداثيات ثابتة على جسم الأم.
وفي الخلاصة؛ كشفت الدراسة أن صغار البط يطبقون مبدأ ركوب الموجات وتمريرها لتقليل قوى سحب الموجات، ولتحسين أداء حركتهم، إذ عليهم السباحة في تشكيل واحد يمكن من خلاله أن يحصل فرخ البط الفردي على فوائد متناغمة، ويكون تمرير الموجة مصحوبًا بتوازن ديناميكي؛ حيث يظل السحب الموجي الكلي للمجموعة ثابتًا بغض النظر عن حجم المجموعة.
وتقترح الدراسة أيضاً إمكانية تطبيق هذه المبادئ بشكل محتمل لتصميم سفن حديثة لنقل البضائع؛ وعلى سبيل المثال تصميم قطار مائي لنقل المزيد من الشحنات دون تكلفة وقود إضافية.
وفي الختام نذكر أن هذا النموذج لم يكن الوحيد لمحاكاة الطيور في تطبيقات عملية، فهناك محاولات عدة لتقليد الطيور والحشرات أيضا؛ لبناء نماذج ميكانيكية صغيرة قابلة للطيران على ارتفاعات منخفضة بهدف جمع المعلومات المختلفة.
لماذا تطير بعض الطيور في شكل حرف٧
من الملاحظ في هذه الحركة بأن جناحي الطير القائد تولد دوامات على جانبي الجناحين، وهذه الدوامات متغيرة في اتجاه الدوران حسب اتجاة حركة الجناح إذا كانت للأعلى أو للأسفل، وللاستفادة من قوى الرفع الناتجة عن هذه الدوامات فلا بد للطائر أن يجد المكان المناسب خلف القائد، وكذلك عليه أن يحرك جناحية بنغمة تتفق مع طور الموجات اللولبية، وتتكرر هذه الخطوة مع باقي الطيور لتأخذ مكانها في السرب، وأضف إلى ذلك بأن الشكل الناشئ عن هذه التشكيلة يمكّن جميع أعضاء الفريق من الرؤية الجيدة،
كما تتغير القيادة بشكل متكرر لتوزيع الجهود.
المراجع
- Transition and turbulence, The engine and the atmosphere: An introduction to Engine and atmosphere: An introduction to Engineering by Z. Wahaft – Cambridge University press.
- Wave riding and wave passing by duckling formation swimming, J. of fluid mechanics
- Vol 928, Oct 2021.
- Birds watching,
- Birds watchingpro
- How do Gees decide who leads Gees team work.
- How do dimples of golf balls affect their flight
- Emily Conover, Science News, October 20 , 2021
- School of Aerospace Mechanical & Manufacturing Engineering. RMIT University
- Melbourn, Australia
- Fish F.E, Energy conversation by formation swimming, Mechanical physiology of Animals swimming. Pp 193-209, Cambridge University press.
V Formation
Golf ball
البريد الإلكتروني: mohamad.issa@gmail.com
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء المؤلفين وليست، بالضرورة، آراء منظمة المجتمع العلمي العربي
يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة