في إنجاز علمي كبير في مجال استكشاف الفضاء، تمكن مسبار "باركر سولار بروب" (Parker Solar Probe) ولأول مرة في تاريخ الفضاء، من اختراق الغلاف الجوي للشمس – المعروف بالهالة الشمسية – وأخذ عينات من الجسيمات ودراسة الحقل المغناطيسي من داخله.
يمثل الإنجاز الجديد خطوة واحدة لمسبار "باركر سولار بروب" وقفزة عملاقة لعلوم الطاقة الشمسية وفقا لبيان نشرته وكالة الفضاء والطيران الأمريكية "ناسا". فمثلما سمح الهبوط على القمر للعلماء بفهم كيفية تشكله، فإن لمس غلاف الشمس سيساعد العلماء على اكتشاف معلومات جديدة حول نجمنا وكيفية تأثيره على بقية مكونات النظام الشمسي.
ما هي أهداف المهمة؟
في هذه المهمة العلمية التاريخية، كان للعالم التونسي الدكتور نور الدين الروافي أستاذ الفيزياء الفلكية في مختبر جونز هوبكنز للفيزياء التطبيقية في لوريل، ماريلاند، دورا هاما في إنجازها بوصفه المسؤول العلمي للمشروع.
يقول الدكتور الروافي، في حديث خاص لموقع منظمة المجتمع العلمي العربي، إن "كل المهمات السابقة عملت عن بعد لدراسة الشمس، ومسبار باركر هو أول مسبار يقترب من الشمس بهذه الطريقة "لذلك حازت هذه المهمة على اهمام خاص وعلقت عليها الآمال العريضة لكشف العديد من الألغاز التي ظلت دون تفسير منذ عقود طويلة".
وحول الأهداف الرئيسية للمهمة يقول الدكتور الروافي: "عمليا هناك ثلاثة أهداف رئيسية للمهمة أولها : دراسة تسخين الهالة الشمسية غير المفهوم. وهي ظاهرة أكتشفت منذ ثلاثينات القرن الماضي، ففي الوقت الذي لا تتجاوز فيه حرارة الشمس ستة آلاف درجة مئوية، تصل درجة الحرارة داخل الهالة إلى حوالي مليون درجة. ويتمثل الهدف الثاني في دراسة تسارع الرياح الشمسية المكونة من جسيمات مشحونة، فسرعة هذه الرياح عند انطلاقها من سطح الشمس تتراوح بين 5 و10 كيلومتر في الثانية، لكنها تصل إلى مليونات الكيلومترات في الساعة بعيدا عنها. أم الهدف الثالث فقد خصص لدراسة النشاط المغناطيسي للشمس من خلال التركيز على المتوهجات التي تحدث على سطح الشمس وتطلق جسيمات عالية الطاقة بسرعة الضوء وتشكل خطرا على الاتصالات."
فكرة ارسال مسبار ليلامس الشمس ويدخل في غلافها الجوي ليست بالجديدة، وفقا للروافي، فهي تعود إلى عام 1958 ، لكن صعوبة المهمة من الناحية التقنية وعدم ملاءمة التكنولوجيا للمهمة وكلفتها العالية أدّت إلى تأجيل تنفيذ الفكرة ما يقارب الستة عقود. وقد فشلت 5 دراسات سابقة في وضع مشروع قابل للتنفيذ.
المهمة ستدوم 7 سنوات قابلة للتمديد.
كيف لامس المسبار الشمس؟
على عكس الأرض، لا تملك الشمس سطحا صلبا، لكن لديها جوا شديد الحرارة، نتيجة التفاعلات النووية في مركزها. وتؤدي هذه التفاعلات وما تحدثه من نشاط إشعاعي ومغناطيسي إلى دفع جسيمات مشحونة بعيدا عن الشمس، وعندما تصل إلى نقطة تكون فيها الجاذبية والمجالات المغناطيسية أضعف من احتوائها تنطلق في الفضاء. هذه النقطة، المعروفة باسم سطح "ألفين" Alfvén الحرج ، تمثل نهاية الغلاف الجوي الشمسي وبداية الرياح الشمسية.
مخطط رحلات التحليق داخل الغلاف الشمسي لمسبار باركر
حتى الآن، كان الباحثون غير متأكدين بالضبط من مكان تواجد سطح "ألفين" الحرج. استنادا إلى الصور البعيدة للإكليل، قدر العلماء أنه يوجد في مكان ما على مسافة تبلغ بين 10 إلى 20 نصف قطر شمسي من سطح الشمس (بين 7 و14 مليون كيلومتر). في 28 أبريل 2021، وخلال رحلة التحليق الثامنة من الشمس، واجه المسبار الشمسي باركر الظروف المغناطيسية والجسيمات المحددة عند 18.8 نصف قطر شمسي (حوالي .812 مليون كيلومتر) فوق سطح الشمس، مما يشير إلى أنه قد عبر سطح ألفين الحرج ودخل لأول مرة الغلاف الجوي الشمسي.
المرور الأول عبر الهالة، والذي استمر بضع ساعات فقط، هو واحد من العديد من عمليات الدخول في الغلاف الجوي الشمسي المخطط لها للمهمة. وقد تمكن المسبار في رحلة التحليق التاسعة من الاقتراب من سطح الشمس إلى مسافة 7.8 مليون كيلومتر. وسيستمر باركر في الدوران بالقرب من الشمس، ليصل في النهاية إلى مسافة 8.86 نصف قطر شمسي (6.1 مليون كيلومتر) فقط من السطح.
اكتشافات
يقول الدكتور الروافي إن "مهمة مسبار باركر هي بالأساس مهمة لاكتشاف ظواهر غير معروفة. فقد تمكنت على سبيل المثال من اكتشاف المناطق الفارغة من الغبار الشمسي Dust free zone في الغلاف وهي مناطق معروفة نظريا منذ عام 1929. لكن وسائل الرصد عن بعد التي استخدمت طوال العقود الماضية لم تتمكن من اكتشافها".
ويضيف العالم التونسي" أما الإكتشاف التاريخي الثاني والمهم فهو اكتشاف أن التعرجات في الرياح الشمسية التي تتميز بطاقة عالية جدا وتختفي عند الابتعاد عن الشمس، شائعة وليست نادرة كما كان يعتقد سابقا".
وكان العلماء قد اكتشفوا، في منتصف التسعينيات من القرن الماضي عددا قليلا من مكامن الخلل الغريبة على شكل حرف "S" في خطوط المجال المغناطيسي للرياح الشمسية، اعتقد العلماء حينها أن هذه التعرجات العرضية كانت شذوذًا يقتصر على المناطق القطبية للشمس، لكن باركر اكتشف أن هذه التعرجات ليست نادرة، بل هي شائعة في الرياح الشمسية وحدد مكان نشأتها بالقرب من سطح الشمس.
يقول الروافي "هذه الاكتشافات التي توصل إليها مسبار باركر يمكن أن تساعد في فهم كيفية نشأة الرياح الشمسية السريعة، وتسارعها، والإجابة على لغز الشمس القديم : كيف يتم تسخين الهالة إلى ملايين الدرجات"
من هو الدكتور نور الدين الروافي
نور الروافي هو عالم فيزياء فلكية في مختبر جونز هوبكنز للفيزياء التطبيقية، لوريل، ماريلاند. وهو أيضا عالم المشروع في مهمة Parker Solar Probe التابعة لناسا.
ولد في ولاية القصرين (وسط تونس) حصل على الأستاذية في الفيزياء من كلية العلوم بتونس وعلى درجة الدكتوراه من جامعة باريس الحادي عشر (أورساي ، فرنسا) عام 2000 حول فيزياء الهالة الشمسية والنشاط المغناطيسي للشمس. قبل التحاقه بمختبر جونز هوبكنز للفيزياء التطبيقية في عام 2008 ، عمل في معهد ماكس بلانك لأبحاث النظام الشمسي (غوتنغن ، ألمانيا 2002-2005) والمرصد الوطني للطاقة الشمسية (توكسون ، أريزونا: 2005-2008).
كما شارك الروافي في العديد من المشاريع الفضائية لاستكشاف الشمس مثل مهمة مرصد "سوهو" لمراقبة الشمس.
في رصيده ما يزيد عن 150 ورقة علمية حول فيزياء الشمس تركز خاصة على دراسة الهالة الشمسية المجالات المغناطيسية الشمسية، والقياس الطيفي الإكليلي، والرياح الشمسية . وهو عضو في الاتحاد الجيوفيزيائي الأمريكي (AGU) والجمعية الفلكية الأمريكية (AAS) .
وحصل على العديد من الجوائز تقديرا لجهوده العلمية والبحثية من بينها "جائزة الأكاديمية الجولية لعلوم الفلك" في مجال العلوم الأساسية وجائزة "نيلسون بي جاكسون" للفضاء لعام 2021 ضمن فريق عمله في مشرع المسبار باركر و"الميدالية الفضية" لناسا وهي أعلى ميدالية لوكالة الفضاء الأمريكية وميدالية نيل أرمسترونغ.
المصادر
البريد الإلكتروني: gharbis@gmail.com
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء المؤلفين وليست، بالضرورة، آراء منظمة المجتمع العلمي العربي
يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة