أدت الجهود الكبيرة التي بذلها العلماء والمترجمون في بداية العصر الإسلامي في نقل العلوم إلى اللغة العربية من لغات الأمم الأخرى إلى بزوغ العصر الذهبي للعلوم في الحضارة العربية الإسلامية. وكان ذلك بالأساس ثمار عمل شاق قام به علماء مترجمون جعل من اللغة العربية لغة قادرة على التعبير بدقة عن المفردات العلمية وشرحها وتطويرها لتكون لغة العلم بلا منازع لقرون طويلة.
وكان من آثار أفول الحضارة العربية الإسلامية وتراجع الإنتاج المعرفي لفترة زمنية طويلة أن تخلفت اللغة العربية عن مواكبة العلوم وتطورها خاصة مع بداية عصر النهضة الأوروبية. وفي القرن التاسع عشر، كان من الواضح أن اللغة العربية الفصحى أصبحت غير قادرة على التعامل مع متطلبات العصر الجديد، لذلك سعى رواد النهضة الحديثة في الوطن العربي إلى إحياء حركة الترجمة لبث دماء جديدة فيها عبر وضع مصطلحات جديدة في مختلف المجالات العلمية والفكرية الحديثة.
النشأة
بدأت حركة الترجمة الحديثة في العالم العربي مع مطلع القرن التاسع عشر في مصر في عهد محمد علي باشا في إطار سياسته الهادفة إلى النهوض بالتعليم، لذلك اهتم بالترجمة كوسيلة لنقل المعارف الأوروبية الحديثة إلى مصر عبر إرسال البعثات العلمية إلى دول أوروبا كإيطاليا وفرنسا، وإنشاء مدرسة الترجمة عام 1835 أدارها العلامة رفاعة الطهطاوي ونجحت في تخريج مجموعة من المترجمين المتخصصين، وقد بلغ عدد الكتب التي قاموا بترجمتها حوالي 2000 كتاب على مدى أربعين عاما في مختلف المجالات. وتولت هيئة من المحررين من علماء الأزهر آنذاك مراجعة المصطلحات المترجمة وضبطها. ولئن انحسرت هذه الحركة مع وفاة محمد علي فإنها نشطت من جديد في المنتصف الثاني من القرن باستئناف نشاط مدرسة الترجمة وغودة البعثات إلى الدول الأوروبية، وبإسهام من عدد من أعلام الفكر والأدب في بلاد الشام في هذا الجهد.
ومع اشتداد الحاجة إلى الترجمة وتنوع موضوعاتها وتشعبت فنونها، زاد عدد المشتغلين بها فكثرت الألفاظ الدخيلة وشاع استعمالها في الصحف وعلى الألسنة بلا ضابط أساسي، إلا أن كتابها لم يعنوا بدراسة مناهج الترجمة وقواعدها وأصولها ولم يبحثوا في مسائلها بحثا وافيا في ضوء علم اللغة بل اكتفوا بما ذكره أئمة العربية الأقدمون حول الدخيل والمعرب.
كانت طريقة رافع الطهطاوي في الترجمة، كما أورد حلمي خليل في كتابه "المولد في العربية"، أن يترجم الجملة بجمل والكلمة بجملة ولكن من غير أن يقع في الخلط بل هو دائما محافظ على روح المعنى الأصلي. وفي ترجمة المصطلحات العلمية والفنّية كان ينقل الجمل حسب معانيها أو يفسر ويشرح الكلمة الغامضة بتوسيع معناها في جملة؛ وإذا صعبت عليه التّرجمة يخترع لفظة جديدة في الّلغة العربية موافقة للمعنى الوارد في الّلغة الغربية مراعاة لمعنى النّص الأصلي.
وكان من رواد الترجمة أيضا، بطرس البستاني المتوفى عام 1883 أول من وضع قاموسا عربيا عصريا، وأحمد فارس الشدياق (1804-1887) الذي كان يرى أن في اللغة العربية نقصا في الأسماء المعبرة عما استحدث بعد العرب من الفنون والصنائع رغم إمكان صوغها باللغة العربية، ورسم للوضع شروطا. وإبراهيم اليازجي (1847-1906) الذي فرق بين نوعين من التعريب الأول نقل الكلمة الأجنبية إلى ما يرافقها من الكلم العربية ويسمى التعريب توسعا، والثاني إقحام ااكلمة الأجنبية بلفظها في الاستعمال ونظمها بين الألفاظ العربية كأنها منها. وأسهم بطرس عواد (أنستاس ماري الكرملي) (1866-1947) بوضع عدد من الصطلحات وإشاعتها، كما عرب عدد كبير منها وله مذهبه في الترجمة والتعريب وحدد المواضع التي تجب فيها الترجمة والحالات التي يجوز فيها التعريب وقيدها بشروط.
ودعا جورجي زيدان (1861-1914) إلى التعريب وحدد الفرق بين الترجمة والتعريب (كترجمة Philosophia بعبارة "حب الحكمة" أما التعريب فهو نقل هذه الكلمة الأجنبية إلى اللغة العربية بكلمة "فلسفة" ) وقرر أن الترجمة أفضل من التعريب. أما يعقوب صروف فقد دعا لتعريب المصطلحات العلمية لسببين أولها كثرة المصطلحات العلمية وتزايدها المطرد والكثيف ولجوء العربي إلى التعريب في نقل الأسماء العلمية التي لم يجدوا لها مرادف. كان هناك ميل بين الرواد إلى التعريب والقبول بالصطلح المعرب، بحسب الدكتورة رجاء وحيد دويدري في كتابها "المصطلح العلمي في اللغة العربية".
تأسيس المجامع اللغوية
مع بداية القرن العشرين وإثر انزياح الحكم العثماني، ظهرت الحاجة إلى إنشاء مؤسسات رسمية بسلامة اللغة العربية مما شابها من ألفاظ دخيلة وضعت دون ضوابط، ووضع المصطلحات العلمية والفنية والحضارية وتأليف المعاجم والقواميس لحفظها.
كان أولها مجمع اللغة العربية بدمشق عام 1919 وعين المفكر محمد كرد علي (1876-1953) أول رئيس له، وعمل على تحقيق المخطوطات ووضع الفهارس لها وتأليف المصطلحات ونشر مجلة "المجمع". وفي عام 1932 تأسس مجمع اللغة العربية في القاهرة الذي أصدر مجموعة كبيرة من المعاجم ومجموعات المصطلحات العلمية والفنية التي ضمت ما يزيد عن 170 ألف مصطلح. ثم أنشت لاحقا المجمع العلمي العراقي (1947) والمجمع العلمي الأردني (1976) والجزائري (1986) والسوداني (1993) والفلسطيني (1994) والليبي (1996) وساهمت هذه المؤسسات خاصة في دعم جهود تعريب التعليم ووضع المصطلحات العلمية والفنية.
بذلت هذه المجامع جهودا كبيرة في مجال وضع المصطلحات، كان من ثمارها نشر الكثير من المعاجم والقواميس التي ضمت آلاف المصطلحات العربية في مجال الوضع أو الترجمة أو التعريب في مختلفة العلوم والفنون، إلا أن دورها كان مقتصرا على كل مجمع بمفرده، رغم التقائها تحت مظلة اتحاد المجامع اللغوية العلمية العربية الذي تأسس عام 1971 وعمل على التنسيق بين أعمال المجامع المذكورة وتوحيد المصطلحات العلمية للبلدان العربية.
بذلت هذه المجامع جهودا كبيرة في مجال وضع المصطلحات، كان من ثمارها نشر الكثير من المعاجم والقواميس التي ضمت آلاف المصطلحات العربية في مجال الوضع أو الترجمة أو التعريب في مختلفة العلوم والفنون، إلا أن دورها كان مقتصرا على كل مجمع بمفرده، رغم التقائها تحت مظلة اتحاد المجامع اللغوية العلمية العربية الذي تأسس عام 1971 وعمل على التنسيق بين أعمال المجامع المذكورة وتوحيد المصطلحات العلمية للبلدان العربية.
شكالية تعدد المصطلحات
رغم عراقة هذه المؤسسات العلمية العربية ووعي المشرفين عليها بمسألة تعدد المصطلحات التي تم وضعها من كل طرف الذي برز خاصة في مؤتمر المجامع العربية في دمشق عام 1956، فإنه لم يتم التعامل مع هذه المشكلة حتى عام 1970 ، عندما تم إنشاء مكتب تنسيق التعريب في الرباط تحت رعاية المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم. منذ نشأته، عمل هذا المكتب، الذي لا يتمثل دوره في صياغة المصطلحات بل في تنسيقها، على إصدار مسارد بثلاث لغات للمصطلحات العلمية والتقنية ،التي تنتجها المجامع، باللغات الإنكليزية والفرنسية والعربية. وأقام المكتب في عام 1980 ندوة توحيد منهجيات وضع المصطلحات العلمية الجديدة، شارك فيها المعنيون بالتعريب في الدول العربية بما في ذلك المجامع اللغوية، وضعت خلالها جملة من المبادئ الموحدة في اختيار المصطلحات العلمية ووضعها. ويقوم المكتب بتنظيم مؤتمرات دورية يتم فيها "التصديق" على قوائم المصطلحات في مجال معين من قبل خبراء من المجامع اللغوية في جميع أنحاء العالم العربي، ثم بتخزينها في بنك بيانات في ميونيخ في ألمانيا استعدادا لإنشاء بنك بيانات مركزي للمصطلحات في العالم العربي.
لقد انبنت حركة الترجمة الحديثة في مختلف أنحاء الوطن العربي على نفس الإرث اللغوي والأدبي والعلمي وواجهت نفس التحديات الخرجية المتمثلة في هبوب رياح النهضة العلمية والتكنولوجية القادمة من أوروبا وما تحمله من تحديات للغة الأم بضرورة استيعاب الكم الهائل من المصطلحات الذي يتعين صياغته. لكنها تفاعلت مع هذه التحديات بطرق مختلفة بسبب عوامل مختلفة مثل الامتداد الجغرافي الهائل للمنطقة واهتمام الدول العربية ببناء أنظمتها التعليمية الخاصة وتطويرها.
وعلى الرغم من الجهود الحميدة التي بذلت في العقود الماضية، فإن المصطلحات العلمية الموحدة لم تصبح بعد حقيقة واقعة في العالم العربي. فتوحيد المصطلحات شيء وفرض استخدامها شيء آخر. ومن بين المتطلبات الأساسية لتحقيق ذلك على أرض الواقع، تبرز أهمية تنسيق المناهج العلمية في المدارس والجامعات، لكن من الواضح أن هذا لا يزال بعيدا إلى حد ما، وفقا لبعض الخبراء.
المصادر
البريد الإلكتروني: gharbis@gmail.com
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء المؤلفين وليست، بالضرورة، آراء منظمة المجتمع العلمي العربي.
يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة