مقدمة
ستتناول هذه الورقة دراسة أحد أهم ركائز النهضة العربية والإسلامية في القرون الوسطى وهي "دار الحكمة" كمجال ثقافي وعلمي شهد أبرز التطورات، والمنجزات لأهم النخب العلمية التي زاولت دراستها باستخدام اللغة العربية. ولا يختلف اثنان حول الدور الذي خلفه العصر العباسي في تفتق أهم الابتكارات العلمية والتقنية التي فتحت طريقا سويا لمستقبل البشرية.
هدف الدراسة
إن غاية هذا البحث ليس فقط إبراز، وتوضيح أهمية دار الحكمة البغدادية فقط، لكن الغاية والهدف من هذا البحث أيضا هو تتبع وإبراز دور اللغة العربية في تطور مختلف العلوم مع إنجازات العلماء المسلمين من خلال الإطار الأكاديمي الذي تجمعوا فيه، وهو "دار الحكمة" وإمكانية تجديد هذا المشروع العلمي والحضاري في شكل مجامع ومؤسسات علمية طموحة تستخدم لغتها الأم وهي لغتنا العربية.
فرضيات البحث
من أجل تحقيق هدف الدراسة وضعنا عدة فرضيات وهي:
- تأسيس بيت ودار الحكمة هو نقلة نوعية وكمية للعلوم والعلماء كظاهرة علمية عرفتها النهضة العربية والإسلامية.
- إن ازدهار المعارف وكثرة طلاب العلم والعلماء كان الفضل فيه يعود إلى تأسيس دار الحكمة.
- اللغة العربية ذات نزعة علمية وهي أحد عوامل ازدهار الحضارة العربية والإسلامية ماضيا وحاضرا ومستقبلا.
- إمكانية تجديد هذا المشروع في تجمع يحذو حذو دار الحكمة ويكون إطارا فاعلا لنهضة الأمة العربية.
منهجية البحث
ومن أجل تأكيد مدى صحة هذه الفرضيات، اعتمدنا في دراستنا على عدة مصادر تراثية أهمها كتاب الفهرست لابن النديم وكتاب إخبار العلماء بأخبار الحكماء للقفطي، وكتاب عيون الأنباء في طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة. وهذا بتكييف نصوصها واستخلاص معطياتها الإحصائية والرقمية، ولن تكون محاولتنا ذات جدوى دون توجهنا نحو اكتشاف وتفكيك بنية هذه النصوص واستخراج كل مكنوناتها وخاماتها المعرفية والعلمية والرقمية. وستكون قراءتنا النقدية والمتفحصة لهذا النصوص أو تلك هي إحدى القراءات الممكنة كطريق آخر لفهم هذا التراث وفهم الأبعاد الدلالية لأسمائه وبنيته اللفظية. وسيمكننا من إحصاء العلماء وتحديد بلدانهم وتعدادهم وأهم تخصصاتهم وآثارهم وتأثيرهم على البحث العلمي في المجمل.
أهمية الدراسة
تظهر أهمية دراستنا هذه من حيث أنها ستعمل على تحديد الأسس والمبادئ العامة لمجمل الأحكام المعرفية، وتحويلها إلى معطيات رقمية باعتبارها معطيات مفتاحية دلالية لدراسة الظاهرة العلمية في ذلك العصر ، والتي ستعكس فعليا حالة الظاهرة طوال قرون منذ تأسيس دار الحكمة ببغداد إلى غاية مراحل نضج العلوم العربية، وإبداعات علمائها مركزين بذلك على التخصصات العلمية العقلية كنموذج يمثل المنهج التجريبي الذي استلهم منه وسار على خطاه العلماء الأوربيون في العصر الحديث. والقصد من كل ذلك تبيين أثر ودور بيت الحكمة وإمكانيات اللغة العربية في تخريج النخب المبدعة التي أثرت على صيرورة البحث العلمي الأوربي لعدة قرون وسيمكننا هذا العمل من معرفة أسباب و أهمية نجاح مثل هذه الأفكار وهذه التجارب العلمية الناجحة والرائدة و إسقاطها على واقعنا بإنشاء مثلا مؤسسة ومنصات علمية مختلفة.
أولا: دار الحكمة و بوادر بروز مجتمع علمي جديد في بغداد
المدلول المعنوي والوظيفي لدار الحكمة:
إن كلمة "حكمة" لا تشير فقط إلى العقل، أو إلى الفكر النظري والفلسفي بالمعنى الشمولي، بل أيضا لها البعد المعرفي الموروث من العصور القديمة والتي تعرف بالعلوم العقلية أو علوم الاوائل(1). و لا نجد أي اختلاف بين المصادر حول أن دار الحكمة مثلت الوعاء الذي جمعت فيه مختلف التصانيف الفلسفية والعلمية(2) بل وفي شتى العلوم.
ومن خلال قراءتنا لأهم المصادر والمراجع المرتبطة بموضوع دراستنا وجدنا أنها أبانت عن بعض الجزئيات التي قد لا يخال للمرء أن يكتشفها، وهي جزئيات متعلقة بالجانب العمراني لهذه الدار التي قد يعتبرها البعض ليست إلا بيتا أو محلا صغيرا، ذو أربعة أركان تحفظ فيه الكتب تم جمعها من أماكن مختلفة. (3) وقد نجحف حق مؤلف موسوعة الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري لآدم ميتز لما أعتبر أن دور العلم لم تعرفها الدولة الاسلامية إلا ابتداءا من القرن 05ه-11م!!. وجرَّد دار الكتب من وظيفتها الثانية وهي التعليم ونشر العلم، بحيث أنها لم تتجاوز وظيفة جمع الكتب ليس غير(4). وهي للأسف نظرة أبانت محدوديتها لأن دار الكتب والتي قد يطلق عليها أيضا "بيت" أو "خزانة الحكمة" في عهد الخليفة هارون الرشيد تجاوزت وظيفة جمع وخزن الكتب، بل زادت وظائفها وموظفيها ومتّنت أسسها وأركانها بالمعنى العمراني نظرا للحاجة إلى التوسعة لكثرة الكتب(5)، والمريدين من العلماء والطلبة. فهذه النظرة الدونية إذن اثبتت بعض المصادر عكسها وخطأ حكمها، ولنراجع مثلا قاموس اللغة محيط المحيط لنفرق بين معنى "الخزانة" و "البيت" و "الدار" كمصطلحات يتم توظيفها لترمز إلى تطور هذا المصطلح واستعماله في أزمان مختلفة، فخزانة الحكمة في زمن المنصور وبيت الحكمة في عهد هارون الرشيد كليهما لا يحملان نفس المعنى الوظيفي في زمن المأمون أو المعتصم أو المتوكل، لأن هذا البيت قد كبر وتوسع بنائه، وأصبح يسمى في عهد المأمون "بالدار" دار الحكمة" و "الدار" كما جاء شرحها في قاموس محيط المحيط هو الاسم الذي يشتمل على عديد من البيوت والمنازل مزودة بصحن غير مسقف(6) وفي معجم الكليات لأبي البقاء، البيت : هو اسم لمسقف واحد له دهليز، والمنزل: اسم لما يشتمل على بيوت وصحن مسقف ومطبخ يسكنه الرجل بعياله، والدار: اسم لما اشتمل على بيوت ومنازل وصحن غير مسقف والدار دار وإن زالت حوائطها(7).فالدار اذن مصطلح أشمل و أوسع من مصطلح البيت كما جاء ذكره آنفا، فالدار اشتملت على العديد من الأروقة وكل رواق من أروقة هذه الدار له تخصص علمي، كالمدرسة أو الأكاديمية التي توزعت أروقتها إلى تخصصات عديدة تعج بالمترجمين والعلماء والكتَّاب والنسَّاخ الذين يعملون على الترجمة و القراءة، والكتابة، والنسخ، بالإضافة إلى قاعات خصصت للمناظرات والحوار. وأجنحة خاصة للكتب والمخطوطات حسب تخصصها في المواد العلمية المختلفة (8).
وإذا أردنا أن نعطي نموذجا حقيقيا حول خطة تصنيف معينة للكتب حسب موضوعاتها فيمكننا أخذ نموذج كتاب الفهرست لابن النديم من خلال قسمته لكتابه إلى عشرة أجزاء، سماها ابن النديم بالمقالات وكل مقال قسمه إلى فنون تزيد وتنقص حسب أخبارها وموضوعاتها وهي:
الألسن والخطوط وكتب الشرائع-النحو واللغة –التاريخ والسير والأنساب –الشعر والشعراء- الكلام والمتكلمين-الفقه والفقهاء-الفلسفة والعلوم القديمة-الأسمار والخرافات-المذاهب و الأديان-الكيمياء وعلم الصنعة.
ثانيا: وضعية اللغة العربية ومكانتها العلمية:
يلزمني البحث في هذه النقطة طرح هذا السؤال الذي يفرض نفسه حاليا وهو:
هل وعى العلماء لما بدؤوا ترجمة نصوص الأوائل أن اللغة العربية لا تصلح إلا للشعر والأدب؟ ولا يمكن أن تكون لغة العلم العقلي؟
انه لمن نافلة القول أن نعتبر أن أي لغة هي المعبر الحقيقي للقوة التي تستند إليها أية حضارة تريد لنفسها البقاء(9). و"معرفة اللغة كالآلة التي بها يحصل الشيء ومن لم يحكم الآلة والأداة لم يصل إلى تمام الصنعة"(10) كما قال الشهرستاني. فاللغة إذن هي أداة الصنعة أو العلوم، ومن لم تكن لغته لغة محكمة لن تتمكن هذه اللغة من التأقلم مع ضروريات ومقتضيات هذه العلوم، وهذا ما لا يميز اللغة العربية بل بالعكس فلم يخطر على بال أي مترجم وفي تلك المرحلة أن تكون مسألة اللغة العربية عقبة لترجمة نصوص الأقدمين وما يلحقها من اختراع للمصطلحات العلمية التي تتلاءم مع روح هذه اللغة أو تلك فما بالك إذا كانت اللغة العربية التي استطاعت احتواء اللغات القديمة اليونانية والسريانية والفارسية والقبطية والهندية بما أنتجته من مفردات ومصطلحات علمية ما بين القرنين الأول والسابع الهجري(06 و 13م) فاق كل ما كتب بأي لسان.
فاللغة العربية التي كانت أداة التعبير لحفنة من الناس يعيشون في أرض قفر وواد غير ذي زرع قد أصبحت، كما يذكر جورج سارتون، أحد أهم رابطين -إضافة إلى الدين- اللذين يعتبران مصدر الثقافة، والتآلف بين الجماعات الإسلامية، و هي "لغة العلم المسكونية وحاملة لواء التقدم البشري"(11). والبيروني يرى فضل اللسان العربي في نقل العلوم إلى أقطار العالم: "وإلى لسان العرب نقلت العلوم إلى أقطار العالم، فازدانت وحلت في الأفئدة وسرت محاسن اللغة منها في الشرايين والأوردة"(12) . ومن خلال عملية النقل والترجمة عن اليونانية أصبحت هذه اللغة معبرة تماما عن خلاصة الفكر(13)، ولم تقتصر العربية أن تكون لغة الثقافة الدينية بل شملت أنواع الثقافة الأخرى بسبب غناها الفعلي بالمصطلحات والتراكيب ومرونتها(14)، وتكوَّن على اثرها ذلك الإنتاج الضخم في ميادين الفكر، والعلوم النقلية والعقلية، اشترك في تكوينه العرب الأقحاح، وأبناء البلاد التي دانت بالإسلام فتفجرت مواهبهم وطاقاتهم وتلاشت كل القوميات وهو أهم حدث في تاريخ الحضارة(15).
لنحاول أن نسبر أغوار وروح هذه اللغة المرنة المطواعة، أوَ ليست هذه اللغة هي اللغة الوحيدة في العالم التي تكتب كما تنطق، وبالرغم من مرور الأزمان إلا أنها لا تزال تحافظ على أصوات حروفها وتركيبها كما كانت في القديم(16). ومع ذلك هذا لا يمنع القول بأن اللغة العربية قد طعّمت بكثير من المفردات، فمع ظهور الإسلام أضيف لها مئات الألفاظ كالصلاة، والزكاة، والجهاد، والإيمان، والكفر، والجنة، وجهنم، حتى أن " كثيراً من أسماء النبي العربي سريانية "(17) كما يذكر أبو البقاء الكفوي، وكل كلمة فيها صاد وجيم فهي فارسي معرب كالصولجان مثلا. (18) واستعمل النحاة للغة ألفاظا عديدة كالرفع والجر والنصب والضم والمبتدأ والخبر والفاعل والمفعول والإسناد…وزاد تفاعلها مع الحاضر من خلال دلالات مفرداتها فالسيارة و الذرة والعنصر والهاتف والطائرة والمكتب…. وآلاف الألفاظ التي تحول معناها عن المعنى الذي كان مألوفا للجاحظ وابن المقفع مثلا. واشتق لها من هذه الاسماء كثير من الأفعال فيقال مثلا قدَّم المقدمات و أنتج النتائج وكثر استعمال ياء النسبة مثل علمي، فلسفي، منطقي، رياضي …..وفي بعض الأحيان القليلة استعملت النسبة بالألف والنون على الطريقة السريانية مثل نفساني، جسماني، روحاني…ودخلت اللا النافية على الصفات بعد أل التعريف اللانهائي اللامحدود اللاثنائي، وهكذا كثرت العبارات، والألفاظ، والمصطلحات، والاستعمالات، وكل ذلك بفضل الترجمة ما مكَّن اللغة العربية التعبير الدقيق عن مختلف الأفكار العلمية والفلسفية بكل أريحية(19) .
وهذا الأمر سمح للنَقَلة في حالة ما أعوزتهم الألفاظ العربية أن يلجأوا إلى بعض الكلمات الأجنبية وقاموا بتعريبها فتسرب إلى اللغة العديد من المصطلحات كالكافور، المسك المرجان، الياقوت، مقاليد، مزجاة،(20) من الفارسية والسريانية وغيرها…… وكلمات في المنطق والفلسفة مثل قاطيغورياس معناه المقولات انالوطيقا معناه تحليل القياس طوبيقا ومعناه الجدل سوفسطيقا ومعناه المغالطين(21) . وكلمات مثل العلوم والآلات والأدوات والعادات لم تكون قبل حركة الترجمة، وقد بقيت هذه الكلمات على حالها بعد أن خضعت لأوزان اللغة العربية، بعد ان طرأ عليها بعض التغير مراعاة للجرس العربي وطريقة النطق العربي. وتسربت إلى العربية سيلا من المفردات الأجنبية (الجدول رقم01) واستعملوا كثيرا الاشتقاق فقالوا تفلسف، تمنطق، تزندق….، وهكذا كثرت العبارات والألفاظ والمصطلحات والاستعمالات بفضل الترجمة(22) وكان الأمر يستلزم وضع المعاجم لتفسير ما ينشأ من مصطلحات جديدة مثل: كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي(23) والتعريفات للجرجاني(24) والكليات لأبي البقاء(25) وفي الأخير لا ننسى إسهامات العالم الكبير الخوارزمي فقد كانت مصنفاته في الرياضيات لها تأثير كبير على لغات العالم. "فالجبر" مثلا هو أحد من اثنين من العمليات التي استخدمها الخوارزمي في حل المعادلات التربيعية. وفي اللغة الإنجليزية كلمة Algorism و algorithm تنبعان من Algoritmi وهو الشكل اللاتيني لاسمه. واسمه كذلك هو أصل الكلمة في اللغة الإسبانية guarismo و أيضا البرتغالية algarismo وهما الاثنان بمعنى رقم(26) .
الجدول رقم 01
ثالثا: أهم المراحل التي مرت بها الحركة العلمية بُعَيْد تأسيس بيت الحكمة:
1)-المرحلة الأولى: عصر النقل والترجمة:
يمكننا اعتبار هذه المرحلة التي مرت بثلاث محطات رئيسية، وامتدت من عهد الخليفة المنصور سنة136ه إلى عهد الخليفة المتوكل سنة247ه(27) مرورا بأهم خليفتين آزرا حركة الترجمة بزخم كبير وهما هارون الرشيد و عبد الله المأمون(28) حيث شهد هذا القرن حركة ثقافية في التدوين والتأليف(29) وسيكون كمرحلة تحضيرية للبنية التحتية اللازمة، بالرغم أن حركة الترجمة لم تكن في بدايتها بل سبقتها و كما نعلم بوجود ترجمة ٍ قديمةٍ لكتاب المجسطي الذي صنفه بطليموس(30)وفي فترات ممهدة والتي ستوصل عملية هذه الترجمة فيما بعد إلى الأوج. إن هذه المرحلة التي تهمنا -والتي تميزت بأهميتها الكبرى- فإنها تشكل جزءاً من نشاط أوسع بكثير، ويمكن أن ندرج هذا النشاط ضمن حركة سابقة لها عرفت في العهد الاموي ركزت فيها على مسائل العقيدة والشريعة والتاريخ والطب…الخ(31).
ومع أن عملية الترجمة لم تخضع لمشروع سابق التصور؛ لكن العملية كانت مقصودة ومنظمة إذ كان يتم اختيار النص ثم يبحث عن مخطوطاته، وبعدها تأتي مرحلة اختبار النص من حيث جودة حروفه ووضوح خطوطه وأهمية موضوعه بإتباع طريقتين في النقل وهما:
الطريقة اللفظية التي سار على نهجها يوحنا بن البطريق مع كثرة عيوبها.
وطريقة المعنى والتي انتهجها اسحاق بن حنين والجوهري وغيرهم وهي اكثر فائدة و أعم نفعا من سابقتها (32) . و اذا اردنا أن نستدل بهذه الطريقة فهذا نص لابن النديم يوضح ذلك" قال أحمد بن عبد الله بن سلام ترجمت صدر هذا الكتاب (فيه أسماء الصحف وعددها والكتب المنزلة)، والصحف والتوراة والإنجيل وكتب الأنبياء، والتلامذة من لغة العبرانية واليونانية والصابية، وهي لغة أهل كل كتاب إلى لغة العربية حرفا حرفا، ولم أبتغ في ذلك تحسين لفظ، ولا تزيينه مخافة التحريف، ولم أزد على ما وجدته في الكتاب الذي نقلته، ولم أنقص إلا أن يكون في بعض ذلك من الكلام ما هو متقدم بلغة أهل ذلك الكتاب، فلا يستقيم لفظه في النقل إلى العربية إلا أن يؤخر. ومنه ما هو مؤخر لا يستقيم إلا أن يقدم ليستقيم ذلك بالعربية"(33) (الشكل البياني رقم:01.)
2)-المرحلة الثانية: عصر النضج والتأليف:
منذ نهاية القرن الثالث وبداية من القرن الرابع الهجري العاشر الميلادي واستمرارا للقرن الخامس الحادي عشر ميلادي سيصبح بإمكان العلماء العرب والمسلمين أن يتقدموا ويصلوا إلى مرحلة الابداع(34) وسيسفر عنه قيام حركة ثقافية في التدوين والتأليف وستكون هذه الحركة اكثر شمولية و اتساعا من حركة الترجمة و ستغدو الترجمات مرادفة بالتعليقات والشروح، لتظهر المؤلفات اولا بصورة دراسات قصيرة في موضوعات محدودة(35)، وتنتقل لتصبح بشكل مؤلفات جامعة فيها اقتباس واجتهاد.
الشكل البياني رقم 01
3)-المرحلة الثالثة: تكوين الهيئات والمؤسسات العلمية:
لا يختلف اثنان ان الدور الذي لعبته بيت الحكمة كرَّس الفعل المعرفي من خلال انتشار دور العلم، ومراكز المعلومات ليس فقط في بغداد التي عرفت اضافة إلى دار الحكمة انشاء ثلاث مكتبات اخرى، بل تعداه في القرون اللاحقة إلى انشاء العديد من هذه المؤسسات التي نعتبرها تفرعات علمية لدار الحكمة ببغداد أوقرطبة في كل من غزنة وسمرقند ومرو، وخراسان واصفهان والري والشام، القاهرة والقيروان، وفاس ومراكش، وطليطلة واشبيلية وغرناطة.. وقد كانت طرق الحج الاداة والسبب في الربط بين أطراف هذه المدن، وملتقى الكثير من أهل العلم والمعرفة وأصبح هذا الوضع كما يصفه سارتون "ضربا من فضول المعرفة" (36) وعاملا مهما في تلاقح الافكار بين مختلف العلماء، وسببا في النهضة العلمية لعديد مدن الدولة ومضاهاة لمدينة بغداد.
رابعا: احصاء العلوم والعلماء
سأحاول في هذا العنصر جريا وتتبعا للمصادر الرئيسية التي أحصت العلماء والعلوم مثل كتاب احصاء العلوم للفارابي وكذا كتاب الفهرست لابن النديم اضافة إلى كتابي عيون الانباء لإبن أصيبعة وإخبار العلماء للقفطي. مركزا في هذه الورقة على العلوم الدخيلة التي لم يعرفها العرب من قبل (37) و التي كانوا في حاجة اليها لمعرفة الانواء ولضبط مواقيتهم الشرعية والدنيوية(38). كالصلاة وأشهر الصوم والحج وبداية السنة الهجرية وكذا طرق التجارة البرية والبحرية.
وكما نرى فإن الذي يطالع اليوم مختلف المصادر يجد أن ذخائر هذه العلوم اشتهرت بها مدن الاسكندرية و انطاكية وحران وخوارزم جنديسابور لتنتقل منها اخيرا إلى بغداد(39) التي ستشهد منها عملية النضج والازدهار الحضاري ابتداءا من القرن 04ه/10م و بذلك سأختار عند احصائي لهذه العلوم كل من علوم الطب والهندسة والحساب إضافة إلى الفلك والنجامة باعتمادنا على اهم المصادر والمراجع التي احصتها وهو كتاب الفهرست، وكتاب تاريخ التراث العربي لفؤاد سيزكين ولا أريد في هذه الورقة التعليق كثيرا بل سأترك الأرقام والمؤشرات البيانية المحصل عليها تتكلم إدراكا منا بأهمية استخدام المنهج الكمي والإحصائي في دراسة التراث الحضاري للأمة. وسنكتفي فقط بتعداد هذه العلوم الرائجة في ذلك الوقت، وبذلك سيكون هدفنا اعطاء القارئ فكرة عن مختلف العلوم وعلمائها المشهورين وأهم مصنفاتهم ومجالاتهم (جدول رقم:02) لكي تعيننا على معرفة وتحليل الاحوال والأوضاع التي كانت عليها الحركة العلمية، وأهمية التواصل العلمي بين العلماء عبر حقب وأزمنة مختلفة باستخدام اللغة العربية. وللعلم فإن احصاء العلوم والعلماء ليست بالعملية السهلة خاصة في عملية التفريق بين العلماء الذين هم من أصول عربية، أو هم من أصول أجنبية لأن المصادر والمراجع قد اغفلت في كثير من الأحيان هذا الجانب بسبب ان اغلب العلماء المسلمين، والذين أسلموا وهم من اصول أجنبية اتخذوا لأنفسهم اسماء عربية لذا فقد تتبَّعت وفرَّقت بين العلماء حسب كناهم وأصالة اسمائهم وانتماءاتهم القبلية والمكانية.
والذي يطالع هذه الاحصائيات (الشكل البياني02) يظهر بجلاء تفوق تخصص كل من الطب والرياضيات وهما متقاربين ليأتي في المرتبة الثالثة تخصص الفلك وعلم النجامة ب 116 عالم وغيرها. نظرا كما قلت سابقا للحاجة الماسة لهذه التخصصات في الحياة الخاصة والعامة للمسلمين ومن خلال (الشكل البياني 03) يظهر أن هذه المرحلة أنجبت فطاحل العلماء المسلمين من أقاليم مختلفة وخاصة اقليم خوارزم و نيسابور وجنديسابور ببلاد فارس نظرا لتقاليدها العلمية الموروثة عن الفرس و احتلت الصدارة في تكوين وتخريجها للطلبة والعلماء في التخصصات الطبية والفلكية لمدة لا تقل عن الأربعة قرون الأولى الهجرية في ظل الدولة العباسية وظلت نظرياتهم وعلومهم بما حققته من أصالة وإبداع تدرس بأوربا لعدة قرون يكفي أن نذكر هنا كل من الخوارزمي وابن سينا والفارابي وغيرهم كثير…
جدول رقم 02
وأما عن مجموع العلماء العرب فيحتل تخصص الحساب والرياضيات المرتبة الاولى ب:61 عالم، ويليه الفلك والنجامة ب: 48 ثم الطب ب:47 عالم عربي. ويرجع سبب قلة اشتغال العلماء العرب بهذه المجالات وهي كغريبة لاحظها ابن خلدون وعلَّق عليها في قوله: "من الغريب الواقع أن حملة العلم في الملّة الإسلامية أكثرهم العجم…. وإن كان منهم العربي في نسبته فهو أعجمي في لغته ومرباه ومشيخته مع أن الملّة عربية وصاحب شريعتها عربي". ويعلل ذلك:"…بانتشار أحوال السذاجة والبداوة.. بين أمة العرب… وأن الصنائع من منتحل الحضر، … والحضر لذلك العهد هم العجم…. أما العرب الذين أدركوا هذه الحضارة… فشغلتهم الرئاسة في الدولة العباسية…عن القيام بالعلم و النظر فيه.. والرؤساء أبدا يستنكفون عن الصنائع والمهن وما يجر إليها ودفعوا ذلك إلى من قام به من العجم والمولَّدين.. (40) ويعلل ايضا جميل نخلة المدوّر في أن العرب كان " ظنهم كفاية ما لديهم من المجربات التي توارثوها من مشيخة الحي وعدم حاجتهم إلى مثل هذه الصناعة في كسب الرزق وترفعهم عنها كغيرها أنفة" وهذا في الطب وأما في الفلك والنجامة فإنه يرى براعة النصارى والفرس فيه على عكس العرب لأنهم كانوا ينظرون اليه "ويعدُّونه من السحر المحرم الاشتغال به"(41)
لكن ومع ذلك تبقى هذه الظاهرة مقتصرة على المراحل الاولى من تاريخ حضارة العرب وهي محصورة في المرحلة الاولى من العهد العباسي لأننا سنرى في القرون اللاحقة زيادة الاهتمام من طرف العرب الاشتغال بكل هذه العلوم كدليل على وعيهم العلمي وتظهر بوضوح في مناطق أخرى في مصر وبلاد المغرب والأندلس ببروز شخصيات عظيمة في مختلف هذه التخصصات مثل: ابن الخطيب ونصير الدين الطوسي وابن خلدون …
الخاتمة
وفي خاتمة هذا العرض فقد أردت أن أستلهم من الماضي كل ايجابياته في استخلاص العبر من إنشاء دار الحكمة، التي جعلت من اللغة العربية أداة للتطور والنجاح فأخرجت لنا علماء، لايزال يضرب بهم المثل ولهم الفضل في ازدهار ليس فقط الأمة العربية بل البشرية جمعاء..
كما أنني حاولت جاهدا أن أحلل وأناقش النص، وأحوّله إلى حالة رقمية لتكون أداة مقارنة بين حالتين أو ظاهرتين مختلفتين زمنيا الأولى هي حالة زمنية منقضية لكنها ناجحة، والثانية حالة زمنية آنية ناشئة.
ووجدت هذا التماثل في الغرض والمقصد والتشابه في الدواة والأدوات، فالحرف عربي و العلم عربي والإنسان عربي وإن إختلف جنسه. وبذلك فإن استثمرنا في لغتنا وفي تراثنا سيكون لدينا كل هذا الزخم، الماضي بتاريخه وتراثه، والحاضر بطموحه وإرادته، والمستقبل بتحقيق كل نجاحاته وإنجازاته.
والله المستعان وعليه التكلان، وهو الأول والآخر. ولله الأمر أولا وآخرا .
هوامش البحث
1-ابن الطقطقا محمد بن علي، الفخري في الاداب السلطانية والدول الإسلامية، دار صادر، بيروت. ص 216. فرنسواز ميشو، المؤسسات العلمية في الشرق الادنى في القرون الوسطى موسوعة تاريخ العلوم،ج3، ط02 مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت،2005. ص 1258
2-ابن النديم ابو الفرج يعقوب بن ابي اسحاق الوراق، الفهرست، ت رضا-تجدد:
http://waqfeya.com/book.php?bid=1565
3 –http://www.encyclopediehumanisme.com/?%D8%A8%D9%8A%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%83%D9%85%D8%A9.
4-آدم ميتز، الحضارة الاسلامية في القرن الرابع الهجري،ت محمد عبد الهادي ابو ريدة، مجلد01، ط05، دار الكتاب العربي، بيروت، ص330.
5- الفيكنت فيليب دي طرازي، خزائن الكتب العربية في الخافقين. وزارة التربية الوطنية والفنون الجميلة – لبنان 1947. ص100.
6- بطرس البستاني، قاموس محيط المحيط، مكتبة لبنان. ص62
7- أبو البقاء أيوب بن موسى الحسيني الكفوي، الكليات معجم في المصطلحات والفروق اللغوية ت عدنان درويش – محمد المصري، مؤسسة الرسالة بيروت 1998م. ص 239.
8- Subhi Al-Azzawi La Maison de la Sagesse des Abbassides à Bagdad ou les débuts de l'Université. Traduit de l’anglais par Belqacem Marzouqi.P01. safe6035d75a38b66.jimcontent.com/…/la_maison_de_la_sagesse.pdf
9) http://www.aljazeera.net/knowledgegate/opinions/2015/12/17/شوهد يوم 11/09/2016
10) الشهرستاني محمد بن عبد الكريم، الملل والنحل،ت أحمد فهمي محمد،ج01،ط02، دار الكتب العلمية، بيروت،1992.ص210.
11)سارتون جورج، تاريخ العلم والانسية الجديدة، ت اسماعيل مظهر، دار النهضة العربية، القاهرة،1961.ص159.
12)البيروني ابو الريحان، كتاب الصيدنة في الطب، ت عباس زيرياب، مركز نشر دنشكاهي، طهران.1349.ص14.
13) جواتياين، س،د، المرجع السابق.ص27.
14) كلمة لجنة الترجمة، موسوعة تاريخ العلوم العربية، ج1، ط02 مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت،2005. ص22
15)مرحبامحمد عبد الرحمن، المرجع في تاريخ العلوم،ط01، دارالجيل،بيروت،1998ص 22-23
16) عبد المالك بوحجرة، العربية هي لغة الكمبيوتر،ط1،منشورات جامعة جامعة جيجل، جيجل، الجزائر.2002.ص88.
17) مرحبا محمد عبد الرحمن، المرجع السابق، ص 263-270
18) أبو البقاء أيوب بن موسى الحسيني الكفوي، المصدر السابق، ص776-880-989.
(19) المصدر نفسه، ص1044 .
(20) المصدر نفسه، ص544 .
(21) مرحبا محمد عبد الرحمن، المرجع السابق، ص ص 263-270.
(22) أبو البقاء أيوب بن موسى الحسيني الكفوي، المصدر السابق، ص776-880-989
23) القفطي جمال الدين ، المصدر السابق، ص34.
24) مرحبا محمد عبد الرحمن، المرجع السابق، ص 270-271.
(25) التهانوي محمد، كشاف إصطلاحات الفنون والعلوم،ت رفيق العجم،ج1، ط01، مكتبة لبنان، 1996. ص 602 -607 ، أيضا أنظر إلى الجزء الثاني، ص 1398 .
(26)الجرجاني علي بن محمد، معجم التعريفات، ت محمد الصديق المنشاوي، دار الفضيلة، القاهرة، 2004.ص23-71.
(27) أبو البقاء أيوب بن موسى الحسيني الكفوي، المصدر السابق، ص116-734-239 (مفردات: اسفارا-القانون-الدكان)
". https://ar.wikipedia.org/wiki/)محمد_بن_موسى_الخوارزمي (28)
29) خفاجي محمد عبد المنعم، المرجع السابق، من ص106 إلى ص109.
30) الدينوري أحمد بن داود، الاخبار الطوال، ت محمد سعيد الرافع، ط01، المكتبة الازهرية، القاهرة، 1333ه، ص378.
31) جوناثان ليونز، المرجع السابق، ص91.
32) جلال حسني سلامة، المرجع السابق.ص43.
33) ابن النديم، المصدر السابق، ص24
34) فؤاد سزكين، تاريخ التراث العربي، ت عبد الله بن عبدالله حجازي، المجلد 3، ، النشر العلمي والمطابع،جامعة الملك سعود، 1430ه. (مقدمة الكتاب صفحة ز)
35) خضر احمد عطا الله، المرجع السابق، ص 269.
36) سارتون جورج، المرجع السابق، ص 163
37) الفارابي ابي نصر، احصاء العلوم. تقديم علي بوملحم، ط01، دار ومكتبة هلال، بيروت.1996،ص 5. أيضا: مرحبا محمد عبد الرحمن، المرجع السابق، ،ص220.
38) جميل نخلة المدور،المرجع السابق.ص181
39) ابن اصيبعة. المصدر السابق، ص ص44-45
40)ابن خلدون، المصدر السابق، ص ص 747-748.
41) جميل نخلة المدور،المرجع السابق.ص 180
البريد الإلكتروني: djamel.annak@univ-tebessa.dz
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء المؤلفين وليست، بالضرورة، آراء منظمة المجتمع العلمي العربي.
يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة