مجلة أجسر – مجلة عربية محكمة في مجال العلوم – زورو موقعنا

حركة تنقل العلماء وعلاقات التعاون العلمي في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا

الكاتب

الصغير محمد الغربي

صحفي علمي

الوقت

09:11 مساءً

تاريخ النشر

05, ديسمبر 2021

يعتبر تنقل العلماء والباحثين والأشخاص ذوي الكفاءة العالية آلية هامة تكتسب المؤسسات من خلالها المعرفة وتحفز الإبداع والابتكار. وقد وُصف التنقل بأنه عامل رئيسي لرفع مستوى البحث العلمي وإنتاج المعرفة عالية الجودة. وأثبتت الدراسات العلمية أن العلماء ينتجون أبحاثا ذات تأثير أعلى بعد التنقل بين مؤسسات علمية في دول مختلفة أو العمل في إطار التعاون على الصعيد الدولي.

وقد شهدت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (التي تضم جل الدول العربية إضافة إلى تركيا وأيران وباكستان وأفغانستان) خلال السنوات الماضية، نموا كبيرا في نشاط البحث العلمي يعود في جزء كبير منه إلى استقطاب بعض هذه الدول للأدمغة، وإلى برامج التعاون العلمي الدولي، وكذلك إلى هجرة الكفاءات العالية من داخل المنطقة إلى الدول المتقدمة في أوروبا وأمريكا الشمالية.  ولئن كان هذا العامل الأخير موضع اهتمام عدد كبير من الدراسات العلمية، فإن العاملين الأولين لم يحوزا على نفس الاهتمام من الباحثين.

في دراسة علمية جديدة نشرت  في دورية "Quantitative Science Studies" العلمية، أجرى باحثون من جامعة لايدن الهولندية بقيادة الباحث المغربي الأصل جمال الواحي تحليلا لحركة تنقل العلماء والباحثين وشبكات التعاون الدولي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (MENA) بين عامي 2008 و 2017. وقاموا بتحليل تدفقات التنقل العلمي الدولي وروابط التعاون بين دول المنطقة ودول أخرى باستخدام البيانات الوصفية المتوفرة في المنشورات العلمية.

إطار نظري

يقول الباحثون إن مفهوم "هجرة الأدمغة" ظهر في أدبيات الهجرة في الستينيات عندما خسرت أوروبا، ولا سيما المملكة المتحدة، كفاءاتها من ذوي المهارات العالية بعد هجرتهم إلى الولايات المتحدة. وكانت لهذه ظاهرة  كذلك آثاراً ضارة على مناطق أخرى من العالم مثل بلدان أوروبا الشرقية والجنوبية وأمريكا اللاتينية وأفريقيا. وقد استخدمت تسميات أخرى لوصف هذه الظاهرة مثل "كسب الأدمغة"brain gain ، و"حركة الأدمغة"brain circulation بالنسبة للبلدان أو "تحول الأدمغة" brain transformation للأفراد.

وكان الباحثون قد استخدموا في دراسات سابقة العديد من الأطر النظرية لوصف حركة تنقل العلماء بين الدول في مناطق مختلفة من العالم، من بينها إطار يطلق عليه "تدويل الهيمنة" (Hegemonic internationalization) ويركز على تدفقات الهجرة من دول الهمش أو "المحيط" إلى دول "المركز" المتطورة في مجال البحث العلمي. وإطار ثان يسمى "العولمة الانسيابية" (fluid globalization)، يركز على تطور المجتمعات العالمية والحركات الاجتماعية وقضايا التنمية. ويرى الكثير من الباحثين مثل "بيتر سكوت" من جامعة كامريدج أن إطار "العولمة الانسيابية" هو يكون أكثر فائدة لفهم الاتجاهات في الحراك العلمي. وبحسب "سكوت" فإن الحراك العلمي يتركب من  "طيف" يقع العلماء المتجذرون (الذي لا يتنقلون) في طرفه الأول والعلماء المتنقلون بشكل دائم في طرفه الثاني، بينما يقف معظم العلماء في منتصفه، لكن أطر عمله تركز على تدفقات التنقل من "محيط" إلى "مركز" واحد يهيمن عليه الغرب لكنه يتحرك بشكل متزايد نحو الشرق.

الدراسة وأهدافها

في هذه الورقة، ركز المؤلفون على منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بهدف فهم أفضل للتنقل العلمي والتعاون في هذه المنطقة من العالم. وقاموا بتعريف البلدان في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا استنادا إلى القوى العاملة العلمية المتنقلة لديها، وتحديد البلدان الرئيسية التي تتفاعل معها المنطقة، مع توصيف القوى العاملة العلمية المتنقلة بناء على خصائصها الشخصية كالسن وعدد سنوات الخبرة والجنس.

واستخدم الباحثون بيانات ببليوميترية  لحوالي مليون و468 ألف مؤلف، ساهموا بين عامي 2008 و 2017 في ما يزيد عن 963 ألف ورقة علمية، لتتبع التنقل العلمي من خلال تحديد تغييرات الانتماء مع مرور الوقت. وبنوا تحليلاتهم على ثلاثة مؤشرات: هي "مجموعة شبكة العلوم الأساسية" (Web of Science Core Collection) وهي: مؤشر الاقتباس العلمي الموسع، ومؤشر الاقتباس للعلوم الاجتماعية، ومؤشر الاقتباس للفنون والعلوم الإنسانية. واستخدموا خوارزمية لتحديد أسماء الباحثين وضبط تاريخ النشر الكامل لكل منهم.

أظهرت نتائج الدراسة أن التعاون والتنقل في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، متوائمان على الرغم من أن التنقل في المنطقة كان أكبر بالمقارنة مع ما توصلت إليه الدراسات السابقة. كما أظهرت أن حوالي 12% من الباحثين الذين تم تحديدهم قاموا بالتنقل بين دولتين أو أكثر خلال فترة الدراسة. وصنف المؤلفون العلماء المتنقلين أساسا بكونهم "مسافرين اتجاهيين" (ينتقلون إلى بلد آخر ولكنهم يظلون مرتبطين ببلدهم الأصلي طوال فترة الدراسة)، ويمثلون 5.6% من العلماء، وعلماء مهاجرون (الذين ينتقلون إلى بلد ثان مع قطع أية علاقة أكاديمية من بلده الأصلي) ويمثلون ثاني أكثر أنواع التنقل شيوعا (3.2%) وعلماء "مسافرون دون اتجاه" (يتنقلون بين مجموعة من البلدان دون اتجاه واضح) تبلغ نسبتهم 3% . وتوضح هذه النسب، وفقا للمؤلفين، الطيف الذي استخدمه سكوت (2015) لتوصيف الحراك العلمي.

أوروبا الوجهة الأولى

ووجدت الدراسة أن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ترتبط بشدة مع أوروبا استنادا إلى عدد العلماء المتنقلين. وهي تمثل الوجهة الأولى لتنقل العلماء من منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وإليها (37%) من من مجموع التدفقات  تليها أمريكا الشمالية (24%)، ومثل تنقل العلماء بين دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (20%)، وآسيا (16%). وتظهر أوقيانوسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية تنقلا للباحثين أقل من 3%.

وصنف مؤلفو الدراسة دول المنطقة إلى ثلاث مجموعات تضم الأولى الدول الجاذبة للعلماء مثل قطر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والكويت. وتضم الثانية الدول المتوازنة بين استقبال العلماء وارسالهم مثل تركيا ومصر وباكستان والمغرب والجزائر والأردن ولبنان، ومجموعة ثالثة "مرسلة" للعلماء تنتمي إليها  إيران وتونس والعراق وسوريا.

وعلى المستوى القطري، تعتبر الولايات المتحدة وفرنسا والمملكة المتحدة وألمانيا وكندا والصين وماليزيا وإيطاليا واليابان وأستراليا الوجهات الرئيسية للكفاءات العلمية لدول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ويلاحظ مؤلفو الدراسة أن عوامل القرب الجغرافي والثقافي والتاريخي واللغوي والاجتماعي والسياسي كان لها تأثير على روابط التنقل. وهذا ينطبق على سبيل المثال، على فرنسا، التي هي الوجهة المفضلة للباحثين القادمين من مستعمراتها السابقة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وتحديدا المغرب والجزائر وتونس. كما لاحظوا وجود علاقات قوية بين دول شمال أفريقيا ودول أخرى في أوروبا مثل إسبانيا وألمانيا وسويسرا وهولندا.

 في المقابل، بدت المملكة المتحدة واحدة من الوجهات المفضلة للعلماء من دول مجلس التعاون الخليجي مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر. وسجلت الدراسة أن الوجهة الرئيسية للباحثين المصريين والأردنيين كانت نحو المملكة العربية السعودية، قبل الولايات المتحدة. وبحسب المؤلفين، فإن هذه التدفقات الملحوظة تؤكد الاعتبارات الجيوسياسية التي ذكرها سكوت (2015) والمتمثلة في عوامل الجذب التي تمارسها الدول الاستعمارية السابقة أو البلدان التي تتحدث لغات "العالم" والمساحات الثقافية المشتركة والدور الرئيسي للظروف الاقتصادية وتأثير "البلد الكبير والبلد الصغير" والتغيرات السياسية مثل الثورات أو الاضطرابات المدنية.

المتنقلون أغلبهم ذكور

من وجهة النظر الديموغرافية، يهيمن الباحثون الذكور على تركيبة العاملين في مجال البحث العلمي في بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تقريبا. وقد أظهرت دول مثل المملكة العربية السعودية وإيران والأردن والإمارات العربية المتحدة وقطر درجات عالية من هيمنة الذكور. ولاحظ الباحثون أن تونس ولبنان وتركيا هي البلدان الوحيدة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي تقترب فيها نسبة الإناث من نسبة الذكور. وفيما يتعلق بالتنقل، فإن الباحثين المتنقلين في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كانوا أساسا من الرجال ذوي المكانة الأكاديمية العليا نسبيا.

وتتفاقم هذه الخصائص في عدد قليل من البلدان، مثل المملكة العربية السعودية والعراق وسوريا وليبيا. وعلى الرغم من أن دول مجلس التعاون الخليجي لديها جاذبية قوية للباحثين، إلا أنها تجذب على ما يبدو الباحثين الذكور بشكل حصري تقريبا. وبحسب الدراسة، فإن هناك فجوة واضحة بين الجنسين من حيث الحراك العلمي، إذ يمثل الرجال 66% من إجمالي العلماء المهاجرين إلى دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا و النساء 12% (ولم يحدد جنس النسبة 22% المتبقية من الباحثين) . كما سجلت نسبا مماثلة فيما يتعلق بالمهاجرين من دول المنطقة، لكن هذه النسب تختلف  حسب الدول، حيث تحصي تونس ولبنان أعلى نسب من المهاجرات (22% و21% على التوالي). ويلي هذين البلدين تركيا والجزائر والمغرب وإيران مع حوالي 17% من الباحثات المهاجرات. وتشترك مصر وباكستان في حوالي 11% من الباحثات المهاجرات. وفي البلدان المتبقية، تمثل النساء أقل من 10% من العلماء المهاجرين، مع أدنى حصة في العراق والمملكة العربية السعودية وسوريا وليبيا (حوالي 7%).

بلغ متوسط العمر الأكاديمي للباحثين المهاجرين في  دول  منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (من دول المنطقة وإليها) 12.39 سنة بين عامي 2008 و 2017 مع نسبة أعلى قليلا للقادمين. وتعد الفئة العمرية الأكاديمية "6-10" هي الأكثر شيوعا بالنسبة للباحثين المهاجرين (المغادرين والقادمين) وتمثل حوالي 42٪ من جميع المهاجرين، تليها  الفئة العمرية "11-15"، وهي تمثل 32٪ من العلماء المهاجرين.

وأشار الباحثون إلى  أن الاتجاهات الديمغرافية كانت المحرك الرئيسي للتنقل، إذ تضم بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أعدادا كبيرة من الشباب وأعداد متزايدة من الطلاب، ولتلبية هذا الطلب المرتفع، يستخدم التعليم العالي عبر الحدود على نطاق واسع من خلال تطوير برامج البحث والتطوير المشتركة. كما تساهم الشراكات الجامعية التقليدية، التي ربما تكون الشكل الأكثر شيوعا للتنقل الدولي في التعليم العالي، في تدفقات التنقل لطلاب الدكتوراه، وما بعد الدكتوراه، وكبار الباحثين نسبيا.

تنقل العلماء والتعاون العلمي بين دول المنطقة

وبشكل عام، يظهر كل من التعاون العلمي وتنقل الباحثين طابعا دوليا أكبر من طابعه الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وتبرز الولايات المتحدة والمملكة المتحدة كجهات فاعلة مهمة تقود التعاون مع معظم بلدان المنطقة. وتقود المملكة العربية السعودية وإيران ومصر وتركيا معظم التعاون الدولي داخل المنطقة. وفي الوقت الذي ترتبط فيه إيران ومصر والمملكة العربية السعودية بعلاقات تعاون قوية مع الدول الآسيوية، تتضمن الدول الرئيسية المتعاونة مع تركيا العديد من الدول الأوروبية، مثل ألمانيا وفرنسا.

وأشار الباحثون إلى أن  عددا قليلا من دول، مثل مصر أو المملكة العربية السعودية، لديها حصة أكبر من تبادلات التنقل مع بلدان أخرى في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. في المقابل، تمتلك إيران وتركيا والمغرب والجزائر وتونس حصة منخفضة نسبيا (12.5٪) وبالنسبة لهذه البلدان الخمسة، تمثل علاقات التنقل مع منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا 15٪ من جميع روابط التنقل. وبالنسبة لمعظم بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فإن حصة علاقات التنقل مع دول المنطقة  أعلى من حصة علاقات التعاون فيما بينها. وهو ما يشير إلى أن روابط التنقل بين هذه البلدان أكثر أهمية على الصعيد المحلي من التعاون.

يقول الباحثون إن نتائج الدراسة ستزود صناع السياسات العلمية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بأدلة إضافية حول أنماط التنقل في المنطقة، وتوفر بالتالي تفسيرات أفضل للسياسات المتعلقة بتنقل القوى العاملة العلمية في بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. كما يمكن أن تعمل النتائج المنشورة في هذه الدراسة كدليل داعم لصانعي السياسات من البلدان والمناطق الأخرى (مثل أفريقيا والاتحاد الأوروبي وأمريكا الشمالية وأمريكا اللاتينية) لفهم تطور منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا فيما يتعلق بحركة تنقل الباحثين ونتائجها.

 

 

تواصل مع الكاتب: g​harbis@gmail.com

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء المؤلفين وليست، بالضرورة، آراء منظمة المجتمع العلمي العربي.


يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة

     

الزوار الكرام: يسعدنا مشاركتكم وتواصلكم حول هذا المقال

ترخيص عام

الموقع قائم على مبدأ الترخيص العام للجمهور في حرية النسخ والنقل والاقتباس من جميع المحتويات والنشرات والكتب والمقالات، دون مقابل وبشكل مجاني أبدي، شريطة أن يكون العمل المستفيد من النسخ أو النقل أو الاقتباس متاحا بترخيص مجاني وبذات شروط هذا الموقع، وأن تتم الاشارة إلى منشورنا وفق الأصول العلمية، ذكرا للكاتب والعنوان والموقع والتاريخ.

هذا والموقع يساعد المؤلف على نشر إنتاجه بلا مقابل من منفعة معنوية أو مادية، شريطة أن يكون العمل متوفراً للنسخ أو النقل أو الاقتباس للجمهور بشكل مجاني. ثم إن التكاليف التي يتكبدها الموقع والعاملون عليه تأتي من مساعدات ومعونات يقبلها الموقع ما لم تكن مرتبطة بأي شرط مقابل تلك المعونات.

license
0 التعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
guest

شبكاتنا الاجتماعية

  • facebok
  • twitter
  • Instagram
  • Telegram
  • Youtube
  • Sound Cloud

يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة

icons
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x