اليوم السبت العشرون من شهر نوفمبر يتوافق مع اليوم العالم للأطفال، ومن منطلق أنه في مثل هذا اليوم من عام 1959م تم الإعلان العالمي عن حقوق الطفل من قِبل الجمعية العامة للأمم المتحدة، فلذا يركز الجميع في هذه المناسبة على التأكيد على ضمان الاحتياجات الأساسية للطفولة السعيدة. صحيح أن التأكيد والتحفيز على الرعاية المثالية للأطفال من الجوانب الصحية والتعليمة والنفسية أمر بالغ الأهمية، ولكن لا ينبغي أن نستمر في مناسبة (يوم الطفل) في تكريس ممارسة الوصاية والرعاية والحماية فقط دون النظر للأبعاد الأخرى التي قد يمارسها أو يساهم فيها الأطفال في تشكيل المسيرة البشرية.
أبرز وأهم حدث علمي حصل العام الماضي هو تطوير لقاحات وتطعيمات فيروس الكورونا، وبالرغم من أنه لم يتم حتى الآن انتاج هذا اللقاح للأطفال إلا أنني العام الماضي كتبت مقالاً خاصاً حمل عنوان (دور الأطفال في تاريخ الطب) استعرضت فيه الإسهام الكبير للأطفال في تقدم الطب من خلال ارتباط العشرات من قصص وأخبار تطوير اللقاحات والتطعيمات عبر التاريخ مع الأطفال. على نفس المساق أعتقد أنه في (يوم الطفل) نحتاج أن نبرز دور واسهام الفتيان والفتيات على صغرهم في تشكيل العالم وكتابة مسار التاريخ وتقدم العلوم والكشف والتأكيد على توضيح الأبعاد غير المتوقعة بارتباط الأطفال بالسياسة والاقتصاد والأدب وحتى الدين.
تلك ولا شك محاور متعددة ومسارات متشعبة لا يكفي مقال واحد لسبر أغوارها، ولذا سوف أكمل في هذا المقال ما بدأناه في مقال (دور الأطفال في تاريخ الطب) من تسليط ومضات كاشفة وخاطفة عن محور (الطفولة وتاريخ العلوم). في المقال الطبي استعرضنا بعجل أخبار الأطفال في مسار أشهر وأهم الاكتشافات الطبية من مثل اكتشاف لقاح مرض الجدري أو تطعيم مرض السعار أو لقاح مرض شلل الأطفال أو المصل المضاد لمرض الدفتيريا أو الاستخدامات الأولية للمضادات الحيوية وعقار البنسلين وأدوية السلفا.
ينقل عن الفيلسوف وعالم الرياضيات الفرنسي المعروف بليز باسكال ربطه الحكيم بين الطفولة والحكمة عندما قال (الحكمة تعود بنا إلى الطفولة)، وهو ما سوف نكتشفه عندما نعود إلى طفولة العلماء وندرك الكم الغريب من الاكتشافات العلمية والاختراعات التقنية التي توصل لها بعض الأطفال والعديد من الفتيان في سن المراهقة. وعلى ذكر باسكال ألم يؤهله نبوغه وعبقريته المبكرة في أن يحضر وهو في سن الثانية عشر اجتماعات الأكاديمية الفرنسية للرياضيات؟. وعندما قام في سن السادسة عشرة بتأليف كتاب عن علم الهندسة كان يشتمل على نظريات متقدمة لدرجة أن عالم الرياضيات الفرنسي الأشهر رينيه ديكارت رفض أن يصدق أن ذلك الكتاب الرياضي العميق من تأليف فتى في سن المراهقة. وإذا كان نبوغ الطفل باسكال سمح له بحضور محاضرات الأكاديمية الفرنسية للرياضيات، فإن العالم الأسكتلندي المعروف جيمس ماكسويل كان منذ طفولته ذو عبقرية فريدة في مجال الرياضيات لدرجة أنه فاز وهو في سن الثالثة عشرة بميدالية أكاديمية أدنبرة لعلم الرياضيات، وفي سن الرابعة عشرة نشرت له الجمعية الملكية في لندن (أهم وأعرق جمعية علمية على الإطلاق في التاريخ) أول بحث علمي في مسيرته البحثية القصيرة نسبيا نتيجة وفاته المبكرة.
أمير الرياضيات هو لقب خاص أطلق على عالم الرياضيات الألماني كارل جاوس أحد أنبغ علماء الرياضيات في جميع العصور وقد أظهر عبقرية فريدة منذ سنوات طفولته الأولى. عندما كان كارل جاوس في سن العاشرة كان يستطيع أن يختزل مجموع السلاسل الحسابية، وبعد سن الرابعة عشرة ظل لفترة من الزمن يقوم بتعديل وتطوير العديد من النظريات الرياضية.
وهذا عالم الفلك الفرنسي المعروف بيير لابلاس ينشر وهو في سن السادسة عشر بحث علمي متقدم في مجلة علمية فرنسية مرموقة لا ينشر فيها إلا كبار العلماء. وفي نفس ذلك السن قام فتى مراهق آخر بنشر اكتشاف علمي متقدم في مجال الفلك يتعلق بالمدارات الثنائية للكواكب والأجرام السماوية وكان ذلك عالم الفلك الألماني كارل شفارتسشيلد والذي سوف يخلد أسمه لاحقا في كتب تاريخ العلم لأنه أول من توقع وتنبء بوجود ما يسمى في علم الكون بالثقوب السوداء.
ما سبق كان استعراض عينة مختارة عن بعض مشاهير العلماء الذين توصلوا لاكتشافات علمية وهم في سن الطفولة أو المراهقة، أما العلماء والباحثين الذي توصلوا لاختراعات تقنية وحصلوا على براءات اختراع وهم في سن الطفولة فيمكن أن نذكر منهم علماء كبار حصل بعضهم على جائزة نوبل. وهذا هو حال عالم الفيزياء المجري الأصل دينس جابور مخترع تقنية الهولوغرام التي تستخدم أشعة الليزر لإعطاء صور ضوئية ثلاثية الأبعاد، وحصل على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1971 ميلادي. وبقي أن نقول أن هذا النبوغ التكنولوجي ليس مستغربا من شخص حصل في طفولته وهو في سن الحادية عشر على أول براءة اختراع عن تصميم مبتكر لدوامة ألعاب الملاهي.
الجميع تقريبا يعرف أن الشاب الإيطالي غوليلمو ماركوني هو مخترع جهاز الراديو، ولكن ما يهم هنا أن هذا الاختراع تم التوصل إليه بعد سنوات من لبحث والتطوير. ومنذ سنوات المراهقة المبكرة كان الفتى ماركوني يجري محاولاته الأولية لاختراع جهاز يمكن من ارسال رسائل التلغراف بطريقة لاسلكية، وهو ما أثمر في النهاية لاختراع الراديو. لا جدال أن مخترع الراديو هو الإيطالي ماركوني أما جهاز التلفزيون فمعركة تحديد مخترعة ما زالت حامية الوطيس منذ عقود طويلة والشعوب البريطانية والأمريكية واليابانية كلا منها يدعي أن هذا الشرف هو لأحد أبنائهم. ما يلائم موضوع مقالنا الحالي هو الفتى الأمريكي فيلو فارنزوورث الذي يعتبر مخترع التلفزيون (من وجهة نظر الأمريكان !!) والذي بدأ في هذا المشوار التقني وهو في سن الخامسة عشرة عندما وضع تصاميمه الأولية للوحدة الإليكترونية المسماة مجزئ الصور في التلفزيون الإلكتروني.
ومن الصناعات والمخترعات الفيزيائية إلى نطاق المخترعات في الصناعات الكيميائية حيث تذكر كتب تاريخ العلوم أن رائد الصناعات البتروكيميائية الكيميائي البريطاني السير ويليام بيركن توصل في آخر سنوات مرحلة المراهقة لاختراع أول صبغة عضوية مصنعة كيميائيا. وفي الصناعات الكيميائية غير العضوية تشتهر قصة المخترع الأمريكي الشاب تشارلز هول الذي اكتشف في مرحلة المراهقة طريقة كيمائية اقتصادية لاستخلاص معدن الألومنيوم من خاماته. وبهذا الاختراع الذي توصل له الفتى الصغير تشارلز هول كان في الواقع يحقق ما سمعه بشكل مباشر من عالم الكيمياء الألماني البارز فردريك فولر عندما قال: الشخص الذي يكتشف طريقة رخيصة لإنتاج الألومنيوم ليس يساهم فقط في تقدم العلوم، بل كذلك سوف يصبح شخص ثري جدا وهذا ما حصل بالفعل.
عبر السنوات قمت بقراءة عدد كبير من سير حياة وأخبار العلماء والمخترعين والباحثين ولفت انتباهي ذلك (النبوغ المبكر) في مسيرة حياتهم العلمية، ولهذا أتفق جزئياً مع مقولة عالم الفيزياء الأمريكي الياباني الأصل والنجم التلفزيوني المعروف (ميتشيو كاكو): "يولد كل طفل عبقريا، ولكن يحطمه المجتمع".
وبسبب اهتمامي بظاهرة (الطفل المعجزة) والعبقرية المبكرة في حياة عشرات العلماء والمخترعين قمت بتجميع أخبارهم وقصص نبوغهم في ملف خاص استخلصت منهم بعجل ما تم ذكره في ثنايا وتضاعيف هذا المقال. والمقصود أن هؤلاء العباقرة من العلماء ومنذ مراحل الطفولة أو المراهقة كان لهم إسهام حقيقي في تقدم العلوم وتطور المخترعات التقنية. ولذلك اتفق مع التحريف الذي قام به أحدهم عندما غير المقولة المشهورة المنسوبة لأينشتاين من عبارة (كبار السن من الرجال يبدؤون الحرب، لكن الصغار هم من يقاتلون فيها)، لتصبح (كبار السن من الرجال يستطيعون شن الحرب، لكن الأطفال هم من يصنعون التاريخ).
تواصل مع الكاتب: ahalgamdy@gmail.com
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء المؤلفين وليست، بالضرورة، آراء منظمة المجتمع العلمي العربي.
يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة