تعد الدودة المستديرة الصغيرة، الربداء الرشيقة، Caenorhabditis elegans واحدة من أكثر الكائنات التي خضعت للدراسة على وجه الأرض. فهي ديدان شفافة وسهلة النمو في المختبر، ومفضلة لدى علماء الوراثة وغيرهم من الباحثين الذين جربوها لاستخلاص دروس واسعة حول الظواهر البيولوجية للحيوانات. وتتكاثر هذه الديدان بسرعة ومن السهل إنتاج العديد من نسلها للأبحاث الجينية. يبلغ طول الدودة الخنثوية حوالي 1 مم وتحتوي على 959 خلية، وموضع هذه الخلايا ثابت. بالإضافة إلى ذلك، من السهل الاعتناء بها في المختبر حيث يمكن تجميدها ثم إذابتها مرة أخرى إلى الحياة، واستخدامها كنموذج يحاكي مختلف الأمراض البشرية. وقد تم تحديد تسلسل الجينوم الخاص بهذه الديدان لأول مرة في عام 1998 – قبل خمس سنوات من اكتمال نفس التسلسل للبشر. وقد وجد أن جينوم هذه الديدان يشبه البشر بنسبة 40%.
وقد مُنحت جوائز نوبل لخمسة باحثين أجروا أبحاثهم على هذه الديدان وهم:
– جائزة نوبل في علم وظائف الأعضاء أو الطب 2002 لكل من: جون سولستون، سيدني برينر، وروبرت هورفيتس لاكتشافاتهم حول "التنظيم الجيني لتطور الأعضاء وموت الخلية المبرمج".
– جائزة نوبل في علم وظائف الأعضاء أو الطب 2006 لكل من: اندروا فاير وجريج ميلو، لاكتشافهما "تداخل RNA – إسكات الجينات بواسطة RNA مزدوج الشريطة".
– جائزة نوبل في الكيمياء 2008 لمارتين شالفي لاكتشاف "تطوير البروتين الفلوري الأخضر GFP".
ولأن الثدييات تلد وترضع أطفالها لبن من الثدي، فهناك سؤال قديم "هل تفعل الديدان مثل ما تفعله الثدييات"؟ والإجابة على هذا السؤال ظهرت في بحث شيّق تم نشره حديثا لكشفه ظاهرة أمومة جديدة عند الديدان الخيطية الأسطوانية المجهرية من نوع Caenorhabditis elegans حيث وجد أنها تخرج نوعًا من حليب البيض من الفرج لإطعام صغارها.
ويستخدم العلماء ديدان التربة الصغيرة هذه، والتي تشبه الوحوش المتلألئة المجهرية الشفافة، لدراسة مظاهر وأسباب الشيخوخة والذاكرة والعديد من الظواهر البيولوجية الأخرى منذ الستينيات. لقد تم تقديرهم بحثًا عنهم، لدرجة أنهم كانوا أول حيوان متعدد الخلايا يتم ترتيب تسلسل الجينوم الخاص به.
فقد كشفت دراسة جديدة أن يرقات هذه الديدان والتي تتغذى على هذا الحليب تنمو بسرعة أكبر من أقرانها التي لا تتغذى عليه، حتى بعد عودتها إلى طعامها المعتاد من الغذاء المفضل لها من البكتيريا. فكما هو تمامًا الحال مع الثدييات التي توفر الحليب لأطفالها، فإن هذه الديدان تغذي أجيالها من الديدان بوجبات مفيدة من اللبن تساعدها على اللياقة البدنية لمواجهة عالمها الجديد.
ولكن على عكس الثديات للأسف، إن تغذية اليرقات على حليب الأم يأتي بتكلفة كارثية على الأم. فالأم في هذا النوع من الديدان خنثى، مما يعني أن لديها أعضاء تناسلية ذكورية وأنثوية رغم أن الذكور موجودة أيضًا، ولكنها نادرة جدًا. ولذلك فمع أن الإناث تستطيع تخصيب بيوضها جنسياً، إلا أنها غالباً ما تخصب نفسها لأن فرصة إمدادها بالحيوانات المنوية محدودة. ولكن بعد الإخصاب تتوقف الأمهات عن الإنجاب، وتقوم بإنتاج لبن الصغار.
فمن أين يأتي هذا اللبن وكيف تصنعه الأمهات لليرقات؟ في الواقع، فإن البيض بجسم هذه الديدان الصغيرة هو أكثر من وزن جسمها. وتكوّن الأمهات البيض على شكل صفار أو خلايا بويضة سليمة تمامًا (البويضات). وبعد عملية التخصيب وتكوين اليرقات تقوم الديدان بعصر باقي البيض الذي لم يُخصّب ليذوب على هيئة حليب لإعطائه لليرقات مما يسمح لها بإعادة تهيئة أعضائها بما في ذلك الأمعاء والعضلات مرة أخرى، والتي كانت مضغوطة قبل ذوبان البيض على هيئة حليب. وبذلك نرى كيف تقوم هذه الديدان بتدمير نفسها من أجل تغذية نسلها. ولأن كل تلك البويضات غير المخصبة مليئة بالحليب، لذا فهي تعمل مثل زجاجات الحليب للمساعدة في نقل اللبن لإطعام الديدان الصغيرة.
وعلى غرار تلك الظاهرة في هذه الديدان، فهناك بعض الأنواع اللافقارية الأخرى التي توفر إفرازات ذات قيمة غذائية عالية لصغارها ولكن بطرق مختلفة. فهناك العناكب والصراصير، والأخطبوطات والسلمون.. والتي تضحي العديد منها بنفسها من أجل صغارها.
وتوقيت إنتاج حليب الدودة من صفار البيض يتزامن أيضًا مع الوقت الذي تبدأ فيه مستعمرتهم في استنفاد طعامها. في الحياة العادية، يُعتقد أن C. elegans تتكاثر بسرعة عندما تغزو مناطق جديدة، وهناك تلتهم البكتيريا داخل منازلها المصنوعة من التراب وتعيش في مستعمرات كبيرة تشهد طفرات وانهيارات هائلة في عدد الديدان بسبب الزحام على الحياة. ولذلك تقوم الأمهات بإعطاء نسلها عصارة الحليب هذه عند تناقص الإمدادات الغذائية، لتبقيهم على قيد الحياة – وهي عملية تطورية تسمى اختيار الأقارب.
وقد وجد أن الآلية التي تحفز تحويل الأعضاء إلى بيض داخل أمهاتهم ثم عصره وإخراجه على هيئة حليب، يعتمد على أحداث كيمياءحيوية تشمل مسار الإشارات الشبيهة بالأنسولين، والمعروفة بأنها المسئولة عن قصر عمر هذه الديدان. في الواقع، هذا المسار هو أحد الأسباب العديدة التي جعلت C. elegans نموذجاً جيدًا لدراسة الشيخوخة. ولسوء الحظ، فإن هذه التضحية بالنفس المثيرة للإعجاب تعني أيضًا إجراء دراسات مثيرة حول جينات C. elegans التي قد تطيل بشكل كبير من عمر الدودة المستديرة، وقد تنجح فقط لأنها تمنع هذا الانتحار الإنجابي. ويعتقد الباحثون أن العديد من آليات شيخوخة الدودة هذه لا تزال مشابهة لتلك التي تظهر في الحيوانات الأخرى، لذلك فهذه الديدان فرصة ممتازة لدراسة العديد من الأمراض التي يواجهها الانسان.
وهكذا نتعلم من الديدان التضحية من أجل الصغار حتى ولو أدّى الأمر بعصر أعضائنا الداخلية لتصير لبنا مصفي يبقيهم على قيد الحياة.
نُشر هذا البحث في المواقع الآتية:
البريد الإلكتروني للكاتب: Mohamed.abib@science.tanta.edu.eg
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء المؤلفين وليست، بالضرورة، آراء منظمة المجتمع العلمي العربي.
يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل
أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة