نجح جراحون أمريكيون في زرع كلية خنزير في جسم إنسان. في خطوة فارقة ضمن مشوار السعي المستمر منذ عقود لاستخدام أعضاء حيوانية في عمليات زرع منقذة للحياة. وتعد هذه الجراحة تقدما كبيرا يحتمل أن يؤدي في نهاية المطاف للتخفيف من النقص الحاد في الأعضاء البشرية الجاهزة للزراعة. وربط الجراحون كلية الخنزير بزوج من الأوعية الدموية الكبيرة خارج جسم المتلقي المتوفى، وراقبوها لمدة يومين، وقامت الكلى بتصفية الفضلات وإخراج البول، ولم تحفز الرفض المناعي للجسم البشري، وهو الإنجاز الأهم على الإطلاق في هذه التجربة. ومن المعلوم أنها فكرة تقشعر لها الأبدان، ولا تروق للكثيرين ولا تحظى بقبول ومباركة البشر في العديد من الدول نتيجة معوقات دينية وأخلاقية، أو حتى نتيجة لوجهات النظر الطبية المختلفة.
يعود حلم زراعة الأعضاء من حيوان إلى إنسان – أو زرع الأعضاء الخارجية – إلى القرن السابع عشر بمحاولات متعثرة لاستخدام دم الحيوان في عمليات نقل الدم. وبحلول القرن العشرين، كان الجراحون يحاولون زرع أعضاء من قرود البابون إلى البشر، ولا سيما بيبي فاي، الرضيع المحتضر، الذي عاش 21 يوما بقلب قرد.
وبدأت فكرة خلط الخلايا البشرية بالحيوانية في الظهور منذ أكثر من قرن، وبالتحديد في نهاية القرن التاسع عشر، عندما نشر الكاتب البريطاني إتش. جي. ويلز روايته الشهيرة (جزيرة الدكتور مورو) التي تدور حول عالم يجري تجارب على الحيوانات بهدف منحها صفات بشرية، مثل الوعي، أو الإدراك. وكان يجري التجارب في جزيرة شبه معزولة.
استخدمت صمامات قلب الخنزير بنجاح لعقود من الزمن، واستخدم الجراحون الصينيون قرنيات الخنازير لاستعادة البصر لدى البشر، كما أن الهيبارين المميع للدم والمستخدم في علاج الجلطات مشتق من أمعاء الخنازير.
ومع عدم وجود نجاح دائم وكثير من الضجة العامة، تحول العلماء من الرئيسيات إلى الخنازير، والعبث بجيناتها لسد الفجوة بين الأنواع، ويثير استخدام الخنزير كمانح للأعضاء مخاوف أخلاقية أقل في العديد من دول العالم، نظرا لأنها تربى وتستهلك في الغذاء، لكنه بالطبع يحدث عادة ضجة كبيرة في الدول الإسلامية، ويثير لغطا كبيرا على وسائل التواصل الاجتماعي، وبصفة خاصة بعد الإعلان عن هذا النجاح الطبي الجديد المبهر بالمقاييس التقنية.
ومؤخرا، كانت الخنازير أحدث تركيز بحثي لمعالجة نقص الأعضاء. وسبق أن تطرقنا لتطور البحوث في هذا المجال، وتحدثنا عن الرؤية العلمية المستقبلة في هذا الموضوع الهام وأهميته المتنامية في مجال البحوث الطبية في مقال تحت عنوان: هل تحل «الخنازير المؤنسنة» مشكلة النقص الحاد في الأعضاء البشرية؟ (الخَيمرات البشرية – الحيوانية ومستقبل زراعة الأعضاء). وقدمت تقنية التحرير الجيني أملا كبير لتجديد فكرة استخدام أعضائها في علاج مشكلة نقص توافر الأعضاء البشرية القابلة للزراعة في البشر، حيث تتمتع الخنازير بمزايا تضمن تفوقها على القرود، لأن لديها فترات حمل قصيرة وأعضاء مماثلة للإنسان.
التجربة الجديدة
يعمل الباحثون منذ عقود على إمكانية استخدام أعضاء حيوانية في عمليات الزرع، لكن تمثلت العقبة في كيفية الحيلولة دون رفض جسم الإنسان الفوري للعضو المزروع.
وزرع الجراحون، لأول مرة في التاريخ، كلية خنزير في جسم إنسان من دون أن يرفض جهاز المناعة في جسم المتلقي العضو المزروع تواً، وهو تقدم كبير يحتمل أن يؤدي في نهاية المطاف للتخفيف من النقص الحاد في الأعضاء البشرية الجاهزة للزراعة.
وتضمنت الجراحة، التي أُجريت في مركز لانغون الطبي التابع لجامعة نيويورك استخدام خنزير تم تعديل جيناته، بحيث لم تعد أنسجته تحتوي على جزيء كربوهيدرات معروف (ألفا-غال) وهو سكر غريب عن جسم الإنسان، ويسبب رفضا فوريا من جهاز المناعة البشري للعضو المنزرع.
وافترض فريق روبرت مونتغومري؛ الجراح المسؤول عن الزراعة والذي قاد الدراسة أن التخلص من جين الخنزير الخاص بالحصول على الكربوهيدرات (ألفا-غال)، والذي يسبب الرفض سيمنع حدوث المشكلة. وتغلب الباحثون على هذه المشكلة عن طريق التحرير الجيني، وجاءت الكلية المستخدمة في هذه التجربة من حيوان معدل جينيا، مصمما بحيث يفتقر إلى الجين الذي ينتج هذا النوع من السكر الذي يثير هجوما فوريا من الجهاز المناعي.
تم تطوير الخنزير المعدل وراثيا، بواسطة وحدة "رفيفيكور" التابعة لشركة "يونايتد ثيرابيوتكس كورب" وتمت الموافقة عليه من قبل إدارة الأغذية والعقاقير الأمريكية في ديسمبر 2020 لاستخدامه كغذاء لمن يعانون من حساسية لحوم الخنزير وكمصدر محتمل للعلاجات البشرية.
وفي حالة دراسة جامعة نيويورك، أبقى الباحثون جثة امرأة متوفاة على جهاز التنفس الصناعي بعد أن وافقت عائلتها على التجربة. وكانت المرأة ترغب في التبرع بأعضائها، لكنها لم تكن مناسبة للتبرع التقليدي، وشعرت الأسرة أن "هناك احتمال أن يأتي بعض الخير من هذه الهدية"، وفقا لما قاله مونتغمري.
وقال باحثون لرويترز إن متلقية الكلية مريضة متوفاة دماغيا ظهرت عليها علامات ضعف في وظائف الكلى ووافقت أسرتها على التجربة قبل أن يتم رفعها من على أجهزة الإبقاء على قيد الحياة. وعلى مدار ثلاثة أيام، تم ربط الكلية الجديدة بالأوعية الدموية للمريضة وتم الحفاظ عليها خارج جسدها، مما أتاح للباحثين التعامل معها مباشرة.
وقال مونتغومري إن نتائج اختبار وظائف الكلى المزروعة "بدت طبيعية إلى حد كبير". وأضاف أن الكلية أدرت "كمية البول التي يمكن أن تتوقعها" من كلية بشرية مزروعة، ولم يكن هناك دليل على الرفض القوي المبكر الذي نراه عند زرع كلى خنازير غير معدلة في كائنات رئيسية غير بشرية.
وقال الدكتور أندرو آدامز، من كلية الطب بجامعة مينيسوتا، والذي لم يشارك في الدراسة العمل، إن هذا البحث كان خطوة مهمة، وسيطمئن المرضى والباحثين والمنظمين "أننا نسير في الاتجاه الصحيح."
والعجيب أن مونتغمري نفسه تلقى قبل ثلاث سنوات عملية زرع قلب بشري من متبرع مصاب بالتهاب الكبد سي، لأنه كان على استعداد لأخذ أي عضو. وقال: "كنت أحد هؤلاء الأشخاص الذين يرقدون في وحدة العناية المركزة في انتظار ولا أعرف ما إذا كان أحد الأعضاء سيأتي في الوقت المناسب".
هل يمكن أن تُحل هذه التقنية مشكلة نقص أعضاء المتبرعين؟
ينتظر ما يقرب من 107 آلاف شخص في الولايات المتحدة حاليا عمليات لزرع أعضاء، وهناك أكثر من 90 ألف شخص في الولايات المتحدة وحدها على استعداد لإجراء عملية زرع الكلى، وفقا للشبكة المتحدة للتشارك في الأعضاء. ويبلغ متوسط فترات الانتظار للحصول على كُلية ما بين ثلاث إلى خمس سنوات.
وتعمل العديد من شركات التكنولوجيا الحيوية على تطوير أعضاء خنازير مناسبة للزرع للمساعدة في تخفيف النقص في الأعضاء البشرية. ويعتبر هذا التقدم بمثابة نجاح كبير وإحراز قصب السبق في هذا المجال للشركة التي عدّلت الخنزير وراثيا والأنواع القريبة منه، وهو قطيع مكون من 100 كائن نشأ في ظروف محكمة في منشأة في ولاية أيوا الأمريكية.
وكانت إدارة الغذاء والدواء الأمريكية قد وافقت من قبل على تعديل الجينات في هذه الخنازير، باعتباره آمنا لاستهلاك الغذاء والدواء البشري، ولكنها قالت إن المطورين سيحتاجون إلى تقديم المزيد من الأوراق البحثية قبل أن يتم زرع أعضاء الخنازير في البشر الأحياء، وإن المنتجات الطبية التي تم تطويرها من الخنازير ستظل تتطلب موافقة محددة منها قبل استخدامها مع البشر.
وقالت مارتين روثبلات، الرئيسة التنفيذية لشركة "يونايتد ثيرابيوتك" (United Therapeutics) هذه خطوة مهمة إلى الأمام في تحقيق الوعد بزراعة الأعضاء الخارجية، والتي ستنقذ آلاف الأرواح كل عام في المستقبل غير البعيد". ويقول الخبراء إن الاختبارات التي أُجريت على الرئيسيات غير البشرية والتجربة على جسم الإنسان تمهد الطريق لأول عملية زرع كلى أو قلب خنزير في البشر الأحياء.
وقالت كارين ماشكي، الباحثة البحثية في مركز “هاستنجس" (Hastings)، التي ستساعد في وضع توصيات بشأن الأخلاقيات والسياسات للتجارب السريرية الأولى بموجب منحة من المعاهد الوطنية للصحة، إن تربية الخنازير للتبرع بالأعضاء أمر خاطئ بالنسبة لبعض الناس، ولكن قد يصبح مقبولا أكثر إذا أمكن معالجة المخاوف بشأن الرفق بالحيوان.
ومن المؤكد أن هذه التقنية تعد اختراقا علميا كبيرا، ويمكن أن تكون مصدرا مستداما ومتجددا للأعضاء وعلى الرغم من الجدال الدائر حولها وسيل الانتقادات التي تتعرض له، إلا أن هذه العلمية الناجحة بعث آمالا كبيرة لدى الملايين من الناس حول العالم ممن ينتظرون دورهم منذ اعوام لإيجاد متبرع بكليته يمكن أن ينقذ حياتهم.
المصادر
– د. طارق قابيل (2019). هل تحل «الخنازير المؤنسنة» مشكلة النقص الحاد في الأعضاء البشرية؟
مجلة التقدم العلمي الكويتية. https://2u.pw/9EmG2
د. طارق قابيل
أكاديمي، كاتب، ومترجم، ومحرر علمي
عضو هيئة التدريس – كلية العلوم – جامعة القاهرة
متخصص في الوراثة الجزيئية والتكنولوجيا الحيوية
تواصل مع الكاتب: tkapiel@sci.cu.edu.eg | tarekkapiel@hotmail.com
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء المؤلفين وليست، بالضرورة، آراء منظمة المجتمع العلمي العربي.
يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة