في حالة مرض في الجهاز التنفسي، يقوم المريض بإخراج الرذاذ الحامل لمسببات الأمراض في الهواء. ولكن، لإحداث العدوى، يجب استنشاقها والوصول إلى الأنسجة المستهدفة في الجهاز التنفسي. السؤال يتعلق بالمسار ومستوى التعرض. استعان علماء فيزياء بقوانين حركة (ديناميكية) الموائع مع الرياضيات والنمذجة لفهم انتقال مسببات الأمراض من الفيروسات والكائنات الدقيقة الأخرى في الهواء والسوائل. وقد نشرت مجلة "المراجعة السنوية لميكانيكا الموائع"، ورقة مراجعة مهمة للغاية في عدد يناير 2021. تفسر انتقال الفيروسات والكائنات الممرضة عبر الهواء بتطبيق قوانين فيزياء الموائع. محدثة تحوّل في فهم انتقال المرض.
الهواء مائع
تعلمنا في المدارس الابتدائية أن المادة لها (ثلاثة) أشكال: غاز وسائل، وصلب أو جامد. والحقيقة أنها جميعاً مكونة من ذرات وأن الفرق بينها يكمن في قوة ترابط تلك الذرات وتقييد حركتها. وفي حين تكون الذرات شبه ثابتة في مكانها في المادة الصلبة، فإن تلك الذرات (الجزيئات) في السوائل والغازات لها قدرة على الحركة والانسياب. ولذا تشترك الموائع (غازات وسوائل وبلازما) في قوانين الفيزياء التي تحكم حركة الموائع. هذه القوانين الجميلة قد تجدها في حركة النجوم والمجرات، كما تجدها على مستوى الخلية الحية وسوائل الجسم.
من هنا، فإن حركية (ديناميكيات) السوائل، كيف تتدفق تحت تأثير قوى مختلفة مثل الجاذبية والزخم الأولي الذي تم دفع السائل به، وخواص الوسط الذي يتحرك فيه…، أمر بالغ الأهمية لفهم كيفية انتشار الفيروسات أو مسببات الأمراض الأخرى من مكان إلى آخر، ومن شخص إلى آخر.
منذ أكثر من عقد من الزمان، يقوم باحثون في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) في الولايات المتحدة بدراسات مميزة تركزت على فهم كيف يمكن للموائع أن تساعد في انتقال المُمرضات من مضيف إلى آخر. وباستخدام كاميرات عالية الدقة والسرعة ومع بعض قوانين الفيزياء والرياضيات الرائعة وبعض الأساسيات المعروفة، يدرس الباحثون كل ما يتعلق بحركة الرذاذ المنطلق مع هواء الزفير أو السعال أو العطاس، كما يدرسون انتقال الممرضات خلال قطرات من أنواع أخرى. ويدرسون أيضاً كيف تنقل قطرات الماء والرذاذ الأمراض النباتية من نبات إلى آخر.
مسببات الأمراض تنتقل في السوائل، سواء داخل الجسم أو خارجه، وعبر الهواء الذي هو سائل أيضاً كما ذكرنا. ولو ركزنا على أمراض الجهاز التنفسي، فإنه معلوم لدى علماء الصحة أن مسببات تلك الأمراض تنتقل من خلال انتشار قطرات المخاط واللعاب من شخص لآخر. أو من خلال الهباء وهو المخلفات الصلبة في الهواء، ولكن لا توجد دراسات علمية حديثة عن سلوك القطرات أو الهباء الجوي (حاملات الممرضات) وانتقالها في الهواء.
كانت الفكرة السائدة هي أنه عندما يخرج هواء الزفير محملاً بالقطرات والرذاذ فإنها تتبع مسارات معزولة تحت تأثير قوة الجاذبية ودفع الهواء، وليس بسحابة الغاز المضطربة المنبعثة معها.
هذه القطرات يمكنها أن تحمل مسببات الأمراض مثل فيروس كوفيد على سبيل المثال، والذي يبلغ عرضه حوالي مئة نانومتر، أي أصغر من تلك القطرات. فإذا ما تم اعتبار هذه القطرات معزولة، فإن المسافة التي ستقطعها القطرة تعتمد على زخمها الذي خرجت به. وعند إجراء الحساب الديناميكي لها سنحصل على أن المسافة التي يمكن أن تصل إليها القطرات الأكبر حجماً (الزخم الأكبر) لن تتجاوز المتر أو المترين. وأن القطرات أو جزيئات الهباء الصغيرة والتي حجمها في حدود خمسين ميكرومتر، لن تنتقل أكثر من بضع سنتيمترات، حتى لو خرجت بسرعات كبيرة. ثم تخضع لقوة الجاذبية إلى أسفل. يقول الباحثون، أن الفكرة السائدة وهي أن القطرات تنبعث في عزلة وتتبع مسارات فردية، كانت خاطئة. وأن الصورة المادية يجب مراجعتها لتقييم المخاطر التي تشكلها القطيرات المحمّلة بمسببات الأمراض المعدية بدقة.
قام الفريق وباستخدام كاميرات عالية الدقة والسرعة بتصوير الرذاذ المتطاير أثناء الزفير لعدد كبير من البشر وفي حالات متعددة، وتوصلوا إلى أنه ومن وجهة نظر حركية الموائع فإن معظم الزخم ليس من القطرات، ولكن من سحابة الغاز التي تحبس تلك القطرات بداخلها وتحملها للأمام في حزمة مركزة، وهذا على النقيض تماماً عن الفهم السابق، أي أن المقذوف(القطرة) تتطور حركته في الزمان والمكان اعتمادا على فيزياء سحابة الغاز، على الأقل في المرحلة الأولى من الزفير.
بعض هذه القطرات، بالطبع، يمكن أن تهرب من سحابة الغاز وتستقر على الأسطح. ولكن أين تهرب؟ وكيف تهرب؟ وأين تنتهي؟ إنها مدفوعة بشكل أساسي ومرة أخرى، بفيزياء السحابة. يختلف التوزيع والمسافات والمقاييس الزمنية المرتبطة بسحابة غاز محملة بالقطرات اختلافًا كبيرًا عن تلك الخاصة بالقطرات الفردية المعزولة، حيث النموذج القديم لم يأخذ هذا في الحسبان.
يهيمن على المرحلة المبكرة من السحابة الزخم العالي جدًا لسحابة الزفير نفسها، وليس من خلال تدفق الهواء الداخلي في الخلفية أي هواء الغرفة مثلا، والذي قد تكون سرعته بضع سنتيمترات فقط في الثانية، وأبطأ بكثير من متوسط سرعة الزفير. لذلك، في البداية، تهيمن ديناميكيات السحابة على تشتت القطرات المحملة بمسببات الأمراض. ويمكن أن تمتد السحابة في الغرفة في ثوانٍ أو دقائق. أثناء تحركها للأمام، تجتذب السحابة الهواء المحيط وتتفاعل معه وتبطئ سرعتها. حتى تصل في النهاية إلى نقطة انتقال، حيث تصبح سرعة سحابة الزفير قابلة للمقارنة مع سرعة هواء الخلفية. وعندها فقط يتولى تدفق الهواء في الخلفية ما هو أكثر تشتيتًا وفوضوية للقطرات أو الهباء الجوي التي كانت مركزة في سحابة الجهاز التنفسي حتى تلك النقطة. يحدث هذا عندما تبدأ حزم الجسيمات المركزة في التفكك وتبدأ في اتباع نمط تدفق الهواء.
عندما تتحرك السحابة للأمام، فإنها تكتسح الهواء المحيط وتتوسع وتفقد جزء من سرعتها وزخمها، وتبطئ. لذا فإن القطرات التي تتحرك أسرع من السرعة المتوسطة للسحابة يمكن أن تفلت، مما يترك عددًا أقل وأقل من القطرات المحصورة في السحابة. عندها يتحكم تدفق الهواء في الخلفية وذلك عندما يتحرك أسرع من السحابة، وتصبح القوى المقابلة هي سرعة تدفق الهواء المحيط مقابل سرعة الاستقرار للجسيمات المعلقة. يمكن أن تظل القطرات غير المرئية للعين المجردة، والتي يقل حجمها عن 10 ميكرومتر (ولكنها لا تزال أكبر 100 مرة من معظم الفيروسات)، معلقة في الهواء لساعات، بل لأيام، إذا كانت الظروف الحياتية موائمة لها، اعتمادًا على تدفق الهواء في الخلفية.
في حالة مرض في الجهاز التنفسي، يقوم المريض بإخراج الرذاذ الحامل لمسببات الأمراض في الهواء من خلال الزفير أو العطاس أو السعال. ولكن، لإحداث العدوى، يجب استنشاقها والوصول إلى الأنسجة المستهدفة في الجهاز التنفسي. السؤال يتعلق بالمسار ومستوى التعرض. يعتمد ذلك على فهم ديناميكيات سحابة الغاز ومصير حمولتها من القطرات ومحتوياتها، وكذلك كيفية تفاعل العامل المُمرض مع البيئة. هذا متغير وليس ثابت، لذلك نحن بحاجة إلى دمج مثل هذا التفكير الديناميكي حول هذه الأسئلة لتطوير أساسيات أكثر قوة يمكن أن تؤدي إلى تحسين المراقبة والتخفيف.
على سبيل المثال، حقيقة أن القطرات المحتوية على SARS-CoV-2 يمكن أن تبقى في الهواء لساعات مع بقاء الفيروس قابلاً للحياة ومشتتًا في الداخل، يعني أن العاملين في مجال الرعاية الصحية الذين يعتنون بمرضى Covid-19 يجب أن يستخدموا أجهزة تنفس عالية الجودة، ويجب وضعها جيدًا قبل مواجهة الشخص المصاب وجهاً لوجه على مسافة كبيرة، وليس فقط عندما يكونون على بعد مترين من المريض.
إن انتشار الفيروسات والكائنات الممرضة بصورة عامة، تشكل قلقاً في كل مكان وليس في المستشفيات فقط. خاصة في المباني والمساحات الصغيرة ورديئة التهوية. لذا يجب الحرص على تهوية الأماكن المغلقة بالوسائل المتاحة قدر المستطاع.
وعلى الناس الآخرين، خاصة مع استمرار الوباء والمتحورات الفيروسية الجديدة، الاستمرار في ارتداء الأقنعة كوسيلة فعّالة للسيطرة على المرض وللحماية الشخصية. كما أنه من المهم أن نفهم أن السوائل تتبع المسار الأقل مقاومة، أي أن القناع المفتوح من بعض الجوانب سوف يسمح لمعظم القطرات بالمرور منها. ووجود عائق يقلل زخم سحابة الزفير مفيد، وما تسمح به الأقنعة محكمة الإغلاق سيسمح بمرور محتوى فيروسي منخفض.
ولا يقتصر الحال في انتشار العدوى على الإنسان والأمراض التنفسية فقط، إن مسألة التلوث وانتقال المرض تنطبق أيضًا على انتقال الأمراض الأخرى، وفي الحيوانات والنباتات أيضاً.
وقد درس الفريق البحثي أيضاً وبنفس المنهجية، انتشار جراثيم تصيب القولون والجهاز الهضمي نتيجة انتشارها في الهواء بعد عملية استخدام مياه الصرف عالية الضغط في المراحيض مما يسبب تدفق هواء يحمل تلك الجراثيم لتظل معلقة في الهواء لفترة طويلة قبل أن تستقر على الأسطح وتنقل المرض.
سواء كان انتقال أمراض الجهاز التنفسي، أو انتشار العدوى في المستشفيات، أو انتقال الأمراض في النباتات. فإن الموضوع المشترك بينها هو أن كل هذه الأفكار مرتبطة بديناميكيات السوائل والفيزياء البينية.
مادة هذا المقال مأخوذة من مقابلة مع الدكتورة ليديا بورويبه والتي تقود الفريق البحثي وترأس المختبر الذي أجريت فيه هذه التجارب والبحوث، ورابط المقابلة موجود في أسفل هذا المقال أوصي بالرجوع إليها لمزيد الفائدة.
في نهاية المقابلة، أوصت الدكتورة، بأمور مهمة للغاية، منها:
- أهمية التركيز على العلوم الأساسية، حتى ولو أنها لا تحظى بشعبية خاصة، أو أنها ليست ممولة من المصادر التقليدية. فليس من الواضح في وقت مبكر ما هي أنواع البحوث الأساسية التي ستصبح مهمة، لحل أزمة ما في يومٍ ما. لذلك، من الأهمية بمكان دعم الأبحاث التي قد لا تبدو جاهزة للاستخدام الفوري.
- يجب أن يتحلى الباحث بالفضول والتركيز على الأساسيات.
- الحرية وعدم الانسياق مع التفكير الجماعي السائد في نوع البحث.
- الالتزام الأخلاقي والواجب في التثقيف والتواصل والمشاركة بأي طريقة ممكنة. هذه مهمة خارج البرج العاجي المعتاد للأوساط الأكاديمية.
- يجب أن يكون التركيز على رد الجميل للمجتمع أمرًا أساسيًا لمهمة الجامعات، خاصة في وقت الحاجة هذا.
وقالت ما يلي:
نوع البحث الذي أقوم به، والذي أجريته لسنوات قبل هذا الوباء، يركز على تقاطع ديناميكيات السوائل الأساسية والفيزياء الحيوية والأمراض المعدية. لم تكن تحظى بشعبية خاصة أو سائدة أو ممولة من المصادر التقليدية. ومع ذلك، فقد واصلنا، واتضح أن الأفكار التي اكتسبناها كانت مركزية لتدابير السلامة الرئيسية وأدت إلى انفجار في البحث في هذا المجال سيمكننا من الاستعداد والاستجابة للأزمات المستقبلية بشكل أفضل.
عندما نواجه تحديات جديدة، غالبًا ما تكون الرؤى المستمدة من الأبحاث الأساسية التي يقودها العلماء هي التي يمكنها تمكين الحلول أو اقتراحها. هذا هو السبب في أنه من الأهمية بمكان توخي الحذر من التفكير الجماعي ورعاية الحرية الفكرية والتنوع في مشروع البحث.
وعندما سألها المحاور:
بالنظر إلى أنكِ تدرسين انتقال أمراض الجهاز التنفسي، كيف كانت شهور الوباء العديدة بالنسبة لك؟
أجابت: كنت مشغولة جدا ومرهقة. لا يزال هناك شعور بالإلحاح، لا سيما بالنظر إلى عودة ظهور عدوى Covid-19 مع الموجة الرابعة ومع المتحورات الأحدث، عالية القابلية للانتقال. ولكن هناك أيضًا شعور بالالتزام الأخلاقي والواجب في التثقيف والتواصل والمشاركة بأي طريقة ممكنة. هذه مهمة خارج البرج العاجي المعتاد للأوساط الأكاديمية. لا يزال الوباء والمعرفة اللازمة لمكافحته يتكشفان. يجب أن يكون التركيز على رد الجميل للمجتمع أمرًا أساسيًا لمهمة الجامعات، خاصة في وقت الحاجة هذا.
المصادر
تواصل مع الكاتب: mmr@arsco.org
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء المؤلفين وليست، بالضرورة، آراء منظمة المجتمع العلمي العربي.
يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل
أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة