فقدت مصر والعالم العربي بل والعالم أجمع واحدة من أعظم علماء الوراثة البشرية في العالم، الأستاذة الدكتورة سامية علي التمتامي مؤسس علم الوراثة البشرية في جمهورية مصر العربية، معلمة الأجيال ومنارة العلم لكل من عرفها، أستاذ الوراثة البشرية بالمركز القومي للبحوث وعضو المجلس القومي لدراسة الجينوم المصري والتي وافتها المنية يوم الثلاثاء الموافق ١ يونيو لعام ٢٠٢١ رحمها الله.
ولدت د. سامية التمتامي ١٢ فبراير عام ١٩٣٥م في مدينة دمنهور بمحافظة البحيرة، وكانت نابغة منذ طفولتها وطوال سنواتها المدرسية. ثم التحقت بكلية الطب بجامعة القاهرة وتخرجت منها عام ١٩٥٧ مع مرتبة الشرف الأولى. كانت الأولى على الطبيبات لذا تم تعيينها للعمل في مستشفى الأطفال الجامعي (أبو الريش) بجامعة القاهرة، ثم حصلت على دبلوم طب الأطفال وكانت كعادتها الأولى على دفعتها. ولكنها دائما كانت غير تقليدية وكان طموحها جامحا وكانت تبحث في كل ما هو نادر، فكانت تشغلها دائما الحالات النادرة والتي يوجد بها تشوهات أو عيوب خلقية أو الأمراض التي لا يعرف لها سبب أكثر بكثير من الأمراض المنتشرة لدى الأطفال، وكانت تتعاطف بشدة مع هذه الحالات وعائلاتها.
تزوجت من الطبيب مصطفى رأفت محمود، وسافرا سويا لدراسة الدكتوراه في أمريكا وذلك في عام ١٩٦١ في جامعة جونز هوبكنز بالتيمور في ولاية ميرلاند. ونظرا لشغفها بعلم الوراثة عملت تحت إشراف البروفيسور فيكتور ماك يوزك "رائد علم الوراثة البشرية" في العالم والذي آمن بنبوغها العلمي ودقتها الشديدة والمتميزة، وتفانيها بالعمل والبحث. وكان شغفها الرئيس هو دراسة التشوهات الخلقية وخاصه تشوهات الأطراف. وأسفرت رسالة الدكتوراه عن إنتاج اثنين من المجلدات الضخمة طوّرتها بعد ذلك في مرجع بالتعاون مع بروفيسور ماك يوزك، والذي تم إعادة طباعته عدة مرات لاعتباره الأهم والأشمل في تشوهات الأطراف.
ثم حصلت على الدكتوراه في علم الوراثة البشرية من جامعة جونز هوبكنز الأمريكية عام ١٩٦٦. وقد تلقت الأستاذة الدكتورة سامية علي التمتامي العديد من العروض المغرية للاستقرار ومواصلة العمل والبحث العلمي بالولايات المتحدة الأمريكية لنبوغها العلمي، وكان هذا يعد أسهل الطرق للعالمية وعلى الأخص في ذلك الوقت حيث كان طب الوراثة في بداياته. إلا أنها اختارت الطريق الأصعب والشاق، فهي المرأة الحديدية التي آثرت أن تنقل هذا العلم وتكمل المسيرة في بلدها الأم مصر فكانت مُحبة لوطنها وحريصة على إفادته والارتقاء به، فعادت إلى أرض الوطن عام ١٩٦٦.
وبعد رجوعها إلى مصر فضلت أ.د سامية التمتامي العمل بمجال البحث العلمي والتفرغ له فالتحقت بالمركز القومي للبحوث وأنشأت أول عيادة للأمراض الوراثية في مصر والوطن العربي والشرق الأوسط. وتمكنت من أن ترسي قواعد أول قسم للوراثة البشرية. وبمجهودها وحماسها وإيمانها بحاجتنا لهذا التخصص المتفرد مع كون هذه الأمراض ليست بالنادرة في وطننا العربي في ظل ارتفاع معدلات زواج الأقارب، استطاعت الدكتورة سامية التمتامي خلال ثلاثين عاماً من العمل أن تحول العيادة الصغيرة التي تستقبل حالات الوراثة إلى شعبة كبيرة للوراثة البشرية وأبحاث الجينوم تضم ثمانية أقسام وتضم العديد من الباحثين البارزين عالمياً ومحلياً.
وكان للعالمة الجليلة أ.د سامية التمتامي شغف خاص بتشوهات الأطراف فأنشأت مجالاً متخصصاً لتشوهات العظام والأطراف الوراثية. وقد كانت لها نظرة بعيدة لإرساء المجالات المختلفة للوراثة بتكوين مجموعات تم تأسيسهم وتوجيههم تبعا لاهتماماتهم، فأخرجت جيلاً من العلماء تميزوا في تشوهات العظام والأمراض العصبية الوراثية وأمراض الغدد الوراثية والالتباس الجنسي وأمراض الدم الوراثية وأمراض الجلد الوراثية وأمراض التمثيل الغذائي وأمراض التوحد وفرط الحركة والتأخر الذهني وغيرها الكثير.
كما كانت لها نظرة مستقبلية ثاقبة، فكانت أول من اقترحت إنشاء أقسام وراثية متخصصة مثل قسم الأجنة الوراثية للتشخيص أثناء الحمل وعمل فحوصات للأم الحامل والجنين وأسست لقسم وراثة الفم والأسنان وهو الأول من نوعه في الشرق الأوسط لإيمانها بأهمية فحص الوجه والفم والفك والأسنان في الكشف عن العديد من الأمراض الوراثية.
لم يكن الطريق ممهدا أبداً ولم تكن الرحلة سهلة، فقد تطلب عملها ودراستها الكثير من وقتها، فقد كانت دائمة التواجد إلى ساعات متأخرة في العمل لإنجاز الأبحاث والإشراف على تلاميذها بجانب دورها كزوجة وأم، وقد ساعدها على ذلك زوجها الطبيب المثقف الواعي بأهمية ما تفعل والداعم لها دائما طوال رحلتها العلمية.
أسفرت المسيرة العلمية للدكتورة سامية التمتامي عن العديد من الأبحاث المعروفة بدوريات عالمية والتي تُعد مرجعاً في مجالها. وقد قامت باكتشاف أكثر من أربعين مرضاً وراثياً سُجّلت باسمها في المراجع العلمية العالمية، ولايزال تصنيفها لتشوهات الأطراف مع بروفيسور ماك يوزك حتى الآن منذ أكثر من خمسين عاماً مرجعاً رئيسا لكل المهتمين بهذا المجال.
كما قامت بالإشراف على العديد من رسائل الماجستير والدكتوراه ليس فقط بالمركز بل بجميع الجامعات والمراكز البحثية التي ساهمت في إرساء علم الوراثة لديها. وقد كانت الدكتورة التمتامي أول من اقترح القيام بعمل المسحة للمواليد للأمراض الوراثية بمصر من خلال إحدى النقاط البحثية التي عملت عليها لأكثر من عامين وأسفرت نتائجها الإيجابية المهمة عن تطبيقها على المستوى القومي.
اشتركت العالمة الجليلة في العديد من المجلات العلمية الدولية والمحلية وأنشأت وتولت رئاسة مجلة الشرق الأوسط لعلم الوراثة الطبية. واستمرت أ.د سامية في العطاء الذي لا يتوقف بحماسها ونشاطها وثقتها المعهودة، فقد أنشأت الجمعية القومية للوراثة البشرية عام ٢٠٠٣ وأسست مركز التميز للوراثة البشرية عام ٢٠١٤. وتقوم الجمعية القومية للوراثة البشرية بتقديم العديد من الخدمات للمرضى المصابين بأمراض وراثية كما تدعم العديد من القوافل الطبية بمحافظات مصر وتدعم اصدار بعض النشرات الطبية المبسطة لرفع الوعي عن طبيعة الأمراض الوراثية وطرق تشخيصها وتفاديها خصوصاً في مجتمعاتنا العربية وصعيد مصر حيث تنتشر معدلات زواج الأقارب.
وقد احتضنت الجمعية القومية للوراثة البشرية تحت رئاستها العديد من المؤتمرات العلمية المحلية والعالمية والإقليمية مثل مؤتمر الجمعية الأفريقية للوراثة البشرية عام ٢٠١٧ ومؤتمر الرابطة العربية لأبحاث الجينات عام ٢٠١٩ كما قدمت الدعم للعديد من الدورات العلمية التدريبية في مجال الوراثة البشرية لشباب الباحثين والأطباء في مختلف التخصصات.
كانت الرحلة للأستاذة الدكتورة ساميه التمتامي شاقة وطويلة، والمسيرة مليئة بالعطاء لبلدها وللعلم وللبشرية جمعاء، فكانت لحظات التكريم تنسيها كل ما تكبدت من عناء في البحث المستمر والدراسة وقد تقلدت العديد من الجوائز والأوسمة المحلية والعالمية منها على سبيل المثال لا للحصر، وسام الجمهورية للعلوم والفنون عام ٢٠١٣، جائزة النيل في العلوم الطبية عام ٢٠١٢ وهى أرفع جائزة علمية في مصر والتي توجت عملها في خدمه وطنها والعلم والبشرية. واختيرت ضمن أكثر خمسين سيدة مؤثرة لعام ٢٠١٧ كما حصلت على جائزة مؤسسة هوجو للجينوم البشرى لقارة أفريقيا عام ٢٠١٧.
كانت لا تتوقف عن الأحلام والمثابرة لتحقيقها برغم الصعوبات وضعف الإمكانيات المادية في ظل ارتفاع تكلفة الأجهزة والكيماويات والتقنيات الحديثة في علم الوراثة إلا أنها كانت تؤمن بأهمية العقول المصرية والعربية ونبوغها وقدراتها المتميزة في التشخيص بما يضاهى بل ويتفوق على الكثير من علماء العالم ممن لديهم الإمكانيات المادية والتقنيات الحديثة. وعلى صعيد العمل معها وتحت إشرافها كانت لا تكل ولا تمل بل وتسعد بقضاء ساعات طويلة من العمل بالعيادة مع المرضى رغم كبر سنها، وكانت تتوهج أكثر عند مواجهة الحالات الصعبة في التشخيص ولا تهدأ عن البحث ومراجعة المراجع والمواقع العلمية ولا تستريح حتى تصل للتشخيص وتساعد المريض وأهله بعد مروره برحلة مضنية مع كثير من الأطباء والفحوصات بدون جدوى، بل وكثيرا ما تقدم الخدمة للمرضى مجانا برغم ارتفاع تكاليف الفحوصات الوراثية. وكانت تشجع شباب الأطباء وتسعد وتفخر بهم عندما يجيدون تشخيص الحالات النادرة.
كانت طيلة الوقت تتميز بالخلق الرفيع والهدوء كما كانت أيضا تهتم بأناقتها وتحب الألوان الزاهية على عكس الصورة النمطية الساخرة التي ترتبط دوما بالعلماء. لذا تعتبر الأستاذة الدكتورة ساميه التمتامي نجمة في سماء العلم، المثل والقدوة.
كم هي إنسانة مُلهمة لكل من عرفها وعمل معها وتحت إشرافها وكم هي أيقونة في فضاء العلم والبحث العلمي الذي عشقته. عاشت عمرها كله في عطاء متميز حتى آخر لحظة ولم تتوقف أبدا عن الحلم منذ بداياتها كنائبة أطفال تبحث عن تشخيص الأمراض المجهولة الهوية و السبب، ثم حلم آخر بنقل علم الوراثة البشرية من أمريكا لمصر والسعي لرفع الوعي بالأمراض الوراثية لدى شعب مصر والشعوب العربية حتى أصبح الحلم حقيقة حينما تبنت الدولة المصرية مؤخراً أكبر مشروع قومي للجينوم المصري لدراسة جينات المصريين وكذا جينات قدماء المصريين للكشف عن بعض أسرار الأجداد. وكانت "التمتامي" هي أحد أهم أعضاء هذا المشروع والداعية إليه منذ زمن طويل والذي تمنت من خلاله الوصول لأسباب الأمراض الوراثية واكتشاف علاجات جينية لها لتكمل الحلم بغدٍ أفضل خال من الأمراض الوراثية.
وكان حلمها الدائم التعاون بين الدول العربية بما لديهم من إمكانيات لتحقيق الهدف، ألا وهو الحدّ من الأمراض الوراثية للحد من الإعاقة وهذا ما نادت به في كثير من المؤتمرات.
كم هي خسارة عظيمة للبشرية لا تعوض بفقدان هذا الصرح الشامخ ولكن إن كانت قد أغلقت صفحة حياتها فإن وهجها لن ينطفئ، فسيظل علمها وعملها وخبراتها المتوارثة عبر الأجيال نبراساً يستضيء به كل عالم وباحث ويستفيد منه المرضى على مر العصور وستظل سيرتها قدوة للجميع فالعلماء ورثة الأنبياء.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له، رواه مسلم.
ونُشهد الله أن الأستاذة القديرة والعالمة الجليلة دكتورة سامية التمتامي تركت الكثير من العلم الذي يُنتفع به، ونسأل الله أن يجزي أستاذتنا الغالية عنا خير الجزاء ونبتهل إلى الله العلي المجيب أن يتقبل دعواتنا لها. آمين
للتواصل مع الكُتاب:
د. مها زكي – رئيس قسم الوراثة البشرية وأبحاث الجينوم، المركز القومي للبحوث
البريد الإلكتروني: dr_mahazaki@yahoo.com
د. منى عجلان – قائم بأعمال رئيس شعبة الوراثة البشرية وأبحاث الجينوم سابقا، المركز القومي للبحوث
البريد الإلكتروني: drmona_aglan@yahoo.com
د. غادة عطيفي – أستاذ مساعد الوراثة الاكلينيكية، المركز القومي للبحوث
البريد الإلكتروني: ghadaotaify@yahoo.com
يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل
أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة