كثيرا ما شاهدت مومياء طائر "أبو منجل" المقدس (Ibis) عندنا في جبّانة (مقبرة) تونة الجبل الأثرية (50 كم جنوب مدينة المنيا في صعيد مصر)، وكذلك كثير من تماثيله ومومياواته بالمتاحف وصوره المنقوشة على جدران المعابد والمقابر والمسلّات، لكن الشوق دوما يجذبني لمعرفة أين ذهب هذا الطائر واختفى من أجواء مصر المحروسة؟ ولماذا لم يبق كأصدقاء الفلاح (الهدهد وأبو فصاده وأبو قردان)؟
وأخيرا وأنا اتابع بضائع سوق الجمعة بالسيدة عائشة بالقاهرة (يمثل سوق شعبي للتنوع الحيوي)، فوجئت بمشاهدة أحد الباعة يعرض طائر أبو منجل للبيع!!. أين كنت وسماء مصر تسأل عنك وأبنائها يتوقون لرؤيتك حيا، وليس نقشا على جدران أو مومياء في كفن؟.
كان اكتشاف جبّانة تونة الجبل الموجودة في مركز ملوي بمحافظة المنيا، والتي تعود إلى القرن السابع قبل الميلاد، أكبر دليل على قدسية أبو منجل لدى القدماء المصريين، فقد عُثر داخلها على سراديب ممتدة بها نحو أربعة ملايين من مومياوات الطائر المقدس (كما تم اكتشاف 1.75 مليون طائر محنط في مقبرة سقارة القديمة قرب الجيزة). وُجدت تلك الطيور محنطة ومكفنة بلفائف الكتان، بنفس الطريق التي كفن بها قدماء المصريين ملوكهم، ووضعت داخل توابيت من الحجر أو الفخار. وظل أبو منجل يشغل عقول الأثريين والباحثين عن أهميته في الحضارة الفرعونية القديمة. فقد كان يُمثل الإله تحوت (إله الحكمة والكتابة والسحر والأدب والعلم كما أنه يشترك في حساب الموتى) وكانت له مكانة خاصة عند المصريين القدماء.
تحوت أو توت إله الحكمة عند الفراعنة، أحد أرباب ثامون الأشمونين الكوني، يعتبر من أهم الآلهة المصرية القديمة، ويُصور برأس أبي منجل، ونظيره الأنثوي الإلهة ماعت (إلهة العدل والحق). ولقد كان ضريحه الأساسي في مقاطعة الأشمونين (جبانتها تونة الجبل) حيث كان المعبود الأساسي هناك.
اعتبر قدماء المصريين أن الإله تحوت هو الذي علمهم الكتابة والحساب، وهو يصور دائما ماسكا بالقلم ولوح يكتب عليه. له دور أساسي في محكمة الموتى حيث يؤتى بالميت بعد البعث لإجراء عملية وزن قلبه أمام ريشة الحق ماعت. ويقوم تحوت بتسجيل نتيجة الميزان. إذا كان قلب الميت أثقل من ريشة الحق – فيكون من المخطئين العاصين – يُلقى بقلبه إلى وحش مفترس تخيلي فيلتهمه وتكون هذه هي النهاية الأبدية للميت. أما إذا كان القلب أخف من ريشة الحق (ماعت)؛ فمعنى ذلك أن الميت كان صالحا في الدنيا فيدخل الجنة يعيش فيها مع زوجته وأحبابه، بعد أن يستقبله أوزيريس.
ويقول الكاتب وعالم المصريات الأميركي "جون أنتوني ويست" (John Anthony West؛ 1932-2018م) في كتابه «ثعبان السماء» (Serpent in the Sky) عن أسباب الربط بين أبو منجل وبين الكتابة، ربما لأن «سلوك الطائر والطريقة التي يحرك بها منقاره المقوس في المياه الضحلة بحثاً عن الطعام وأسلوب التقاطه للحشرات من الأشجار يشبه طريقة الكتابة، كما أن طريقة تحريكه لرأسه ومنقاره تشبه طريقة تحريك اليد وهي ممسكة بالقلم.
لكن طائر أبو منجل المصري القديم المقدس (Threskiornis aethiopicus)، الذي ملأت مومياواته وتصدرت صوره مقابر القدماء واتخذته جامعة القاهرة شعارا لها، اختفى تماماً من سماء مصر قبل مائتي عام، باستثناء أعداد قليلة لا تتجاوز 15 طائرًا، كانت حديقة حيوان الجيزة تحتفظ بها؛ ونحمد الله بدأت النجاحات تُسجّل في المحافظة عليه، فمع منتصف العام 2009م، عاد يصدح من جديد (لكن) في حديقة حيوان الجيزة قرابة 27 طائرا.
وطائر أبو منجل المصري هذا أحد الطيور المائية من جنس أبو ملعقة ويتبع عائلة أبو منجليات وأهمها نوعان: أبو منجل الأسود، وأبو منجل المقدس (الأبيض) ذو الريش الأبيض للجسم ورأس وذيل ومنقار أسود اللون، وهي طيور خواضة ذات منقار طويل ورفيع ومنحني للأسفل (يشبه أداة حصاد المحاصيل الزراعية "المنجل") وساقين طويلتين، ويبلغ طوله قرابة 75 سم بينما وزنه قرابة 1.5 كجم، وتصل المسافة بين جناحية المفرودين حوالي 135 سم. يعيش في الأقاليم الدفيئة في نصفي الكرة الأرضية الشمالي والجنوبي. وأبو منجل المقدس كان يعيش على ضفاف النيل وشواطئ البحيرات والترع والمستنقعات وربما أطراف الصحاري المصرية. ويعرف أحيانًا باسم "الطائر الناسك" بسبب حبه للانعزال في المناطق البعيدة، حيث يتكاثر في جروف صخرية أو منحدرات جبلية يصعب الوصول إليها.
يبلغ طائر "أبو منجل" جنسياً عندما يصل عمره 12 شهر، وتضع الأنثى من 2 إلى 5 بيضات في موسم الربيع أو الخريف، يتبادل الأبوان في احتضان البيض لمدة تتراوح بين 21 إلى 29 يوما، وبعد الفقس، يبقى أحد الوالدين بشكل مستمر في العش لأول 7 أيام، وبعد 48 يوماً يستقل الصغار عن أبويهما. وأبو منجل من النوع الذي يعيش لفترات طويلة من العمر، حتى أنه قد يعيش ليصل إلى ثلاثين سنة. ويتغذى على الأسماك المختلفة، والضفادع، والثدييات الصغيرة والزواحف والطيور الصغيرة، وكذلك الحشرات.
علم الوراثة وأبو منجل
نجح فريق بحثي من جامعة "جريفيث" الأسترالية (Griffith University) قادته الباحثة المصرية الأصل الدكتورة سالي واصف، في إعداد أول خريطة وراثية لطائر أبو منجل الفرعوني، ونشرت نتائجها في 13 نوفمبر 2019م في دورية «بلوس وان» (PLOS ONE). جمع الفريق البحثي عينات الحمض النووي (DNA) من أربعين مومياء للطائر يرجع تاريخها إلى نحو 2500 سنة مضت، من ست مقابر مختلفة لأبي منجل ومن ثلاثة أماكن متفرقة في مصر (سقارة، تونة الجبل، ابيدوس)، وأيضاً عينات من مقتنيات ثلاثة متحاف عالمية في كلا من بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة. وللمقارنة جمعوا 26 عينة حديثة ممثلة لجميع طيور أبي منجل البرية التي تعيش حاليا في عشر دول أفريقية.
وكانت المفاجأة التي وجدوها أن مدى التنوع الوراثي لأبي منجل المحنط كان كبيرا، لكنه كان مشابهاً لمدى التنوع الوراثي في الطيور البرية الحالية، ولا توجد اختلافات جوهرية بينها. وهذا يدل على أن المصري القديم كان يصيد تلك الطيور من موائلها الطبيعية، أو ربما يتم تربيتها لفترة محدودة فقط من السنة في موسم التضحية بها في الطقوس التعبدية. لأنه لو كانت الطيور قد تم تدجينها وتربيتها لفترات طويلة، فستكون النتيجة المتوقعة هي انخفاض مدى التنوع الوراثي بينها.
وهكذا، فإن تلاقي التراث التاريخي وعلم التنوع الحيوي ينتج عنه تفسير لبعض أسرار الحضارات القديمة مدعماً بنتائج دراسات علم الوراثة، كما ثبت هنا أن طيور أبي منجل التي حنطها المصريون القدماء بعد تقديمها كأضحية ونذر، لن تتم تربيتها عندهم كما كان يُعتقد، بل كانت تجمع قبل مواسم التضحية وتلك الطقوس.
المراجع
- Wasef S, Subramanian S, O’Rorke R, Huynen L, El-Marghani S, Curtis C, et al. : Mitogenomic diversity in Sacred Ibis Mummies sheds light on early Egyptian practices. PLoS ONE 2019; 14(11): e0223964. https://doi.org/10.1371/journal.pone.0223964
- Kessler D, Nur el-Din A. Der Tierfriedhof von Tuna el-Gebel. Antike Welt. 1994; 3:252–265.
- نور الدين، عبد الحليم: الديانة المصرية القديمة Pالجزء الاول المعبودات. الطبعة الثانية، 2010، مكتبة الأنجلو المصرية.، القاهرة. عدد الصفحات 456 صفحة.
- Wade AD, Ikram S, Conlogue G, Beckett R, Nelson AJ, Colten R. Backroom Treasures: CT Scanning of Two Ibis Mummies from the Peabody Museum Collection. 2011.
- Ray JD. Observations on the Archive of Hor. Journal of Egyptian Archaeology. 1978; 64:113–120.
- Ikram S. Divine Creatures: Animal Mummies in Ancient Egypt. Cairo: American University in Cairo Press; 2005.
- West, John Anthony: Serpent In The Sky – The High Wisdom Of Ancient Egypt, Borrow, and Streaming : Internet Archive. 1992. 305 pp.
- Hancock JA, Kushlan JA, Kahl MP. Storks, Ibises and Spoonbills of the World. London: Academic Press; 1992.
- Clergeau, Philippe (14 July 2009). "Threskiornis aethiopicus (sacred ibis)". Wallingford, UK: Invasive Species Compendium – CAB International. Retrieved 9 April 2018.
تواصل مع الكاتب: k.z.ahmed@minia.edu.eg | k.z.ahmed@mu.edu.eg
يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل
أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة