مع انطلاق حملات التلقيح ضد كورونا، من المنصف أن نَقسِم سكان العالم إلى فريقَين غالبين. الأول يثق بكل ما توصي به شركات الأدوية والهيئات المنظمة من ضرورة أخذ اللقاح من قِبل أكبر عدد ممكن من الناس، وهي تشيد على الدوام بالفعالية العالية والأمان النسبي لجميع اللقاحات المرخصة خصوصاً التي تعتمد على تقنية الحمض النووي المرسال mRNA. في المقابل، يغلب التردد على الفريق الثاني إما للعجلة التي تم فيها إنتاج اللقاحات والموافقة عليها، أو لعدم الخوف من الإصابة بفيروس كورونا أو حتى نقله. إلا أن المرجح أن ينضم كثير ممن هم في الفريق الثاني إلى الأول لا لاقتناعهم الكافي أو لزوال دواعي شكوكهم، ولكن بسبب نجاح الأساليب الدعائية في تسويق اللقاح أو رضوخاً للأمر الواقع بأن أخذ اللقاح هو الحل الوحيد (المتاح) للعودة إلى الحياة الطبيعية. يأتي هذا المقال العلمي ليلفت النظر إلى أحقية شكوك الفريق الثاني وليبين حقيقة عمل اللقاحات واعتبارات السلامة لأخذها.
نقف أولاً عند الأرقام القياسية لفعالية اللقاحات وما تعنيه. يشير د. بيتر دوشي ود. إريك توبول في مقالهما في جريدة نيويورك تايمز (٢٢ أيلول ٢٠٢٠) إلى أن أهداف التجارب السريرية للّقاحات في مرحلتها الثالثة اقتصرت على تخفيف العوارض الطفيفة للإصابة بكورونا (كالسعال أو الحمى) ولم تتركز على العوارض المتوسطة أو الخطيرة للمرض، كما أن العوارض الجانبية للقاحَيْ فايزر/بيونتك ومودرنا مثلاً تشبه إلى حد كبير عوارضَ كورونا الطفيفة (١). وبين د. دوشي في مقال آخر في الدورية البريطانية الطبية (٢١ تشرين الأول ٢٠٢٠) إلى أن مرد هذا المعيار المتدني للفعالية إلى ضآلة نسبة دخول المستشفيات ونسبة الوفيات (وهما معياران لقياس العوارض المتوسطة والخطيرة) في تجربة سيتم إجراؤها على ٣٠ ألف شخص مثلاً، أي كحجم تجربة لقاح مودرنا. وفيما يخص عمل اللقاحات ضد انتشار الفيروس فإن ذلك أيضاً لم يكن من أهداف التجارب، إذ يقول ممثل شركة مودرنا تال زاكس "لكي ندرس الحد من الانتشار، لا بد من أخذ عينات الأنف مرتين كل أسبوع لفترات طويلة وهو ما لا يمكن تحقيقه عملياً" (٢). إذاً، عدا عن عدم تقييم عمل اللقاحات ضد انتشار الفيروس، فإنها قد لا تَفضُل في فعاليتها على الأدوية المتوفرة لعلاج عوارض كورونا الشبيهة بالرشح، كما أن عوارضها الجانبية قد تكون بنفس قوة العوارض التي تحاول علاجها.
ولا بد من معرفة أصل الرقم المتداول عن فعالية اللقاحات، أي ٩٥% للقاح فايزر/بيونتك على سبيل المثال. يمثل هذا الرقم الفرق بين حالات ظهور العوارض المثبت إصابتها بكورونا بين مجموعة العلاج الوهمي (١٦٢ حالة) ومجموعة علاج اللقاح (٨ حالات). وعليه، فإن التوقعات الهائلة التي تُبنى على نجاح هذا اللقاح قائمةٌ فعلياً على عدم ظهور العوارض على ١٥٤ حالة إصابة بالفيروس! ويرجع هذا العدد الضئيل إلى سببين: الأول أخلاقي يحول دون تعمّد إصابة المشاركين في التجارب بفيروس كورونا (يبلغ عددهم حوالي ٤٣ ألفاً مقسمين بالتساوي بين مجموعتَي العلاج الوهمي واللقاح). والثاني تِقني، فانتظار الإصابة الطبيعية للمشاركين يعيق تحقيقَ التجربة هدفها بالوصول إلى لقاحٍ فعّال قبل انتشار الفيروس بين ملايين البشر في العالم. ولكن إذا كان سَلّمنا للتجارب السريرية بأن تقييد العدد النهائي للحالات المثبتة (أقل من ٢٠٠ حالة) لا مفر منه، فماذا عن الحالات التي ظهرت عليها عوارض كورونا ولم يتم التثبت مَخبرياً (بفحص PCR) من إصابتها؟ بحسب تقرير هيئة العقاقير والأغذية FDA حول لقاح شركة فايزر/بيونتك، فقد سُجّلت ١٥٩٤ حالة مشتبهٌ بإصابتها في مجموعة اللقاح، في مقابل ١٨١٦ حالة في مجموعة العلاج الوهمي. وبدلاً من فعالية بنسبة ٩٥%، يحذر د. دوشي بأن "التقدير التقريبي لفعالية اللقاح ضد ظهور عوارض كورونا – سواء مع أو بدون نتيجة إيجابية لفحص PCR – قد يعادل انخفاضاً بنسبة ١٩%، أي أقل بكثير من عَتبة الفعالية البالغة ٥٠% لنيل الترخيص الذي حدده المنظمون" (٣).
من المهم أيضاً الإشارة إلى عدم ثبوت فعالية اللقاحات في كبار السن. فمن المتوقع أن يؤدي ضعف جهاز المناعة لديهم إلى انخفاض ملحوظ في ردة الفعل المناعية التي يحفزها اللقاح، كما تُنبئ بذلك مثلاً تجربة فايزر/بيونتك السريرية الأولى بعد تلقي اللقاح والتي شكل فيها العيار المبطِل للأجسام المضادة عند كبار السن (٦٥-٨٥ سنة) نسبة ٤١% فقط من العيار المبطِل لدى البالغين (١٨-٥٥ سنة) (٤). وقد تنخفض فعالية اللقاحات أيضاً في الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط إذ سُجّل ذلك سابقاً للقاح الحمى الصفراء 17D في أوغندا الأفريقية (٤)، ولعل ذلك ينطبق على اللقاح الحالي لجونسون آند جونسون – إذ سجل نسبة فعالية ٧٢% في الولايات المتحدة مقابل ٦٦% في أميركا اللاتينية و٥٧% في جنوب أفريقيا (٥). إذاً، على عكس ما تتداوله الأوساط الإعلامية والعلمية، نجد من الدواعي الجَدّية والمعتبرة ما قد يحول دون أن تحقق اللقاحات الآمال المرجوة منها.
نأتي الآن على ذكر معايير السلامة، وهي التي عادة ما تؤخر صدور الموافقة وإعطاء التراخيص للقاحات إلى عدة سنوات. وبما أن لقاحَيْ فايزر/بيونتك ومودرنا هما الأسبق انتشاراً والأكثر إثارةً للجدل لاعتمادهما تقنية mRNA، فإننا نحصر النقاش فيهما هنا. يشير مقال في دورية NEJM (٣٠ كانون الأول ٢٠٢٠) إلى أنه "بالرغم من أن تقنية mRNA ليست جديدة، إلا أنه ليس هناك أي لقاح مرخص لهذه التقنية، وإن لقاحَيْ فايزر/بيونتك ومودرنا هما الأولان اللذان نالا الموافقة للاستخدام الطارئ". يشير المقال نفسه إلى أن بعد تلقيح حوالي مليوني عامل في القطاع الصحي في الولايات المتحدة بلقاح فايزر/بيونتك، وصلت نسبة حدوث صدمة حساسية مفرطة(anaphylaxis) إلى حالة لكل مئة ألف شخص ممن أخذوا اللقاح، وهي أعلى بعشرة مرات تقريباً من اللقاحات السابقة. وقد تكون مادة PEG 2000 المثبتة لغلاف اللقاح الدهني هي المسؤولة عن ردة فعل المناعة هذه. الجدير بالذكر أن "لا لقاح آخر حتى الآن يحوي مادة PEG قد تم تداوله على نطاق واسع". ولا يخلو الأمر من احتمال كون فئات سكانية أخرى (غير التي أجريت عليها التجارب) أكثر عرضة لتحفيز ردة فعل مناعية أقوى لوجود هذه المادة، وهكذا مع سائر "الأحداث السلبية" المحتملة الأخرى التي لا سبيل للتجارب إلى توقعها (٦).
من العوارض المثيرة للقلق أيضاً ما يُصطلح عليه باسم "المرض المعزّز المرتبط باللقاح" (Vaccine-associated enhanced disease)، والذي يعني زيادة في حدة المرض عند من سيصاب بالفيروس بعد أخذ اللقاح. وفي حين أن هذه الظاهرة لم تُسَجَّل في أّيٍّ من التجارب السريرية حتى الآن، فقد يعود ذلك إلى رصد عدد قليل جداً من الحالات الشديدة للمرض في هذه التجارب (فايزر/بيونتك: ٩ حالات في مجموعة العلاج الوهمي وحالة واحدة في مجموعة اللقاح؛ مودرنا: ٣٠ حالة كلها في مجموعة العلاج الوهمي). وفي حين أن التجارب السريرية ستراقب المشاركين حتى عام واحد على الأقل بعد التجربة، ينبه مقال في دورية Science Translational Medicine (٤ تشرين الثاني ٢٠٢٠) إلى أنه بناءً على الموافقة المبدئية للقاحات، "تم تسريع عملية إنتاج وتوزيع الملايين من اللقاحات للسيطرة على الوباء. لذلك، فإن الكثيرين سيتلقون اللقاح قبل أن تنتهي عملية المراقبة طويلة الأمد للتجارب" (٧). والأكثر غرابة ما أعلنته تجربة فايزر/بيونتك بعد ذلك (١٠ كانون الأول ٢٠٢٠) من أنه "بالرغم من أن الدراسة تم تصميمها لمتابعة المشاركين لدواعي السلامة والفعالية حتى سنتين بعد الجرعة الثانية، نظراً للفعالية العالية للّقاح، فإن العوائق الأخلاقية والعَملية تحول دون متابعة المشاركين في مجموعة العلاج الوهمي لمدة سنتين دون منحهم التلقيح الفعّال، ذلك بعد أن تتم موافقة المنظمون على اللقاح وتوصي به هيئات الصحة العامة" (٨). وعليه، لن يكون بالإمكان مقارنة أي من العوارض مع مجموعة العلاج الوهمي، بل إن جميع المشاركين في التجربة سيتلقون اللقاح.
ويبقى الهاجس الأكبر (بنظر كاتب هذا المقال) هو أن هذه اللقاحات تتعمّد تنشيط الجهاز المناعي عند الفئة الأغلب من الناس على نحو أقوى من إصابتهم طبيعياً بالفيروس. وكان قد أشار بحث في دورية Nature Communications (٢٥ تشرين الثاني ٢٠٢٠) إلى أن الطفرات في فيروس كورونا قد تنشأ بمساعدة الجهاز المناعي لجسم الإنسان عبر عملية تعديل الحمض النووي للفيروس RNA editing (٩). فلا ندري إذا ما كان اختلال التوازن لجهة تحفيز مناعي أقوى ضد الفيروس (عبر تلقي اللقاح) سينطوي على نشوء طفرات أكثر للفيروس مما لو استمرت الإصابات طبيعية بدون تدخل. كما أن من العواقب ما لم يتم الالتفات إليها بشكل كاف، كأن يتسلل الحمض النووي المرسال للقاح إلى نواة خلايا الجسم ويتم دمجه مع الحمض النووي البشري. وبعيداً عن نظريات التلاعب بالجينات، فمن المحتمل أن تتم هذه العملية عبر بروتيناتReverse Transcriptase المعروفة بوجودها في الخلايا البشرية، والتي ارتبط عمل بعضها بتحول الخلايا إلى سرطانية. وفي حين يشير أستاذ علم الجراثيم في جامعة كولومبيا البريطانية د. نيفيو سيمولاي إلى أن هذه المخاوف نظرية إلى الآن، إلا أنه "حتى يتم اختبار هذه المخاوف أو مراقبتها بعد التلقيح أو الإصابة الطبيعية، لا بد للتقييمات التنظيمية الخاصة بلقاحات RNA من أن تنطوي على دراسات السمّيّة الجينية" (١٠).
وفي الختام، حتى لو أهملنا الشكوك حول فعالية هذه اللقاحات وتأثيراتها المحتملة على السلامة العامة، فليس من دليل على أن المناعة المكتسبة جراء هذه اللقاحات ستكون طويلة الأمد – في حين أن المناعة الطبيعية مثلاً تستمر لأكثر من ستة أشهر (٤) – مع التأكيد على عدم اختبار فعاليتها خصيصاً لدى كبار السن والضعفاء مناعياً، وهم أكثر من يُخشى ضررهم جراء الإصابة بالفيروس. كما ينبغي التنبه إلى موعد بدء التلقيح وظهور آثاره عقب الموجة الثانية في معظم البلدان. فمن السهل أن يُنسَب الفضل في انحسار انتشار الفيروس إلى عمل اللقاح، فيما يصادف ذلك انتهاء التأثير الموسمي المحتمل لانتشار الفيروس الذي يقع حصراً في فصل الشتاء، أي كمثل سائر فيروسات كورونا الموسمية المسببة للرشح (١١).
المراجع
- These Coronavirus Trials Don’t Answer the One Question We Need to Know | The New York Times. https://www.nytimes.com/2020/09/22/opinion/covid-vaccine-coronavirus.html
- Will Covid-19 Vaccines Save Lives? Current Trials Aren’t Designed to Tell Us | British Medical Journal. https://www.bmj.com/content/371/bmj.m4037
- Peter Doshi: Pfizer and Moderna’s “95% effective” vaccines — we need more details and the raw data | The BMJ Opinion. https://blogs.bmj.com/bmj/2021/01/04/peter-doshi-pfizer-and-modernas-95-effective-vaccines-we-need-more-details-and-the-raw-data/
- Development and Deployment of COVID-19 Vaccines for Those Most Vulnerable | Science Translational Medicine. https://stm.sciencemag.org/content/13/579/eabd1525
- Coronavirus Vaccine Tracker | The New York Times https://www.nytimes.com/interactive/2020/science/coronavirus-vaccine-tracker.html
- Maintaining Safety with SARS-CoV-2 Vaccines | The New England Journal of Medicine. https://www.nejm.org/doi/full/10.1056/NEJMra2035343
- Prospects for a safe COVID-19 vaccine | Science Translational Medicine. https://stm.sciencemag.org/content/12/568/eabe0948
- Safety and Efficacy of the BNT162b2 mRNA Covid-19 Vaccine | The New England Journal of Medicine. https://www.nejm.org/doi/full/10.1056/NEJMoa2034577
- No Evidence for Increased Transmissibility from Recurrent Mutations in SARS-CoV-2 | Nature Communications. https://www.nature.com/articles/s41467-020-19818-2
- Do RNA vaccines obviate the need for genotoxicity studies? | Mutagenesis. https://academic.oup.com/mutage/article-abstract/35/6/509/5995048
- Interactions between seasonal human coronaviruses and implications for the SARS-CoV-2 pandemic: A retrospective study in Stockholm, Sweden, 2009-2020 | Journal of Clinical Virology. https://www.sciencedirect.com/science/article/pii/S1386653221000214
تواصل مع الكاتب: saad.o.omais@gmail.com
يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل
أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة