المنصور بن فتى
مستشار سابق لرئيس البنك الإسلامي للتنمية
البريد الإلكتروني: feten.elmansour@gmail.com
أعرف منظمة المجتمع العلمي العربي منذ سنة انطلاقها الأولى، عشر سنوات مضت. فكنت أقصها عن قرب حينا وأبصرها عن جنب حينا، أقفو أخت موسى تقص التابوت في اليم وتبصره.
وخلاصة مشاهداتي عن الفترة في جمل ثلاث لا تسمعها كما هي من رئيسة المنظمة بثا للهموم، ولكنك تجمعها من شذرات شخص مخموم القلب كتوم.
فالمنظمة ولدت أولا من حرقة قرحة احتاج الألم منها لبعث الأمل،… فاقتضى الهمّ همّة رفيعة ترسم معالم طريق الأمل.
ثم لزم اتخاذ خطوات ينطلق بها ما يقتضيه تحقيق الأمل من عمل.
وهذه وقفة عند تلك الجمل الثلاث.
الوقفة الأولى عند الحرقة والألم
كانت حرقة شديدة أصابت المجتمع العلمي العربي منذ احتلال العراق واختراق لبنان. ثم سريعا ما أبدت الأيام ما كان ينتظر ليبيا وسوريا واليمن. وكلها بلاد كانت هي السوق الكبير لإنتاج المعرفة واستعمالها في حياة الناس العملية وتطبيق المعرفة وتعميقها باللغة العربية.
وعلى مستوى المؤسسات المتخصصة في المجال، وعلى بساط العالم الإسلامي الأوسع، شهدت أواخر القرن العشرين خفوت أمل كان معقودا على المؤسسة الإسلامية للعلوم والتكنولوجيا والتنمية، وهي مؤسسة رسمية نيط بها التصدي لتحدي لحاق الدول الإسلامية بالركب العالمي لاقتصاد المعرفة. وكان يقودها مدير عام أعرفه معرفة إعجاب، هو الدكتور علي الكتاني رحمه الله تعالى، نجم مبرز بين علماء الطاقة في العالم، عليم بتاريخ الحضارة، بصير بأن زمام منعة الأمة وعزتها رهين بمقدار استثمارها في العلم بحثا وامتثالا.
ولا نطيل في أسباب عدم نجاح المؤسسة، ولو أنه يستحق التدبر.
وبخسارة هذه المعاقل العلمية ظهرت علائم عصر الظلمة والانحطاط. وعاد للذاكرة ما دار على العرب وعلى العربية من الدوائر. يومئذ ركد العلم وخفت البحث العلمي وخيم الجمود والكسل العقلي والانهزام. وإنك لترى كيف اتسعت الهوة بين المجتمع والعلم فرسخت ركائز التجهيل، وبعدت شقة الفصام الفكري فضاعت الهوية، وكيف أصيب البحث بالضحالة والتحصيل العلمي بالضآلة.
ذلكم هو الألم الذي استشعره مؤسسو المنظمة، فرأوا ضرورة بعث الأمل في القلوب، وسد أبوب اليأس والإحباط، والإدلاء برؤية تبعث أملا يُنسي ألم المصيبة العلمية. هكذا كان دأب الصالحين في أشد المصيبة أن يقولوا "إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون" ثم لا يلبثوا أن يأمروا بالتحرك فيردفوا " يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله".
ولعل ما حبا الله به رئيسة المنظمة من قوة إرادة وعلو همّة وجديّة في العمل، وأمانة في النفس وحب للعطاء …. لعل ذلك بعث لديها الجرأة للتصدي.
الوقفة الثانية عند الرؤية والأمل
لا يكون التحرك على هدى، إلا بوضع رؤية للمستقبل المأمول يستقيم صوبها التحرك. تلك قاعدة من قواعد البناء العلمي للكون، تقفو صرامة حركة الإلكترونات ومنطقية نتائج التفاعلات. وتلك قواعد أدركها أهل المنظمة في سُنّة المصلحين الذين يبدؤون كل مشروع بأن يتخذوا هدفا عظيما يقتل اليأس ويبث طاقة العمل؛ يتلو ذلك رسم الخطط المستقيمة نحو الرؤية استقامة حركة الضوء ويتوقعون بروز النتائج وفق منطقية نتائج التفاعلات.
ألم تسمع في أيام كأيام حصار الشعب، أو بعدها، وفي أحلك الظروف، يميناً يقسم بها المصلح: "والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون". وهكذا يوجه الاتساق بين قوانين الكون الذي يتحرك من حولنا وقوانين المشاريع التي نحركها نحن مسار الرؤية، فتكون بعيدة التصور في الذهن الحاضر، إلى حدود المستحيل، لكن يصدقها المصلح البصير لدرجة القسم عليها. فيبرّ اللهُ قسمه لعمق إيمانه وشدة إخلاصه.
وقد برزت أولى معالم رؤية المنظمة في أن يعود مجتمعنا مجتمعا علميا حقا كما كان في العصور الذهبية. معنى ذلك أن يقود العلم سفينة حياة المجتمع، فينطلق المسار من الوعي بمنح الله في الإنسان والطبيعة، وينبع من حسن استحضار كنوز تراثنا العلمي الأصيل، ثم تتجدد من هذين المنطلقين حركة علم وقودها الإبداع التقني، وثمارها الحلول العملية لقضايا التنمية. وهكذا ينهض المجتمع بفضل العلم والعمل به، ويستمر المسار باستمرار تعميق المعرفة واطراد تعميم ممارستها، والارتفاع والانتفاع بها.
والحديث عن التأصيل الحضاري للنهضة، علميا كان أو في مجال آخر، كان حاضرا في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. من ذلك أنني التقيت بحكم عملي السابق في البنك الإسلامي للتنمية مع الاقتصادي الشهير جاك آتالي، وكان رئيسا للبنك الأوروبي للتنمية. فإذا هذا المفكر اليهودي عاتب على المسلمين في هضمهم إسهامهم في تنوير الحضارة علميا وقِيَميا، وعدم استحضار كنوز تراثهم العلمي الأصيل. أذكر أنه أخرج لنا صفحات مرقونة كتبها منصفاً المسلمين أنهم أنقذوا اليهود الذين طردهم النصارى من أوروبا ضمن مناقب حضارية أخرى.
في جو استنبات النهضة على ركائز الحضارة، وفي خضم الطلب على استحضار كنوز تراثنا العلمي الأصيل، كانت أيام مخاض منظمة المجتمع العلمي العربي موسماً مناسباً لتخليد ذكرى مرور 1300 سنة على عالم فريد هو خالد بن يزيد بن معاوية الذي توفي في مطلع القرن الثامن الميلادي. وكان متقناً لفنون من العلم، منها الطب والكيمياء. هو أول من ترجم كتب النجوم والطب والكيمياء. وهو مؤلف: (السر البديع في فك الرمز المنيع)، و(فردوس الحكمة في علم الكيمياء)، و(مقالتا مريانوس الراهب).
وسأعود لمعالم الدروس التي تستفيدها المنظمة من سيرة خالد إن شاء الله تعالى.
الوقفة الثالثة عند أول خطوة ينطلق بها العمل
أدركت قيادة المنظمة ضرورة تسجيل خطوة أولى ينطلق بها المسار. فبوجود الحركة الواعية لا تكون الحرقة عن عجز، ولا تكون الرؤية مجرد أمان وأحلام. ولعل المنظمة تبرز نظرتها في تحديد أولويات التصدي لفروع التحدي، وهي فروع شجرة خبيثة زرعها مستعمر لإخضاع شعوبنا وقَهرها بإذلال تراثها ومكاسب حضارتها وإبعاد الشقة بين معارفها ومعايشها، وإضعاف لغتها وحجبها عن رسالتها العلمية والاجتماعيِّة والحضاريّة.
وفي انتظار أن تفصح المنظمة عن تحليلها وآليات اختيارها يحق لها التهنئة بمكاسب أحرزتها في تعزيز المحتوى العلمي للشابكة وترسيخ روح البحث وتوسعة فرص النشر. كما يسجل لها استحداث جوائز للمبتدئين تحفيزا، ومنصات نشر للمنتهين تمييزا. تحق لها التهنئة لأن النشر العلمي العربي بالشابكة يوسع طيف الاتصال بالعلوم المعاصرة، والحفاظ على الهوية، ويعيد الثقة في أهلية لغتنا للعلم والحضاريات التقانية الحديثة. وتحق لها التهنئة بنشر المجلة العربية للبحث العلمي وبكتابة دليل الكتابة والنشر في المجلات العلمية، وبنشر أعمال علمية أخرى أذكر منها كتاب أنطوان زحلان الذي مهدت به المنظمة لضرورة اتخاذ حلقة وصل بين القيادات السياسية وعالم الأعمال والعلماء من أجل تحقيق الرؤية.
وقد حان الوقت للحديث عما تستطيع المنظمة استفادته من ذكرى خالد بن يزيد. فالمنظمة مقبلة على ضرورة المأسسة التي تنقلها من حضانة راع واحد، بعد فطام، إلى مرحلة من مراحل نزيل التابوت، عليه السلام، لما بلغ أشده واستوى.
والمأسسة بالنسبة لمنظمة علمية تتوق للجمع بين الأصالة والمعاصرة ذات ثلاثة أركان لا تستطيع الصمود لعواتي الدهر دونها، وكلها مجتمعة في شخص خالد بن يزيد.
فخالد الذي بلغ في العلوم قمة التمكن من الكيمياء والطب، لم تأخذه العزة عن استقاء المعرفة والتقنية من الأمم الأخرى، ووجد أن دور العبادة كانت مثابة للعلم وكل ما ينفع الناس، فتعلم من أهلها ثم ترجم ما تعلم بعبارات رائقة سائغة بلسان عربي راق. وقد سلكت رئيسة المنظمة هذا السبيل فاختارت تمهيدا لتأسيس المنظمة رفقة علمية مع عالم هو أنطوان زحلان. وأعان الرئيسة في ذلك ما يجمع بين شخصيتها وشخصية خالد. فهي لها حظ وافر مما رزق الله به خالدا من فضل في النفس، ومن همّة ومحبة للعلوم. وكما خطر ببال خالد حب صناعة الكيميائية فتتلمذ على يد الراهب الرومي مريانوس وتعلَّم منه، كان لها ذلك مع انطوان في لبنان ومع آخرين في الولايات المتحدة والعالم.
ومن جهة أخرى بلغ خالد في سياسة تسيير الشأن العام القمّة إذ كاد يُنَصّب خليفة على الإمبراطورية الأموية العظمى لولا حداثة سنه. فقرّبه عبد الملك بن مروان واتخذه مستشارا له، وهو الذي أشار على عبد الملك أن يحرم دنانير الروم وأن يضرب للناس دنانير إسلامية. ثم ابتعد خالد طوعاً عن السياسة بمعنى ممارسة السلطة، إلا ما يخدم من السياسة العلم الذي تفرغ لطلبه. فأصبح من أشهر العلماء العرب، واستحق بعلمه الغزير أن يكون الرائد الأول لعلم الكيمياء عند المسلمين. وعلى هذا النهج اهتمت رئيسة المنظمة بكتاب أنطوان حول سياسات العلوم وسبل الارتقاء بها من مدخل القرارات والسياسات التي تتخذها السلطات السياسية. وإنني لأذكر أنني تعرفت في بواكير عمل المنظمة على مؤلف هذا الكتاب. وكانت قوة إرادة الرئيسة ويقينها وتفاؤلها يغتذيان من خبرة زحلان في الإنتاج العلمي وفي فرص وتحديات ارتسام سياسة علمية وطنية أو سياسات عربية جامعة في مجال العلوم والتكنولوجيا. ثم إن أدب الرئيسة والود المركوز في أرومة أصلها أثرا في شخصية زحلان بالغ الأثر بما يشهد على كامن قدرة المنظمة على التعلم من الأجيال السابقة وتعليم الأجيال القادمة إن شاء الله.
وفي باب آخر، بلغ خالد بن يزيد الشأو في الأدب والأخلاق الأصيلة. فاستعان في إبلاغه للعلم ونشر المعارف العلمية المستجدة بمهارات الخطيب الشاعر، الفصيح الجامع، المستشار جيد الرأي. وأورثته مهاراته الأدبية قدرة على تجاوز الخلافات الضيقة ليكون حاشدا بنفسه، مرتقيا فوق النزاعات التي تصنع الفشل. ولا أدل على ذلك من حرصه في أتون حرب طاحنة بين الزبيريين والأمويين على حسن مصاهرة الطرف الآخر واستخدام مهارات الشعر الرائق الراقي للإشادة والفخر بالسمو فوق تلك الخلافات. ومن شعره في ذلك قوله في شأن رملة بنت الزبير بن العوام:
فلا تكــثروا فيها المــــــــلام فإنني تخيرتها منـــــهم زبيرية قلـــــبا
أحب بني العــــــــــوام طرا لحـــبها ومن أجلها أحببت أخوالها كلـــبا
إذا نزلت أرضا تحبب أهــــــــــــلها إلينا وإن كانت منــــــــازلها جدبا
بهذا أردت إبراز أن التنوع المثري ضروري للمنظمة. ضروري ليكون لها ركن بحثي علمي راق تنتظم طواقمه ومبادراته ومخرجات إنتاجه في جو حافز، ثم هو شرط لازم لأن تجد المنظمة من التمكين مدخل صدق لدى الحكومات تؤثر به في سياسات البحث والابتكار والتنمية. كما تحتاج المنظمة لبناء آلية تواصل تتعرف بها على احتياجات الناس المرعية في أولويات حل المشاكل وتغشاها بها لتستفيد في رسالتها العلمية والتنموية من أفكارهم وهمومهم وحلولهم الأصيلة.
وهذا ما يمكن أن يتبلور من خلال تقييم التجربة خلال السنوات العشر الأولى من الانطلاق المبارك.
وفق الله الجميع
فيديو تعريفي بمنظمة المجتمع العلمي العربي
عن المنظمة:
– وحدة الدراسات والبحوث
– المجلة العربية للبحث العلمي
– المشاريع