الروائي الأمريكي المعاصر تيم اوبراين اشترك في حرب فيتنام وكتب لاحقا رواية أدبية عنها، وذاعت شهرته أكثر عندما قال (القصة الحقيقة للحرب لا تكون أخلاقية). وفي الواقع تجريم جميع الحروب هو تيار قديم في الحضارة الغربية، والذي يسخر وينتقد فكرة احتمالية وجود أي حرب عادلة مثل تلك التي تزعمها تعاليم الكنيسة على لسان أشهر منظريها مثل القديس أوغسطين أو القديس توماس الاكويني. ولهذا نجد الدول الغربية لا تتورع كثيرا في ارتكاب المجازر وجرائم الحرب حتى خارج زمن القتال الفعلي. ومن نتائج فلسفة (الحرب الاستباقية) التي تتبعها الدول العظمى خارج القانون الدولي، لا يستغرب كثيرا قيام بعض تلك الدول الغربية بتعمد اغتيال العلماء والباحثين المدنيين من رعايا الدول المعادية.
حصل هذا الأسبوع قيام الكيان الصهيوني باغتيال العالم النووي محسن فخري زاده أستاذ الفيزياء بجامعة الإمام الحسين بمدينة طهران ورئيس البرنامج النووي الإيراني. لقد نجحت الاستخبارات الإسرائيلية في تصفية (أبو القنبلة الإيرانية) وهي في ذلك تسير على خطى ومسار الاستخبارات الأمريكية عندما حاولت تصفية واغتيال (أبو القنبلة النازية). كان ذلكم العالم الألماني الشهير فيرنر هايزنبرغ أحد رواد علم ميكانيكا الكم والحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء لعام 1932م ونتيجة لارتباطه بعلوم الذرات اختاره هتلر لتولي مهام رئاسة مشروع إنتاج القنبلة الذرية للنظام النازي. وبحكم أن دول الحلفاء وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية كانت على سباق للتسلح مع ألمانيا النازية أيهم ينجح في تصنيع القنبلة الذرية أولا، ولهذا كان هايزنبرغ هدف مشروع التخلص منه وفق مبادئ الحرب الاستباقية.
ففي عام 1944م قامت وكالة الخدمات الاستراتيجية OSS agency (المنظمة السابقة لجهاز الاستخبارات الأمريكية CIA) بإرسال عميل سري ليحضر محاضرة علمية يلقيها هايزنبرغ في مدينة زيورخ السويسرية. وطُلب من ذلك الجاسوس أنه إذا استنتج من المعلومات التي يطرحها هايزنبرغ في تلك المحاضرة بأن المشروع الألماني لتصنيع القنبلة الذرية يحقق تقدماً، فعليه حين ذاك أن يقوم بإطلاق النار مباشرة على المحاضر. ولقد ظل هذا العميل طوال المحاضرة وهو يضع يده على مسدسه المخفي وكما هو متوقع فإن هايزنبرغ لم يكن على درجة من الحماقة أن يفشي أسراراً علمية خطيرة على الملأ، ولهذا نجى من الاغتيال وإن كان لن ينجو في نهاية الحرب من الاعتقال والسجن.
الحرب سجال كما يقال، ولهذا لا غرابة أن نجد ألمانيا النازية تقوم بحرب استباقية مضادة ضد دول الحلفاء وتستهدف هي بدورها أبرز علماء الفيزياء المساهمين في تصنيع القنبلة الذرية الأمريكية. جميع طلاب العلوم في المرحلة الثانوية يعرفون اسم عالم الفيزياء الدنماركي نيلز بور صاحب نموذج تركيب الذرة وكذلك أحد أبرز علماء الكم والحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء لعام 1922م أي بعد سنة واحدة مباشرة بعد حصول أينشتاين عليها. ما يهم هنا أن نيلز بور كان له دور كبير في تهريب العديد من أبرز علماء الفيزياء المناهضين للنازية من ألمانيا وتسهيل وصولهم لبريطانيا أو أمريكا أو كندا ومن ثمّ حشدهم في مشروع مانهاتن لتصنيع القنبلة الذرية. ولهذا عندما غزت القوات النازية مدينة كوبنهاجن عاصمة الدنمارك أصدر هتلر شخصيا أوامره باعتقال نيلز بور أو القضاء عليه إن تعذر ذلك. وبعد بحث مكثف عن نيلز بور فشل جنود الجيش النازي في القبض عليه حيث استطاع التخفي لفترة من الزمن داخل منازل كوبنهاجن قبل أن يتم تهريبه بواسطة قارب لصيد الأسماك إلى السويد. وبالرغم من أن دولة السويد كانت بشكل رسمي في حالة حياد في الحرب بين دول الحلفاء ودول المحور إلا إن إقامة نيلز بور في ستوكهولم كانت غير آمنة، فربما تسهل عملية اغتياله ولهذا سارع البريطانيين لترحيله من السويد باستخدام طائرة حربية. قديما الطائرات الحربية لم يكن يوجد بها إلا مقعد واحد مخصص للطيار ولهذا تم وضع نيلز بور في المكان المخصص لتخزين القنابل كما تم إصدار التعليمات المشددة على قائد تلك الطائرة المقاتلة أنه في حال حصل اعتراض للطائرة في الجو من قبل الطائرات الحربية الألمانية فيجب اسقاط نيلز بور بواسطة مظلة البراشوت !!.
لقد بذل الحلفاء كل الجهد الممكن للمحافظة على سلامة ذلك العالم الدنماركي البالغ الأهمية (للمجهود الحربي) وهو أمر سوف يتكرر بعد ذلك بسنوات عندما بذلت السلطات السوفيتية كل ما في وسعها للمحافظة على سلامة وحياة مهندس الصواريخ الروسي سيرجي كوروليوف الملقب بأبو برنامج الفضاء الروسي. في حين أن الجميع يعرف من هم العلماء والمهندسين المشرفين على برنامج تطوير الصواريخ الفضائية والحربية الأمريكية من مثل المهندس فيرنر فون براون وعالم الفضاء روبرت جودارد والذين أصبحوا من نجوم المجتمع الأمريكي، إلا أنه في المقابل وحتى انهيار الاتحاد السوفيتي لم يكشف بشكل جليّ عن قادة برنامج تطوير الصواريخ الروسية وظلت شخصيتهم سرية بشكل تام وذلك حماية لهم من أن يتم إرسال جواسيس من الغرب لاغتيالهم كما حصل مع هايزنبرغ السالف الذكر.
عند زيارتنا لساحة متحف غزو الفضاء في قلب العاصمة الروسية موسكو كان من السهل جداً لي التعرف على تمثال يوري غاغارين أول رائد فضاء في التاريخ وكذلك تمثال السيدة فالنتينا تريشكوفا أول رائدة فضاء روسية. ولكن ما لفت انتباهي أن أكبر تمثال في تلك الساحة والمقام في موضع مميز جدا كان لشخص مجهول تماماً لي، ولقد وقفت حائر أمام هذا التمثال الضخم والذي كنت أتمنى أن أعرف لمن هو، لأن الاسم المسجل على التمثال كان مكتوب بالأحرف الروسية المختلفة عن الأحرف الإنجليزية المعتادة. ولاحقا بعد قراءتي لكتاب (سباق الفضاء Space Race) بين الأمريكان والروس تبين لي أن ذلك التمثال المميز كان لتلك الشخصية العلمية الهامة والمجهولة والتي أخفها الاتحاد السوفيتي عن العالم أجمع حفاظاً على حياته، كوروليوف. وقد كان لكوروليوف حظوة ومكانه عند الرئيس الروسي خرتشوف حيث كان يدعم مشاريعه الكبرى في إنتاج الصواريخ لأسباب عسكرية أكثر منها أسباب علمية لاكتشاف الفضاء.
نزيف العقول بين الحقيقة والمجاز
عندما أرسلت الولايات المتحدة عميلها السري لاغتيال عالم الفيزياء هايزنبرغ السالف الذكر يقال إن الجنرال الأمريكي نيد بوكستون مدير وكالة الاستخبارات OSS برر ذلك الفعل بقوله (أنت تحرم عدوك من عقله). ففي الحروب والصراعات الكبرى لا تتردد الدول من القضاء على القوى الناعمة ومصادر التفوق لدى الخصم من مثل العلماء والمخترعين وعباقرة الاقتصاد والإدارة.
في السابق كانت ظاهرة العقول المهاجرة توصف أحيانا (بنزيف العقول) وفي بعض الحالات عندما يتم تصفية وقتل تلك العقول النابغة وسفك دمائها يصبح ذلك الوصف حقيقة لا مجازا. والجدير بالذكر، أن حرص الحكام والقادة على حرمان أعدائهم من ذخيرتهم من العقول العبقرية لا يقف فقط عند قتل البشر بل وحتى هدم الحجر ممثلا في تدمير المختبرات العلمية والمراكز البحثية ذات الطبيعة المدينة البحتة. في نفس الفترة التي كان الأمريكان يخططون فيها لاغتيال هايزنبرغ على رؤوس الأشهاد في قاعة المحاضرات، كانت الطائرات الحربية الأمريكية والبريطانية تقصف وتدمر بشكل متعمد المختبرات العلمية في جمعية القيصر فيلهام لتقدم العلوم في برلين حيث كان هايزنبرغ يدير معهد الفيزياء بها.
وبالقرب من مختبرات هايزنبرغ المدمرة حصل تناقض سياسي وعلمي غريب، حيث يقع هنالك معهد القيصر فيلهام للكيمياء وهو المكان الذي اكتشف فيه الكيميائي الألماني أوتو هان ظاهرة الانشطار النووي. كما هو معلوم فإن ظاهرة الانشطار النووي هي التي مكّنت العلماء الأمريكان من تصنيع القنبلة الذرية عام 1944م وفي نفس ذلك العام حصل أوتو هان على جائزة نوبل في الكيمياء (تقديرا) لإنجازه العلمي التاريخي ذاك. وفي نفس ذلك التوقيت يأمر الجنرال الأمريكي ليزلي غروفز مدير مشروع مانهاتن لتصنيع القنبلة الذرية، يأمر الجيش الأمريكي بقصف مختبر ومكتب أوتو هان في معهد الكيمياء في برلين. وذلك كخطوة (استباقية واحترازية) تهدف لحرمان الألمان من عقل أوتو هان المتمثل في الوثائق العلمية التي كانت موجودة في مختبرة وتتعلق بالتفاعلات المتسلسلة الذرية. ومع تكرر الغارات الجوية الأمريكية وقصفها لمعهد الكيمياء بمدينة برلين تم كذلك تدمير مختبر عالم الكيمياء الألماني المعروف لجميع طلاب الجامعة في مجال الكيمياء والصيدلة أوتو ديلز (صاحب تفاعل ديلز – ألدر في الكيمياء العضوية) والحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء لعام مع 1950م مع تلميذه كورت ألدر. ونظرا لأن أتو ديلز كان متقدما في السن فقد أثر تدمير مختبره على مستقبله العلمي وجعله يستقيل بشكل نهائي وبالفعل حرم الأمريكان المجتمع العلمي الألماني من هذا العقل العبقري.
تشير المراجع التاريخية إلى أن الطائرات الحربية الأمريكية والبريطانية قصفت وبشكل متعمد حوالي عشرين جامعة ألمانية وفي مختلف المدن، وما يهمنا هنا هو الإشارة إلى قصف جامعة ميونخ الألمانية. والذي تسبب في نسف مختبر عالم الكيمياء العضوية الألماني البارز هانس فيشر والحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء لعام 1930 ميلادي. من الأمور المحزن ذكرها هنا عن نتائج القصف الأمريكي لجامعة ميونخ أنه أتلف بشكل شبه كامل المتحف والمعهد الخاص بالمخطوطات الإسلامية النادرة جدا والتي كان من ضمنها عدد كبير من أقدم نسخ القرآن الكريم.
في سياق ما تم ذكره نستوعب الآن أكثر ما يحصل في واقعنا القريب من عدم تورع بعض الدول من خرق القانون الدولي وبحجة حفظ مصالح أمنها الوطني قد تتعدى على سيادة ومواطني الدول الأخرى. وهذا ما تكرر بشكل فج وإجرامي من العدو الإسرائيلي عندما تعدى على الحجر والبشر في العراق حيث لم يكتف عام 1981م بتدمير مشروع المفاعل النووي العراقي ولكن استهدف البشر كذلك وفق السياسة المذكورة سابقا حيال نزيف العقول (أنت تحرم عدوك من عقله). توجد شكوك قوية بأن استخبارات الموساد للعدو الإسرائيلي تسببت في تصفية بعض علماء الذرة العرب الذين كانوا يعملون في مفاعل تموز العراقي مثل عالم الذرة العراقي رشيد اللامي الذي توفي في ظروف غامضة في مدينة جنيف وكذلك تم قتل عالم الذرة المصري المعروف يحيى المشد في مدينة باريس.
نزيف دماء وتجريف عقول العلماء العراقيين وصل لمرحلة المجازر الجماعية بعد غزو القوات الأمريكية للعراق عام 2003م حيث تنافس عملاء المخابرات الإيرانية والإسرائيلية كلاً على حدة في تصفية واغتيال العشرات من أبرز وأهم علماء العراق. وكلمحة خاطفة لهذه الكارثة العلمية والحضارية العربية نشير فقط لأسماء العلماء في التخصصات العلمية في جامعة بغداد الذي تم قتلهم بعد سقوط بغداد مثل عالم الذرة مجيد حسين علي والفيزيائي علي حسين كامل والفيزيائية هيفاء الحلّي والكيميائي محمد الأزميرلي والكيميائي باسل الكرخي وعالم الأحياء رعد شلاش.
كلمة أخيرة قد يكون عدونا واحد وأزلي، فينبغي أن نتحد جميعاً لمواجهته فها هو ذا العدو نفسه لا يفرق بيننا حال الحرب والقتال وكما قاتل العدو الصهيوني أغلب الجيوش العربية فهو كذلك قتل واغتال جميع جنسيات العلماء العرب مثل رشيد اللامي العراقي ويحيى المشد المصري والمهندس الكهربائي الفلسطيني يحيى عيّاش ومهندس الطيران التونسي محمد الزواري وغيرهم كثير.
البريد الإلكتروني للكاتب: ahalgamdy@gmail.com