ما هو الجينوم؟
الجينوم (المجين) هو كامل المادة الوراثية المكونة من الحمض الريبي النووي منزوع الأكسجين والذي يعرف اختصارا بالـ "دي إن إيه" (DNA).
يختلف حجم الجينوم ونوعه وعدد الجينات بين الكائنات الحية اختلافا كبيرا، ويحتوي الجينوم البشري على ما بين 20-25 ألف جين (مورث) موجود في نواة الخلية ومرتبة على هيئة ثلاثة وعشرين زوجاً من الكروموسومات (الصبغيات).
يوجد نوعين من الكروموسومات، النوع الأول هو الكروموسومات الجسدية، وعددها 22 والنوع الثاني هي الكروموسومات الجنسية (X وY) والتي تحدد الجنس من ذكر أو أنثى.
تحمل تلك الجينات (المورثات) جميع البروتينات اللازمة للحياة في الكائن الحي. وتحدد هذه البروتينات – ضمن أشياء أخرى – هيئة الشخص، وطوله ولون عيناه وهكذا، وأحياناً يحدد حتى الطريقة التي يتصرف بها.
يتكون جزيء الـ "دي إن إيه" في البشر والرئيسيات، من سلسلتين يلتف كل منهما حول الآخر بحيث يشبهان السلم الملتوي. وتتكون السلسلتان المتوازيتان من جزيئات سكر خماسي والفوسفات، والسلسلتان مرتبطتان عرضيا بواسطة جزيئات من مواد كيميائية تحتوي على النتروجين، وتلك الجزيئات حلقية وتسمى القواعد النتروجينية ويرمز إليها اختصاراً A وT وC وG.
تتكرر هذه القواعد مليارات المرات في جميع أجزاء الجينوم، ويحتوي الجينوم البشري على سبيل المثال، على 3 مليارات زوج من هذه القواعد (لو رمزنا لكل قاعدة بحرف من حروف الكتابة لملأت 3 آلاف كتاب يحتوي كل كتاب على 500 صفحة، أي لشكل مجموعها كتاب كبير يبلغ ارتفاعه ارتفاع مبنى إمباير ستيت، كل ذلك في نواة خلية بشرية واحدة). ويحتوي الجسم البشري على نحو 80 تريليون خلية!
يعد الترتيب المحدد للقواعد A وT وC وG في غاية الأهمية، فهذا الترتيب يحدد جميع أوجه التنوع الحيوي. ففي هذا الترتيب تكمن الشفرة الوراثية (Genetic Code)، فكما أن ترتيب الحروف التي تتكون منها الكلمات هو الذي يجعلها ذات معنى، فترتيب هذه الجزيئات يحدد كون هذا الكائن الحي إنساناً أو ينتمي إلى نوع آخر من الأحياء والتي يمتلك كل منها الجينوم الخاص به.
ليس هذا هو العجيب فقط، فقد ازداد تعجبنا عندما عرفنا أن كل الحيوانات الأخرى وكل النباتات لها "دي إن إيه" خاص بها؛ ولكنها تشترك جميعاً في كيفية بناءها بنفس الطريقة.
يتكون الـ"دي إن إيه" فيها جميعا من سلسلتي السكر الفوسفوري وتربط بينهما الأربعة جزيئات A وTو C وG. أي أن كتاب الحياة مكتوب لجميع الكائنات الحية بواسطة أربعة أحرف، والاختلاف بين الأنواع المختلفة يعتمد على تتابع تلك الأربعة حروف التي يختزنها الحمض النووي. مثلما نكتب كتباً ورسائل وصحفاً وأشعار بعدد 27 من الحروف الهجائية. كتاب الحياة مكتوب بأربعة حروف: A وT وC وG.
عجائب الجينوم البشري
تكفي المعلومات التي يحتوي عليها الجينوم البشري (نحو 3.3 مليار زوجا من القواعد) لكتابة 3300 كتابا، عندما يكتب كل 1000 منها في كتاب تبلغ عدد صفحاته 100 صفحة، وهذه المعلومات تحتفظ بها نواة خلية بشرية واحدة!
يختلف الـ "دي إن إيه" من فرد لآخر من بني البشر بنسبة 2.0% فقط، أو 1 من كل 50 حرفاً، ويضع ذلك في الاعتبار أن الخلايا البشرية تحتوي كل منها على نسختين من الكروموسومات؛ واحد من الأب والآخر من الأم.
إذا أردنا أن نقرأ الجينوم البشري بسرعة حرف واحد في الثانية لمدة 24 ساعة يومياً، فسيستغرق الأمر قرناً كاملاً من الزمان للانتهاء من قراءة كتاب الحياة!
إذا بدأ شخصان مختلفان في قراءة كتاب الحياة الخاص بكل منهما بسرعة حرف واحد في الثانية، فسيستغرق الأمر نحو ثماني دقائق ونصف الدقيقة (500 ثانية) قبل أن يصلا إلى أول اختلاف في ترتيب حروف كتابيهما!
يحتاج الطبّاع الذي يكتب بسرعة 60 كلمة في الدقيقة (نحو 360 حرفاً) ولمدة ثماني ساعات يومياً، إلى نصف قرن للانتهاء من طباعة كتاب الحياة!
يبلغ العدد التقديري للجينات في الإنسان 22.000 من الجينات. وتظل وظيفة الغالبية العظمى (98%) من الـ "دي إن إيه" الموجودة في الجينوم البشري، غير معروفة لدينا حتى الآن، حيث تشكل الجينات نحو 2% منه فقط وهي الجينات التي تنتج بروتينات وهرمونات.
ويبدو أن 98% من سلسلات القواعد الموجودة بين الجينات وبعضها ليست لها وظيفة وكانت تسمى الـ "دي إن إيه" الخردة، لكن البحث العلمي الحديث بين أن لها وظيفة إدارية بالنسبة لتنشيط أو تهدئة عمل الجينات.
كان أول كروموسوم بشري تم فك شفرته بالكامل هو الكروموسوم رقم 22، وقد تم ذلك في المملكة المتحدة في ديسمبر 1999، وتحديداً في مركز (سانجر) بمقاطعة كمبردج.
يبلغ طول الـ "دي إن إيه" الموجود في كل من خلايانا 1.8 متر، ولو كدّست جميعها في كتلة لبلغ قطرها 0.0001 سنتيمتر (والتي يمكن أن توضع بسهولة في مساحة بحجم رأس الدبوس).
إذا تم فرد جميع الـ "دي إن إيه" الموجود في الجسم البشري طرفا لطرف، يمكن للخيط الناتج أن يصل من الأرض إلى الشمس وبالعكس 600 مرة [100 تريليون ×1.8 متر مقسومة على 148.800.000 كيلومتر = 1200].
يقوم الباحثون في مشروع الجينوم البشري بفك شفرة 12.000 حرف من الـ "دي إن إيه" البشري في الثانية الواحدة.
منظمة الجينوم البشري
لقد استطاع العلم حتى وقت قريب اكتشاف بعض التغيرات الطفيفة التي تحدث في الـ "دي إن إيه"، ويحتاج البحث العلمي الاستمرار في فك ألغاز هذا العدد العظيم من الجينات بغرض معرفة ما يترتب عليها من تغيرات تؤدي إلى المرض، أي معرفة وظيفة كل جين، وما يتبع تغيره من تغير في وظيفته فيتسبب المرض.
في عام 1984، وفي اجتماع مشترك بين وزارة الطاقة الأمريكية واللجنة الدولية للوقاية من المطفرات والمسرطنات البيئية، طرح لأول مرة بصورة جدية ذلك السؤال: (هل يمكننا، أو هل يجب علينا، أن نقوم بفك تتابعات (سلسلة) الجينوم البشري؟
وبكلمات أخرى: هل علينا تطوير تقنية تمكننا من الحصول على نسخة دقيقة (كلمة بكلمة) للمخطوطة الوراثية الكاملة لإنسان. وبهذا نتوصل إلى مفتاح اكتشاف التأثيرات المطفرة المفسدة الناتجة عن الإشعاع والسموم المسببة للسرطان.
لم تكن إجابة هذا السؤال من السهولة بمكان، لذلك فقد عقدت جلسات عمل عدة خلال عامي 1985 و1986، وتمت دراسة الموضوع برمته من قبل المجموعة الاستشارية لوزارة الطاقة، ومكتب تقييم التكنولوجيا التابع للكونجرس، والأكاديمية الوطنية للعلوم، بالإضافة إلى الجدل الذي احتدم وقتها بين العلماء أنفسهم على المستويين العام والخاص. وعلى أي حال، فقد استقر الإجماع في نهاية الأمر على أننا يجب أن نخطو في هذا الاتجاه.
في عام 1988، أنشئت منظمة الجينوم البشري في الولايات المتحدة، كان هدف هذه المنظمة الدولية هو حل شفرة كامل الجينوم البشري.
أما مشروع الجينوم البشري فهو مشروع بحثي بدأ العمل به رسمياً في عام 1990، وقد كان من المخطط له أن يستغرق 15 عاماً، لكن التطورات التكنولوجية عجلت العمل به حتى أوشك على الانتهاء قبل موعدهِ المحدد لهُ بسنوات. فأعلنت نتائجه الأولية عام 2000، وأعلنت النتيجة النهائية للمشروع عام 2003، وقد أدى ذلك لإجراء أبحاث في مجالات ذات أهداف أبعد.
وقد بدأ المشروع في الولايات المتحدة كجهد مشترك بين وزارة الطاقة والمعاهد الوطنية للصحة، وقد تمثلت الأهداف المعلنة للمشروع في التعرف على الجينات التي يحتوي عليها الـ "دي إن إيه" البشري، وعددها 100.000 جين تقريباً (ونعرف الآن انها نحو 22.000 جين فقط)، وتحديد متوالية تتابعات القواعد الكيميائية التي تكون الـ "دي إن إيه" البشري وعـددها 3.3 مليارات زوج قاعدة وراثي، وتخزين هذه المعلومات على قواعد البيانات، وتطوير الأدوات اللازمة لتحليلها، ودراسة القضايا الأخلاقية، والقانونية، والاجتماعية التي قد تنتج عن المشروع.
تقدمت معرفتنا عام 2010 في قراءة الجينات تقدماً كبيراً، وننظر ونتعجب لما لا يزال أمامنا من أسرار كتاب الحياة ما لايزال محتاج لفك ألغازه. إننا نتعجب كيف أن سلاسل الجينات ذات البعد الواحد تشكل إنسانا، وكيف أن الذرات والجزيئات تترتب عليها بحيث تشكل خريطة الـ "دي إن إيه" التي تقوم بتشكيل الجسم الحي بالكامل. فهي المصمم والباني وفي نفس الوقت واضعة القوانين والهيئة التنفيذية. وكيف أن تركيب الجينات يتفاعل مع عالم الحياة، بما فيها من صفات جسمية ونفسية وعقلية.
فك تتابعات الجينوم البشري (السلسلة الحيوية)
تبدأ عملية فك تتابعات الجينوم البشري (السلسلة) بأخذ عينات الدم من المتطوعين، والتي تستخلص باستخدام الطرق الكيميائية الروتينية، ثم تجمّع وتبرد عند درجة صفر فهرنهايت، ثم تقطع إلى متواليات متراكبة يبلغ طول كل منها نحو 150.000 حرف.
وعلى الرغم من ذلك، لا يوجد في هذه العينات الأصلية مقدار من الـ "دي إن إيه" يكفي لتحليله، ولذلك فالخطوة التالية هي استنساخ (تنسيل) كل شظية (شدفة) في البكتريا، والتي تصنع نسخاً عدة منها مع تكاثرها. وتستخدم الربوتات في نقل هذه المستعمرات البكتيرية إلى آلة تضخمها لدرجة أكبر.
وتسمى التقنية التي تستخدمها هذه الآلة تفاعل البوليميراز المتسلسل (PCR)، والذي أهل مكتشفه الكيميائي الأمريكي كاري موليس لنيل جائزة نوبل عام 1993.
وبعد ذلك، تفك شفرة متوالية كل شظية باستخدام آلة تسمى المُسَلسِل (Sequencer)، والتي تنفذ مجموعة من التفاعلات الكيميائية التي طوّرها العالم البريطاني فريد سانجر، والحائز على جائزة نوبل أيضا.
وللتبسيط، نقول إن تلك التفاعلات تتضمن تمييز كل حرف في أي شظية بعينها بجزيء ملون يمكن قراءته بواسطة أشعة الليزر. ويقوم جهاز كمبيوتر بتحليل نتيجة الفحص بالليزر لإنتاج تتابع أو متوالية (Sequence) لهذه الشظية، ثم يجمع جميع متواليات الشظايا (الشدف) المتراكبة، وذلك لتكوين جينوم العيّنة الأصلية.
لماذا ندرس الجينوم
يتيح مشروع الجينوم البشري فوائد جمة للبشرية، أما الفوائد المتوقعة للعلاج بالجينات فهائلة، ويمكن تلخيصها في مجالات عدة مثل تطوير أدوية ومعالجات جديدة، بالإضافة إلى صنع أدوية جديدة.
ويمكن اعتبار مشروع الجينوم البشري كبداية لحقبة جديدة من الطب الشخصي، فالناس يميلون للاستجابة بصورة مختلفة تماماً للأدوية التي يصفها لهم الأطباء – حتى 50% من الأشخاص الذين يتناولون دواء معينا سيجدون أنه إما غير مؤثر، أو أنهم سيتعرضون لتأثيرات جانبية غير مرغوبة، ويعد أسلوب (اضرب واخسر) مضيعة مرعبة للوقت والمال، بل إنه قد يعرّض الحياة ذاتها للخطر.
وبالإضافة لذلك، فنحن جميعاً نختلف في قابليتنا للإصابة بالأمراض المختلفة، وقد اتضح أن 99.9% من متتاليات الـ "دي إن إيه" متشابهة في جميع البشر، لكن هذا الفرق الذي لا يزيد على 0.1% قد يفسّر استجاباتنا الفردية للأدوية وقابليتنا للإصابة بالأمراض الخطيرة.
تستخدم المعلومات التي يقدمها الجينوم البشري في مجال الطب الجزيئي الذي يهدف إلي تحسين تشخيص الأمراض، والاكتشاف المبكر للاستعداد للإصابة بالأمراض الوراثية، وتصميم الأدوية بصورة أكثر ملاءمة، والمعالجة بالجينات وأنظمة التحكم للأدوية.، وفي علم الأدوية الجينومي تصميم أدوية تستهدف أمراضاً وراثية بعينها.
كما تستخدم هذه المعلومات في الدراسات السكانية والأنثروبولوجية، ودراسة التطور عبر طفرات الخط الجنسي في السلالات البشرية المختلفة، ودراسة أنماط هجرة المجموعات السكانية المختلفة استنادا إلى التوريث الجيني، ودراسة طفرات الكروموسوم (Y) لتتبع السلالات وأنماط هجرة الذكور.
الأخلاقيات
إن العلم في حد ذاته لا هو جيد ولا سيء، لكن الاستعمالات التي يستخدم فيها هي التي تثير الأسئلة الأخلاقية، وما علوم الجينوم إلا تقنيات متقدمة فحسب، وعلينا أن نقرر إذا كنا نريد استخدامها، ومتى وكيف، ويجب أن تكون هذه القرارات مسؤولية الجميع.
ويمكن أن تمثل المخاوف التي يظهرها الناس فيما يتعلق بعلوم الجينوم، علامة تشير إلى بداية العمل الفعّال للإنسان بخصوص الحفاظ على حقوق البشر في إرثهم البيولوجي، ووضع القيود لعدم التلاعب به وتهديد الأجيال القادمة.
_________________________________________________________
- د. طارق قابيل
أكاديمي، كاتب ومحرر ومترجم علمي
عضو هيئة التدريس بقسم النبات والميكروبيولوجي – كلية العلوم – جامعة القاهرة
البريد الإلكتروني للكاتب: tkapiel@sci.cu.edu.eg
الموقع الإلكتروني للكاتب: https://scholar.cu.edu.eg/?q=tkapiel