من تأملاتي الخاصة وتفكّري في آيات الذكر الحكيم والتي لا أعتبرها تفسيراً للقرآن بكل تأكيد، فالتفسير له أهله، ولكنها تأملات كما ذكرت، ما جاء في قصة ذي القرنين في سورة الكهف، حين نقرأ قول الله سبحانه:
حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا ﴿93﴾
حسب فهمي لهذه الآية الكريمة، أن هؤلاء القوم كانوا متخلفين حضارياً لا يملكون المعرفة والعلم وحسن التدبير، وليسوا فقط يتكلمون لغة مختلفة عن لغة ذي القرنين، لأنه من البديهي أن معظم الأقوام التي مر عليهم في مشارق الأرض ومغاربها يتكلمون بلغات مختلفة. هؤلاء القوم، كانوا يعانون من فساد واستقواء جيرانهم يأجوج ومأجوج عليهم وضعفهم عن مواجهتهم ورد عدوانهم. وقد فكر هؤلاء القوم ووجدوا أن ذي القرنين يمكنه حمايتهم من أعدائهم وبناء (سد) أو أي شيء يحميهم منهم، مقابل خرجاً يجعلونه له، أموالاً أو ضريبة مما تنتجه أرضهم من ثروات طبيعية، ربما تكون هي الحديد والنحاس وغيرهما. ربما أنهم رأوا في ذي القرنين وجنده، قوة عسكرية ضخمة أو دولة عظمى، أو ربما جهة لديها قدرات تقنية وعلمية وهندسية، وأرادوا أن يستعينوا به من خلال معاهدة حماية ونشر قوات تدافع عنهم عند هجوم العدو عليهم وقاعدة عسكرية له في بلادهم، أو بناء منشأة هندسية تقف بينهم وبين عدوهم، أو كلها مجتمعة، فماذا قالوا له؟
قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَىٰ أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا ﴿94﴾
ذو القرنين الرجل الصالح المصلح والقائد الحكيم، يريد الإصلاح الحقيقي والدائم وليس المؤقت المرتبط بالزمان والظروف الراهنة. فقد يأتي من بعده قائد يستغل حاجتهم فيستولي على أرضهم وخيراتها ويستعبدهم، أو قد تنقص مقدّراتهم فلا يستطيعون دفع ذلك الخراج، أو ربما يكثر عدد الحامية أو عمال البناء من قومه وغيرهم فيطيب لهم البقاء في أرض هؤلاء القوم ويشاركونهم أرزاقهم فيها وتختل البنية السكانية لديهم وتحصل المشاكل والاضطرابات بين السكان الأصليين والجدد الذين هم أكثر علماً وقوة والذين يرتبطون بدولهم الأصلية التي تحميهم وتدافع عنهم. ومن جهة أخرى، عندما يحتاج هؤلاء القوم إلى ترميم السد أو بناء منشآت مماثلة فإنهم لن يستطيعوا ذلك إلا بالاستعانة بجهات خارجية، فيظلون مرتَهنين للآخرين.
ذو القرنين يعلم يقيناً أن القوة في امتلاك المعرفة وإنتاجها وبناء الذات، فلن ينعم هؤلاء القوم بالأمن ولن يحلوا مشاكلهم الأمنية والاقتصادية والاجتماعية إلا بقوتهم الذاتية، واعتمادهم على أنفسهم بعد الله عز وجل. ربما أنه حاول إفهامهم ذلك ولكنهم قالوا لا نستطيع، ربما كانوا يعانون من نقص الثقة بالنفس وضعف في الاعتماد على الذات. أو ربما أنه حاول شرح التقنية لهم شفويا (نقل التقنية) لكنهم لم يستطيعوا استيعابها، فقد كانوا لا يكادون يفقهون قولا، (إنهم لا يمتلكون العلم والمعرفة، فكيف يمكنهم نقلها واستيعابها والاستفادة منها؟)….. فبماذا أجابهم ذو القرنين على عرضهم الذي تقدموا به إليه؟
قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا ﴿95﴾
بداية حمد الله، وبيّن لهم أن النعمة والقوة والتمكين الذي يجدونه فيه، هو من فضل الله عليه وأن عليهم التوكل على الله وطلب العون منه. ثم قرر أن نوع الحماية (السد) ستكون على شكل ردماً بين الجبلين، وطلب منهم العمل بأنفسهم فيه وبإمكانياتهم البشرية والمادية (البناء على الموجود وتطويعه)، وتحت إشرافه (التعليم وبناء القدرات وتملك العلم والمعرفة والتقنية)، فقال لهم:
آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا سَاوَىٰ بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا ﴿96﴾
طلب منهم أن يستغلوا ويستفيدوا مما يملكون من إمكانيات بشرية (قوتهم البدنية وعددهم) وثروات مادية وهي الحديد والنحاس والتي يبدو أنها كانت متوفرة لديهم بكثرة، لدرجة أنه كانت لديهم كمية تكفي أن تملأ بين الجبلين، ومع ذلك كانوا ضعفاء غير قادرين على إدارتها واستخدامها لمصلحتهم وحماية أنفسهم (إدارة الموارد).
وبدأ يعلمهم خطوة خطوة وبأيديهم، فطلب منهم رص قطع الحديد بين الصدفين (الجبلين) حتى ساوى بينهما (التخطيط الهندسي)، ثم علمهم ومن خلال العمل والتطبيق المباشر وبأيديهم تقنيات البناء، فأوقدوا النار وأذابوا النحاس ثم صبوه على قطع الحديد المرصوصة الملتهبة بين الجبلين. ونتجت عن ذلك سبيكة شديدة الصلابة لم يستطع أعداؤهم يأجوج ومأجوج، رغم كثرتهم وقوتهم وفسادهم، نقب ذلك السد لشدة صلابته، ولم يستطيعوا تسلقه لارتفاعه وملاسته.
فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا ﴿97﴾
لم يطلق ذو القرنين وسائل الإعلام وأبواق الباطل للتحدث عن القيادة الحكيمة والقائد الملهم أو عن المساعدة التي قدمها لهؤلاء القوم المحتاجين أو عن قدراته الهائلة وبناءه أضخم وأقوى سد في العالم، بل:
قَالَ هَٰذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي ۖ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ ۖ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا﴿98﴾
فأرجع الفضل كله لله سبحانه وتعالى وأن عمله هذا إنما هو رحمة من الله (ربي). وأن بقاءه واستمراره ليس أبدياً وإنما هو بإرادة الله وحده، فلا ينبغي لعاقل أن يجلب على نفسه وأهله وبلاده غضب المولى سبحانه ومن بيده الأمر كله، بمعصية الله وظلم العباد والإفساد في الأرض.
غادر ذو القرنين هؤلاء القوم وقد اكتسبوا التقنية وامتلكوا المعرفة والعلم ونعموا بالأمن، ومن البديهي أنهم حمدوا الله وشكروه على نعمه. ربما يكونون قد تعلموا صيانة السد، وتطوير التقنية لاستخدامها في مشاريع أخرى تحل لهم مشاكل كانوا يعانون منها أو تحسن مستوى معيشتهم وترفع مستواهم الاقتصادي والفكري والاجتماعي، وربما طورا وأنتجوا أسلحة يحمون بها أنفسهم من أي اعتداء من أي عدو محتمل.
هذه قصة من قصص القرآن العظيم، تبين لنا أهم القواعد الأساسية لأخلاق الصعود والنهوض الحضاري الذي تبنته الأجيال الأولى من هذه الأمة وشكّل طريقة تفكيرها وأسلوبها في الحياة، فاستطاعت بفضل الله وتمكينه أن تبني حضارة نشرت النور في أرجاء المعمورة.
مقالات متعلقة:
توطين العلم للقضاء على الفقر "اليمن أنموذجاً"
البريد الإلكتروني للكاتب: mmr@arsco.org