ولد في حيفا في فلسطين في عشرينيات القرن الماضي لأسرة ميسورة الحال، ترعرع فيها وتشرّب حبها ودرس في مدارسها. وقد كانت لأسرته علاقات في لبنان التي انتقلت إليها بعد سنة 1948 كباقي الفلسطينيين الذين ظنوا أنها فترة قصيرة سيعودون بعدها إلى أرضهم وبيوتهم، ولكن تلك الفترة طالت وطالت حتى اليوم…
أكمل الشاب اليافع دراسته في بيروت والتحق بالجامعة الأمريكية ليدرس الفيزياء إكمالا لشغفه المبكر بالعلوم منذ نعومة أظفاره في حيفا. بعد تخرجه سافر إلى الولايات المتحدة ليحصل على الدكتوراه في الفيزياء ويعود ليصبح أستاذاً ثم رئيساً لقسم الفيزياء في الجامعة الأمريكية في بيروت، ومرة أخرى.. يضطر لترك بلده الثاني لبنان بسبب الحرب الأهلية التي انطلقت شرارتها في سبعينيات القرن الماضي.
استقر في إنجلترا، حيث عمل محاضراً في الفيزياء في جامعاتها. وهناك بدأ اهتمامه بالمجتمع العلمي العربي والدور الذي يمكن أن يلعبه في تحسين حال البلدان العربية بعد أن تيقن أن من أهم أسباب الضعف والانحدار الحضاري للأمة يأتي من تنحية العلم عن لعب دوره الحقيقي في المجتمع والدولة. زاد اهتمامه وتعمقت دراساته وأبحاثه في هذا المجال، ليترك الجامعة والفيزياء ويتفرغ له ويعمل مستشاراً فيه، قدّم وشارك في العديد من الدراسات للكثير من الجهات الأممية والدولية والعربية، وألف الكتب وشارك في تنظيم المؤتمرات والمشاركة فيها، وأسس بجهوده وآراءه جمعيات علمية… وغير ذلك كثير..، ولكنه كان متواضعاً ولا يحب الظهور.
بعد مراسلات عبر البريد الالكتروني، التقينا لأول مرة في بداية 2009، بعد أن تركت أنا أيضاً الجامعة والفيزياء، لأتفرغ لهموم وشؤون المجتمع العلمي العربي وإحياء دوره المنوط به. وفي ذلك اللقاء الأول في بيروت قررنا إنشاء "منظمة المجتمع العلمي العربي"، وبدأنا هذا المشوار.
عرفته أستاذاً ومعلماً جليلاً، علمني الكثير وأرشدني وأعطاني من خبرته وحكمته وعلمه بغير حدود، وقد قالها لي منذ بدايات عملنا معاً، "أنتِ مثل ابنتي، وأريد أن أعطيك كل خبرتي لتكملي الطريق".
وقال لي يومها إنه بدأ يفقد الأمل في المستقبل، لولا حماسي الذي أحياه فيه من جديد… كم كان لهذه الكلمات من أثر في نفسي وفي مسيرتي.
علمني أهمية تأكيد مبدأ الاعتماد على الذات والثقة بالنفس، وهما أساس لفكر المنظمة في كل مشاريعها..
علمني أهمية الدراسات حول المجتمع العلمي وكيفية إنجازها..
علمني أهمية المشاريع العملية التي يطبق فيها العلم وتخدم المجتمعات والإنسان..
كنت أسافر إلى بيروت، نجتمع ونبحث ونخطط، وكان هو الموجه والداعم لي…
كنت أقضي معه ساعات على الكمبيوتر أنا في الدوحة وهو في بيروت، نناقش ونعدل ونفكر ونكتب وننجز.. وقد أنجزنا معاً الكثير ولله الحمد..
أنجزنا معاً مشاريع علمية اقتصادية وتنموية متميزة ومبتكرة، مشاريع للأمن الغذائي في قطر، ومشاريع للمياه في غزة، ومشاريع متكاملة للتنمية المستدامة وإدارة المياه والزراعة والصيد البحري وتربية المواشي والصناعة وغيرها في الصومال، وعقدنا معا اجتماعات مع خبراء وجهات مختصة ووقعنا اتفاقيات لتنفيذ هذه المشاريع، التي للأسف لم تنفذ بسبب الأوضاع البائسة للدول العربية، ولكنني تعلمت الكثير منه من خلالها.
لقد كان هادئا جداً، ومهذباً لا يتكلم إلا بالكلام الطيب، لا يرفع صوته، وفي الاجتماعات كان صامتاً يستمع أكثر مما يتكلم، ولا يجيب إلا بعد تفكير.. عميق، وجوابه موزون وحكيم.
كان كريماً سخياً ومتواضعاً جداً ولطيفاً ولديه عمق في التفكير ومحبة فياضة لكل ما حوله، إذا مشينا في شوارع منطقة "رأس بيروت" حيث يسكن، فلديه قصة عن كل مبنى نمر عليه، وفي الجامعة الأمريكية القريبة من بيته، لديه قصة تاريخية لكل مبنى فيها، وكذلك على كورنيش بيروت وفي كل مكان.. لقد كان عاشقاً لبيروت …
نعم، لم يكن أنطوان زحلان عالماً وخبيراً فقط، بل كان إنساناً..
إنسان بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، له قلب يحمل الحب والإحسان والعطف والعطاء..
كان يحب فلسطين ولكنه أيضاً يحب كل العرب وبلدانهم، وخاصة المستضعفين منهم ومن الناس في كل مكان..
أذكر مرة في بيروت، وبعد اجتماع لي معه بحثنا فيه أمور المنظمة والمشاريع التي كنا نخطط لها، قال لي أن لديه موعد في جمعية خيرية لنساء فلسطينيات من ساكني المخيمات، لديهن مشروع للتطريز بالنقوش الفلسطينية ثم بيع انتاجهن، ليكون لهن دخل يعملن فيه من بيوتهن، وكذلك لحماية التراث الفلسطيني، فإن أحببت أن أرافقه يمكنني ذلك، قلت نعم… وذهبنا وسألته ما علاقته بالجمعية، فقال أذهب كل فترة لأعمل لهن الحسابات وأحاول أن أقدم لهن التوجيهات وأسعى لمساعدتهن بالتواصل مع جهات يمكنها تسويق بضاعتهن، وقال: "هن مسكينات لا يعرفن وليس لديهن مال لتوظيف محاسب"، وسبق أن سعى لهن عند أحد المحسنين لتوفير شقة تكون مقراً للجمعية.. هذا مثال فقط وغيره كثير مما عرفته ومما لم أعرفه من الجانب الإنساني لديه. لقد كان يساعد كل من يستطيع حتى ولو على حساب وقته وجهده.
رغم كبر سنة، إلا إنه كان يعمل بكل جد وإتقان وحيوية، يتابع الأخبار وآخر ما توصل إليه العلم والتقنية ويوظفها في استشاراته وعمله… ولكن، قبل عدة سنوات، تعثر وهو يمشي داخل بيته ووقع على رأسه، وكانت إصابة شديدة نزف على إثرها ونقل إلى المستشفى. تعافى منها، ولكن بدأ أثرها يظهر عليه، خاصة في التركيز والذاكرة، وبدأت حالته الذهنية تسوء، لكن جسده بصورة عامة في وضع جيد. رغم ذلك، بقي يحتفظ بهدوئه وطيبته ولطفه لأنها صفات أصيلة فيه.
كان حنوناً، دائماً يوصيني بأن أهتم بحياتي، وألا أرهق نفسي في العمل على حساب نفسي وصحتي، يقول عندما يفقد الإنسان صحته، لن يهتم به أحد ولن يذكره أحد وسوف يُستغنى عنه، فاهتمي بنفسك..
اليوم أبلغوني بوفاته في بيروت التي حرص أن يموت فيها لحبه لها ولقربها من فلسطين التي كانت أمنيته أن يدفن تحت إحدى أشجار الزيتون فيها. توفي البارحة مساء الحادي والثلاثين من شهر أغسطس 2020 .
لقد خسرتُ اليوم صديقاً مخلصاً، ومرشداً ناصحاً، وإنساناً أعزه كثيراً…
وخسرت المنظمة مؤسساً ومشيداً، وخسر المجتمع العلمي العربي أحد أعمدته..
إنا لله وإنا إليه راجعون..
في ذكرى وفاته الأولى
البريد الإلكتروني للكاتب: mmr@arsco.org