منذ أمد ليس ببعيد في نهاية الثمانينات من القرن الماضي إرتأى بعض علماء علم المناعة في المعهد القومي للسرطان في واشنطن ومعهد سلون-كيتيرنق التذكاري في نيويورك وكلية بايلور للطب في هيوستون أن الجهاز المناعي يمكن تدريبه وتعليمه لكي يهاجم الخلايا السرطانية. فيمكن من وجهة نظرهم أخذ خلايا من مريض بالسرطان ثم تُهَندَس وراثياً لكي تقتل خلية سرطانية في نفس المريض، حيث تتم برمجة خلايا "ت" (1) لكي تنتج بروتينات مستقبلات المستضدات المتشاركة Chimeric Antigen Receptors التي يرمز لها باختصار (كار CAR)، وتُضبط للاتحاد مع مستضدات الخلايا الورمية التابعة للمريض وتسمى هذه الخلية التائية المُهندَسة (كار-ت CAR-T).
وقد نُظر إلى هذه الفكرة في ذلك الوقت، بأنها فكرة طموحة وغير قابلة للتطبيق. وكثير من أطباء الأورام لم يعتقدوا أن هذه الفكرة ستكون إحدى أهم الوسائل لمحاربة مرض السرطان. ولكن خلايا كار-ت أصبحت بعد عشرين عاماً من الأبحاث حقيقةً واقعة، خاصة بعد أن تمَّ عمل تجارب سريرية صغيرة قبل بضع سنوات على بعض أنواع سرطانات الدم الحادّة، وأظهرت نتائج إيجابيّة ملموسة (2). ولم تكن رحلة انتقال هذه الفكرة البحثيًّة إلى أسرّة المرضى بالرحلة الهيّنة، حيث بدأت المحاولات في منتصف التسعينات من القرن الماضي، ثمَّ تلا ذلك بعشر سنوات محاولات مع الأورام الصلبة كانت معظمها غير ناجحة. ولكن بعد ذلك بسنوات قليلة بدأت بعض النجاحات على بعض أنواع سرطانات الدم (اللوكيميا والليمفوما) تلوح في الأفق، فقد تمكّنت خلايا كار-ت من إثارة تخليق وإطلاق جزيئات مناعية تُدعى السايتوكينات والتي أجبرت الأطباء لوضع المرضى في العناية المركزة في ذلك الوقت، ولكن بعد صبر ومثابرة لوحظ عدم وجود الخلايا السرطانية بعد أن تكاثرت خلايا كار-ت داخل الجسم بشكل طبيعي وتعاونت مع السايتوكينات في قتل الخلايا المريضة. وتم نشر هذه النتائج في مجلات علمية مرموقة، كان من آخرها في 2018 في مجلة نيتشر المعروفة في الأوساط العلمية بتحققها من الأبحاث ورزانتها في النشر (3).
مسار هذه الطريقة العلاجية
تبدأ العملية بتقييم حالة المريض وعمل فحوصات مختلفة، فإن وُجِدَ مؤهلاً، فتُؤخذ وتُجمع خلاياه التائية من دمه، كما يلاحظ في الشكل المرفق، ثم تُعالج هذه الخلايا في المختبر وتُهندَس لكي يتواجد على أسطحها بروتينات مستقبلات المستضدات المتشاركة. ثم يعمل المختصون على تكاثر هذه الخلايا المُعَدَّلة في المختبر حتى يصبح عددها كبيرا ومفيدا للمريض. وكما لوكان نقلاً مُعتاداً للدم، يُعاد إدخالها إلى دم المريض والذي من المستحسن أن يكون قد تهيأ لذلك بإعطائه جُرَعاً من العلاج الكيماوي، ومن التجارب السابقة فإن المريض يحتاج إلى مدة شهرين أو ثلاثة حتى يتم الإقرار بنجاح العلاج من عدمه. وخلال هذه الفترة لابد من ملاحظة حدوث أي عدوى أو ارتفاع في درجة الحرارة أو أعراض عصبية، ويشعر المرضى خلال هذه الفترة بإنهاك جسدي وعدم الرغبة في الطعام.
من هم المؤهلون لهذا النوع من العلاج؟
حالياً تستخدم هذه الطريقة من المعالجة مع مرضى سرطان الخلايا الليمفاوية الغير هودجكينية والعدوانية المقاومة للعلاجات aggressive refractory non-Hodgkin’s lymphoma ومع مرضى سرطان الدم الليمفاوي الحاد بعمر خمسة وعشرون عاما فما دون، واللذين لم يستجيبوا للعلاجات المعروفة الأخرى، ولهؤلاء تمت موافقة هيئة الغذاء والدواء الأميركية، ولكن هناك دراسات سريرية لاستخدام هذا النوع من العلاج على أمراض أخرى، وقد لوحظ أن تدعيم خلايا كار-ت بهذا الأسلوب يُسَرّع من كفاءتها في محاربة الأورام الصلبة على الأقل في نموذج فئران التجارب. ولكن أحَد الأطباء في الصين سجّل في دراسة سريرية تستخدم خلايا كار-ت المقوّاة لعلاج سرطان الكبد بعد أن حاول علاج نفسه بشتى الطرق الأخرى ولم ينجح، وبعد عدة جلسات من حقن هذه الخلايا التائية المعدّلة والمقوّاة (من جسمه إلى جسمه) لوحِظ أن الأورام المبدئية في الكبد والتي انتشرت بعيدا عن الكبد قد انكمشت (4)، وعاد هذا الشخص ليزاول مهنته كطبيب بعد أن توقف بسبب المرض.
دور شركات الأدوية
ولفتت هذه النتائج الإيجابية أنظار شركات الأدوية لدعم هذه الأبحاث وتطويرها، حتى أنه في عام 2016 أجريت تجارب سريرية لكثير من أنواع خلايا كار-ت (الموجَّهة لأنواع مختلفة من الخلايا الورميّة) في عدة مراكز لعلاج أمراض السرطان في الولايات المتحدّة بدعم سخي من بعض الشركات. وقد عرَفَ الأطباء حينئذٍ معظم الأعراض الجانبية التي يمكنها أن تُتعب المريض نتيجة خروج السايتوكينات من الخلايا المناعية. وفي عام 2017 تمّت موافقة هيئة الغذاء والدواء الأميركية على أدوية تحتوي خلايا كار-ت، بعضها بدأت المحاولات عليها في عام 2004، أما الآن فهناك أكثر من مائة شركة حول العالم تنتج خلايا تائية معدّله وراثيا لكي تستخدم في محاربة كثير من أنواع الأورام المختلفة.
الاستنتاجات
رغم هذه النجاحات، فإن هذه الطريقة (كار-ت) لاتزال غامضة النتائج عند محاربة أمراض الأورام الصلبة، ولعلّها هي الأكثر بين أمراض السرطان. فقليل من المرضى استجاب للعلاج، بينما الأكثرية لم تستجب، حيث لوحظت بعض السُّميّة التي تؤثر على المريض، وتكون محاولات استبعادها من الدواء أو إبعادها عن المريض ذات تكلفة كبيرة جدا. ولكن هذه الطريقة (كار-ت) مفيدة جداً في محاربة السرطانات السائلة الدمويّة، ومن محاولات التغلُّب على ذلك هو تخليق خلايا كار-ت المُدَرَّعَة أو المُقَوًّاة، حيث يتم تدعيم خلايا كار-ت ببعض السايتوكينات أو روابط تشترك في التحفيز أو أجسام مضادّة يمكنها سد بعض المسارات الغير مفيدة في الخلية، وتبشر الأبحاث بخير عميم لمحاربة السرطان بهذا الأسلوب (5).
المراجع
- Zhang C, et al. (2017) Engineering CAR-T cells. Biomarkers Research 5:22. doi: 10.1186/s40364-017-0102-y.
- June CH, et al. (2018) CAR T cell immunotherapy for human cancer. Science 359:1361-1365.
- Fraietta JA, et al. (2018) Disruption of TET2 promotes the therapeutic efficacy of CD19 targeted T cells. Nature 558:307-312.
- In H-E (2018) Chinese doctor’s near-miracle recovery after cancer immunotherapy shows the promise new treatment holds. https://www.scmp.com/lifestyle/healthwellness/article/2163505/chinese-doctors-nearmiracle-recovery-after-cancer. Accessed 01 July 2020.
- Sermer D, Brentjens R (2019) CAR T-cell therapy: Full speed ahead. Hematological Oncology 37(Suppl 1):95-100.
** أ.د. محمد نورين بن أحمد الأهدل
أستاذ وعالم أبحاث رئيس، علم الأحياء الدقيقة والمناعة
استشاري علوم المناعة
مستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث بالرياض
المملكة العربية السعودية
البريد الإلكتروني للكاتب: profahdal@gmail.com