لماذا يظهر البشر العنصرية تجاه بعضهم البعض بدرجة أو بأخرى؟ لطالما شغل هذا التساؤل أذهان وبحث العلماء من مختلف التخصصات النفسية وعلم الاجتماع وعلم الاعصاب.
حتى عام 1950 كان هناك اعتقاد علمي مدعوم بنظريات من علم الأنثروبولوجيا بوجود تفوق عرقي لأجناس من البشر دون أخرى، وكانت تعتمد على علم القياس البشري للصفات البيولوجية كحجم الجمجمة وغيرها. العنصرية العلمية سادت بقوة في القرن العشرين حتى أواخر الحرب العالمية الثانية لتضع مبرر للهيمنة الأوروبية البيضاء على غيرها من الأجناس وتبرير الاضطهاد العرقي والعبودية.
العنصرية العلمية الزائفة
مع التقدم في علم الوراثة التطورية والذي كشف تفاصيل الخارطة الجينية للبشر، فالعنصرية العلمية أصبحت من العلوم الزائفة. فقد وجد العلماء أن الفروق الجينية بين البشر طفيفة جدا ولا تتجاوز .01 %، فالاختلافات البيولوجية من لون البشرة وغيره ماهي إلا تكيفات جينية لعب المناخ فيها دورا كبيرا!
فالبشرة السمراء على سبيل المثال ماهي إلا زيادة في صبغه الميلانين لتحمي أصحابها من الاشعاع الشمسي العالي في مناطق تواجدهم. ولكن، رغم زيادة الوعي البشري ونسف نظريه التفوق العرقي، إلا أن الصور النمطية العنصرية والأحكام المسبقة وميل البشر للانتماء والانتصار لما ينتمون إليه لاتزال تلعب دوراً كبيراً في حياتنا اليومية.
العنصرية في علم النفس
وفي محاوله لسبر أغوار العنصرية وفهم جذورها يعتقد علماء النفس التطوري أن العنصرية نشأت في البشر خلال مراحل التاريخ التطوري كنوع من أساليب البقاء، فانتماء الإنسان لمجموعة يضمن له القوة والاستمرار، وظهور مجموعة مختلفة في نفس الحيز تنافس في الموارد يشكل تهديداً ضمنياً للبقاء ما يستدعي النفور ويثير غرائز العداء.
التحيز الضمني
وفي محاولة للكشف أكثر عن الجانب البيولوجي ودور الدماغ في الإنحيازات التي يبديها البشر تجاه انتماءاتهم العرقية والمجموعات التي ينتمون إليها، قام علماء الأعصاب في جامعه بكين عام 2009 بعمل دراسة لمجموعة من الطلاب الصينين والقوقازيين، عُرضت عليهم مجموعة من الصور والفيديوهات لأشخاص يتألمون من مختلف الأعراق، وبعد عمل فحوصات لأدمغه المشاركين بأجهزة "FMRI" وجد العلماء أن القشرة الخزامية الأمامية وهي الجزء المسؤول عن الإدراك العاطفي والمشاعر و المعني بالتعاطف مع الآخرين، كانت أكثر نشاطاً عندما تُعرض مشاهد الألم والوجع لأشخاص من نفس العرق بينما كانت أقل نشاطاً في أدمغة المشاركين عندما شاهدوا نفس الألم ولكن لأشخاص مغايرين لهم في العرق والهوية.
أكدت هذه التجربة على ما أصبح يُعرف في الأوساط العلمية بالانحياز الضمني الغير الواعي، فالدماغ يلجأ بشكل غير واعٍ إلى وضع تصنيفات وأنماط في محاوله لتنظيم المعلومات المدخلة وتسهيل عملية الوصول إليها.
إنها الثقافة المجتمعية
ولكن هل الانحياز الضمني مبرراً كافٍ لكل أشكال العنصرية؟ يقول البرفسور أريك نويلز عالم النفس في جامعة نيويورك، في مقال في جريدة الواشنطن بوست " لسوء الحظ، فإن عقلية (نحن وهم) جزء من تكويننا البيولوجي، فهناك دلائل كثيرة تشير إلى أن هناك ميل متأصل في أن نضع أنفسنا في (مجموعة) ولكن من يضع حدود لهذه المجموعات ويرسم الانقسامات على أسس عرقية ليست البيولوجيا وإنما الثقافة المجتمعية".
فبرغم الإقرار العلمي بوجود الإنحيازات الضمنية وبيولوجيا الدماغ إلا أن الثقافة تلعب دوراً أعمق في تشكيل سلوكيتنا، فالتحيزات والروابط التي يلجأ الدماغ إلى نسجها تتحول إلى عواطف ولكن ترجمتها إلى سلوكيات تعد من صميم السياق الثقافي والبيئة المعاشة.
البيئة محفز العنصرية الأول
لمعرفه العمق الذي يؤثر به السياق الثقافي وجدت دراسة قامت بها جامعة تافتس الأمريكية عُرضت فيها على المشاركين مقاطع من أشهر البرامج التلفزيونية تجسد مواقف سلبية تجاه السود مقارنة بالبيض، وبرغم عرضها في وضعية صامتة فإن الإيماءات ولغة الجسد كانت كفيلة بجعل المشاهدين يسجلون درجات أعلى من التحيز الضمني!
ففي إحدى التجارب التي اخترعها عالم النفس كينيث كلارك لاختبار العنصرية لدي الأطفال، قام بأخذ مجموعة من الأطفال السود (بين سن ست وتسع سنوات) وعرض عليهم الاختيار بين دمتين بيضاء وأخرى سوداء مع طرح أسئلة عليهم أي الدميتين تفضل ومن هي اللطيفة والخبيثة برأيك؟ وجدت التجربة أن 63 % من الأطفال اختاروا دمية بيضاء ووصفوها باللطيفة. تكررت التجربة على يد أكثر من عالم وخلصت إلى نسبه عالية لصالح الدمية البيضاء في كل مرة. وقد فسر العلماء والباحثون أن الأطفال في سن مبكرة لا تتكون لديهم آرائهم الخاصة وتفضيلاتهم وإنما تعكس التربية الأبوية والتأثير المجتمعي!
تقول الدكتورة جينفر ريتشسون عالمة النفس الاجتماعي في جامعة يالي الأمريكية في جريدة الواشنطن بوست " يتعلم الناس أن يكونوا مثل ما تملي عليهم ثقافتهم ومجتمعهم، فالأطفال سيصبحون عنصريون طالما آبائهم لم يبذلوا جهدا فعالاً في النأي بأبنائهم عن العنصرية".
طالما هناك أيدولوجيا منظمة إعلامياً وتربوياً وثقافياً تعزز من الصور النمطية العنصرية وتؤكد على صراع المجموعات القائم على العرق أو اللون وغيره، فمن المؤكد أنها ستستمر وستتطور إلى العنصرية الخفية والتي تعد الشكل الحديث للعنصرية. فالغالبية خصوصاً في المجتمعات المتقدمة يهتف بالمساواة وتخطي أشكال العنصرية العلنية، إلا إنها تحولت إلى شكل خفي يتجسد بشكل يومي في ردود الأفعال، وعند البعض تتخذ منحنى سلوكياً أكثر عنفاً، كالنهاية المأساوية للمواطن الأمريكي الأسود جورج فلويد الذي فارق الحياة تحت ركبة رجل شرطة أبيض!
المصادر:
البريد الالكتروني للكاتب: sma_yem@yahoo.com