(لا أعلم علما بعد الحلال والحرام أنبل من الطب) والقائل هو الإمام الشافعي رحمه الله، وهذا المديح مشفوع بكل لسان ومنشور في كل زمان. وشخصية الطبيب فاعلة وحاضرة في حياة الناس وفي دنيا الأدب فقلَّ أن يوجد كاتب مشهور لم تكن شخصية الطبيب من أبطال روايته كما نجد ذلك عند تشارلز ديكنز وألبرت كامو وشكسبير وجوستاف فولبير وأجاثا كريستي وفولتير وغوته ووليم فوكنر وسومرست موم وتوماس مان ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويحيى حقي وعلاء الأسواني والقائمة تطول وتطول. الجميع يعلم أن الأطباء وأفراد الطاقم الصحي هم خير مثال على الإخلاص في العمل والتفاني في التضحية بالنفس لدرجة الفناء حقيقة لا مجازاً.
يتعرض الأطباء لأخطار مهنية متعددة من أكثرها شيوعاً انتقال العدوى لهم من مرضاهم وهذه المعضلة تم تسجيلها في بعض الأعمال الروائية فهذا الأديب الروسي الكبير أنطون تشيخوف يسطرها في رواية (الجناح رقم 6) والتي تدور عن إصابة طبيب أعصاب وأمراض نفسية بعدوى المرض ودخوله للمستشفى مع نفس المرضى الذين كان يعالجهم. بينما الروائي البرتغالي جوزيه ساراماغو الحاصل على جائزة نوبل في الأدب لعام 1988يكتب روايته (العمى) الملائمة لزماننا الحالي حيث تدور عن مرض ووباء يصيب مدينة صغيرة وينتقل هذا المرض إلى طبيب العيون الذي يصاب به هو وزوجته ومن ثم يتم الحجر الصحي عليهما مع بقية المرضى.
منذ الأزل والناس يتعجبون من إصابة الطبيب بالمرض ولذا قيل بتهكم وسخرية (يداوي الناس وهو عليل). ومع ذلك، فالمقام لأهل العقول النيرة مقام موعظة ومواساة، ولهذا الكاتب الإيرلندي برنارد شو الشهير بسخريته اللاذعة دوماً، لم يسخر من هذه المفارقة وبدلا من ذلك علق بعمق بصيرة (أكثر الأشياء مأساوية في العالم: الطبيب المريض). إصابة الطبيب بالمرض حدث كاشف عن ضعف الطبيعة البشرية حتى وإن تخيل الإنسان أنه قادر على السيطرة على كل شي فيمكن أن يضعف في لحظة في نفس موطن القوة. ومن جانب آخر إصابة الطبيب أو أفراد الطاقم الصحي بالمرض فضلا عن الوفاة بسبب ذلك دلالة شجاعة وفروسية في أرض المعركة، كما أنها دلالة كرم ونبل أخلاق في عدم التردد بالتضحية بالنفس فهم أحق من يوصف بقول القائل (يجود بالنفس إن ضن الجواد بها).
في الوصايا والإرشادات المنسوبة إلى أبي الطب أبقراط لأبنائه الأطباء أن (كرامة الطبيب تقتضي منه أن يكون سليماً في مظهره بل وحتى أن يكون سمينا) ومقصود أبقراط أن الطبيب عندما يكون في حالة صحية جيدة فهذا يعطي طمأنينة للمريض أن طبيبه من النوع الجاد والمهتم. فما بالك بشعور المريض عندما يعلم بأن الشخص الذي يتولى معالجته سوف يخلص في ذلك حتى لو وصل الأمر أن يصاب هو بالمرض.
جائحة وباء فيروس كورونا اجتاحت المرضى والأطباء وأفراد المنظومة الصحية من الممرضين والفنيين بل وحتى الإداريين، وتشير الإحصاءات الأولية إلى اقتراب رقم عدد الوفيات من الأطباء بهذا الوباء على مستوى العالم حوالي الأربعمائة طبيب. منهم أكثر من مائه فقيد في إيطاليا وحدها بينما وفق أرقام نقابة الأطباء المصرية فقد تجاوز عدد الوفيات في صفوف الأطباء بسبب الوباء الأخير أكثر من ستين فقيدا، وكذلك عشرات الضحايا من الأطباء العرب والمسلمين في الغرب نسأل المولى عز وجل أن يتقبل أهل الإسلام من هؤلاء الأطباء شهداء عنده. والمقلق حقا أن صحيفة الديلي ميل البريطانية نشرت تقرير يستند إلى أرقام رسمية تشير إلى أن حوالي ثلث أعضاء الكادر الطبي في بريطانيا ممن لهم ارتباط بمكافحة وباء كورونا ثبت أصابتهم به وأن هذا الرقم يقترب من ستة آلاف شخص مما تسبب في صدمة حادة للقطاع الطبي. ومن جانب آخر تعطي الأرقام الإحصائية جانب تطميني أن عدد الوفيات الفعلية من هذا الرقم المهول منخفض نسبياً، حيث نشرت جريدة الجارديان البريطانية خبر يذكر أن أعداد المتوفين من وباء كورونا من أعضاء الخدمة الصحية الوطنية NHS في بريطانيا هم حوالي 200 فقيد.
وفي لفتة إنسانية مشكورة قامت جريدة النيويورك تايمز وفي صفحاتها الأولى بنشر أسماء ضحايا وباء الفيروس في أمريكا، كما يقوم الموقع الإلكتروني لجريدة الجارديان الإنجليزية ليس فقط بنشر أسماء ضحايا القطاع الصحي بل بنشر صور ومعلومات عن هؤلاء الأبطال الذين سقطوا في جبهة القتال في معركة الحرب على الفيروس. وأعتقد أنه من الوفاء لنبلاء الأطباء والقطاع الصحي الذين توفوا جراء هذا المرض أن تذكر أسمائهم وتواسى أسرهم ويرفع ذكرهم على كل صعيد. ومن ذلك، في واقعنا المحلي نترحم على استشاري مستشفى الملك خالد الجامعي بالرياض الدكتور محمد الفكي والطبيب الجراح نعيم الشوردي بمستشفى حراء بمكة المكرمة والطبيب محمد قطرنجي العامل بأحد المستوصفات الصحية بالمنطقة الشرقية والممرض خالد الحسيني الممارس الصحي بمستشفى الملك عبد العزيز بمكة المكرمة والممرضة نجود الخيبري العاملة بمستشفى أحد بالمدينة المنورة ونسأل الله أن يرحمهم جميعا ويغفر لهم ويصبر ذويهم. أما على المستوى العالمي فأكثر طبيب جدير بالذكر والإشادة والتعريف به فهو الطبيب الصيني لي وينليانغ الذي كان أول من تنبه لظهور وباء كورونا كوفيد 19 في منطقة ووهان الصينية لكن تم في البداية مضايقته واتهامه من قبل السلطات بنشر الإشاعات المغرضة ثم بعد ذلك أصيب بالوباء وتوفي وهو في الحجر الصحي. تجدر الإشارة إلى أن الطبيب الصيني لي وينليانغ الذي كان أول من أكتشف مرض فيروس الكورونا وتوفي من جرائه كان في بداية الأمر يظن أن الأعراض هي لمرض السارس SARS المشابه جدا لمرض كورونا كوفيد 19المستجد. ومن عجائب الأقدار أن الطبيب الإيطالي وعالم الأحياء الدقيقة كارلو أورباني الذي اكتشف مرض السارس وفرق بينه وبين أمراض الأنفلونزا الحادة قد أصيب هو الآخر بعدوى هذا المرض الخطير الذي انتقل له من المرضى الذين كان يشرف على علاجهم وتوفي جراء ذلك وهو بعد في سن السادسة والأربعين.
مع الرعيل الأول من نبلاء الأطباء
بشيء من التجوز يمكن أن نقول إن لهؤلاء الأطباء الشهداء سلف صالح ضحوا بأنفسهم في ميادين الشرف لخدمة الإنسانية في معاركها ضد الأمراض والأوبئة، ولهذا من حق هذا الرعيل الأول التذكير بمواقفهم النبيلة وتضحياتهم الجليلة. في معركة البشرية ضد الأمراض المعدية من البديهيات اليوم استخدام سلاح (التعقيم والمطهرات) ولكن العجيب في الأمر أنه قبل قرن ونصف من الزمن لم يكن حتى الأطباء مقتنعين بحقيقة أهمية دور المعقمات في المستشفيات. في عام 1847م لاحظ الطبيب المجري إجناز سيملفيس أنه من المحتمل أن سبب ارتفاع نسبة إصابة النساء بمرض حمى النفاس أن ميكروب هذا المرض القاتل ينتقل عبر أيدي الأطباء أثناء عمليات التوليد. ولهذا ولعدة سنوات ناضل هذا الطبيب بمحاولة إقناع زملائه الأطباء وطاقم التمريض في غرف عمليات التوليد والجراحة بضرورة غسل أيديهم جيدا وتعقيمها بواسطة محلول الجير المعالج بالكلور. ولكن للأسف بعد أن تمكن هذا الطبيب بشكل حقيقي من إنقاذ حياة المئات من النساء توفي وهو في سن 47 نتيجة لإصابته بمرض حمى النفاس بعد أن وصلت له العدوى المميتة من خلال جرح في يده.
وبينما كان الطبيب سيملفيس (منقذ الأمهات) والحوامل يتفانى في مهنته حتى توفي من جراء الأخطار الصحية لعمل الطبيب نجد كذلك طبيب آخر يتفانى في (إنقاذ الأطفال) ويلقى نفس المصير، وهو الطبيب الألماني إميل بهرنغ. في واقع الأمر، لهذا الطبيب مكانة خاصة في تاريخ الطب حيث أنه كان أول شخص ينال جائزة نوبل في الطب وذلك في عام 1901م نظير اكتشافه لعلاج مرض الدفتيريا وهو المرض الرهيب الذي كان يفتك بالأطفال في ذلك الزمن. وبعد حصول بهرنغ على جائزة نوبل قام بالتبرع بالمبلغ المالي الذي حصل عليه من جائزة نوبل لإنشاء معهد طبي خاص لاكتشاف علاج لمرض السل المميت. وفي السنوات الأخيرة من حياته اعتلت صحته كثيرا لدرجة أنه توفي نتيجة لإصابته بمرض السل الذي كرّس ماله ووقته وصحته لإيجاد العقار الخاص به. ولقد كان مرض السل ولا يزال من الأمراض الخطيرة والقاتلة ومن ضحاياه الذين يجدر التنويه بهم نذكر هنا الطبيب الأمريكي إدوار ترودو والذي توفي قبل الطبيب الألماني بهرنغ بسنتين فقط أي عام 1915 ميلادي. في عام 1894م قام ترودو بإنشاء أول مصح ومركز أبحاث في أمريكا متخصص بالكامل في دراسة وعلاج مرض السل (يعرف اليوم بمعهد ترودو للأمراض المعدية). الأمر المختلف قليلا في قصة ترودو مع الأخطار المهنية للعمل في القطاع الصحي أن أغلب الأطباء يصابون بالمرض من جراء العمل، في حين أن ترودو أصيب في بداية حياته بمرض السل ولهذا لاحقا كرس حياته كلها لمحاولة التحكم ومنع انتشار هذا المرض وإن كان في خاتمة المطاف توفي ترودو من جراء مرض السل.
وفي موضوع ذي صلة، الأخطار المهنية في القطاع الصحي لا تقتصر على مجال العمل في رعاية المرضى بل قد تصل إلى بيئة المراكز البحثية والطبية الهادفة لاكتشاف أسباب مرض ما أو الساعية لتطوير لقاح أو علاج له. ففي نهاية القرن التاسع عشر كان وباء الحمى الصفراء يتسبب سنويا في خسائر هائلة في الأرواح والاقتصاد بل وحتى القدرة العسكرية ولهذا حاول فريق البحث التابع للطبيب الأمريكي ولتر ريد اكتشاف أسباب هذا المرض. وعندما توصل فريق البحث للافتراضية أن نوعا خاص من البعوض هو الناقل لفيروس هذا المرض القاتل لم يتردد الطبيب الشاب عيسى لازير من التبرع بإجراء التجربة الطبية عليه إذ سمح بشكل متعمد لذلك النوع من البعوض بأن يلدغه ويتسبب في نقل مرض الحمى الصفراء إليه. والمؤلم في هذه القصة أن هذا الطبيب الشاب سرعان ما توفي من جراء مرض الحمى الصفراء وهو في سن 34 مخلفا وراءه زوجة مكلومة وطفلين يتيمين. وقعت هذه الحادثة المأساوية في مطلع القرن العشرين بينما في بدايات القرن التاسع عشر حاول طبيب فرنسي يدعى نيكولاس تشيرفن معرفة كيفة انتقال عدوى نفس ذلك المرض القاتل، ولهذا قام في البداية بالنوم في أسرة المرضى الذين ماتوا من هذا المرض واستخدام أغطيتهم الشخصية. وعندما لم تنتقل له العدوى (لأنها تنتقل بالبعوض كما ذكرنا) قام نيكولاس بعمل في منتهى الحماقة ولكنه في المقابل دليل دامغ على عنفوان روح حب الاكتشاف عند البعض، حيث قام نيكولاس بتناول وابتلاع القيء الدموي الأسود الذي يفرز من المرضى فربما يكون هو مصدر العدوى والإصابة بالمرض.
ما سبق ذكره يفتح لنا المجال باختتام هذا المقال بالإشادة والإطراء على تفاني الأطباء العاملين في مجال الأبحاث الصحية وشجاعتهم وإخلاصهم لدرجة المخاطرة بأنفسهم وذويهم في سبيل التقدم العلمي وخدمة البشرية. في عام 2005م حصل الطبيب الأسترالي باري مارشال على جائزة نوبل في الطب وذلك بعد أن استخدم جسده كأنبوب اختبار أو حيوان تجارب وذلك لإثبات فرضيته الطبية التي تقول أن من أسباب مرض قرحة المعدة هو تعرض الجسم لنوع خاص من البكتيريا. ولهذا قام ذلك المرشال المغامر بتعمد ابتلاع ذلك النوع من البكتيريا لمحاولة إثبات أنه بالفعل يتسبب في ظهور مرض القرحة. وإذا كان بعض الأطباء النبلاء استخدم جسده كفئران تجارب لإثبات حصول المرض فإن البعض الآخر لم يتردد في أن يجرب على نفسه نتائج أبحاثه الجديدة في التطعيمات الواقية أو الأدوية والأمصال المعالجة وهذا موضوع يحتاج أن يفرد له مقال خاص، ولكن تكفي الإشارة السريعة له. فنجد مما يذكر ويشكر في هذا الشأن أن الطبيب الكندي فريدريك بانتنج عندما اكتشف دواء الأنسولين لمرض السكر حقنه أولا في جسده وجسد معاونه. وكذلك المضاد الحيوي الأشهر البنسلين عندما استخلصه بكمية نقية الطبيب الأسترالي هوارد فلوري أثناء عمله في أحد مستشفيات جامعة أكسفورد تعمد أن يتأكد أنه لا يتسبب في حدوث تسمم ولهذا قام فلوري بالغرغرة به على أمل فحص قدرته على شفاء الالتهابات التي توجد في فمه بينما يتأكد في نفس الوقت أنه لا يتسبب في أعراض صحية أخطر. وفيما يتعلق بالتأكد من سلامة اللقاحات والتطعيمات الطبية قبل تعميم استخدامها نجد أن الطبيب الأمريكي جوانس سالك عندما اكتشف لقاح مرض شلل الأطفال قام بتجريبه على ثلاثة من أبنائه الصغار ليثبت للآباء المتشككين أنه تطعيم طبي آمن وفعال.
وبعد، نكرر في الختام ما ذكرناه في مناسبة سابقة أنه في زمن كورونا الحالي الجميع وبجميع اللغات البشرية يلهج بالدعاء ويصدح بالثناء على جهود الأطباء وجميع العاملين في القطاع الصحي على دورهم البطولي في التصدي لهذه الجائحة المريعة فطوبى للأطباء وشكرا للنبلاء.
المقال للتحميل بصيغة PDF تجدونه أعلى الصفحة
البريد الالكتروني للكاتب: ahalgamdy@gmail.com