1. تَمهيد
يشكِّل النَّظر في ِعبَر الماضي بخُصوص الأوبئة وتأثيراتها على المجتمَعات، والتأمُّل في الكيفيّات التي واجَه بها أسلافنا الجَوائِح، مهمَّة نافِعة للبحث الأكاديمي في الظروف الاستثنائية التي يعيشها العالم بسبب الوَباء المُستشري، من أجل دراسة ما وصلنا من أخبار وتآليف وشهادات لاستخلاص دروس بليغة تفيدنا في الحاضر وربما في المستقبل. وهذا ما يحفِّزُنا لتخصيص هذه المقالة لعرض قائمة مفصّلة بالمؤلفات التي خصّصها الأطباء والفقهاء والمؤرخون للأوبئة وسُبل التَّحرز منها والتعامل معها. تشكّل هذه المؤلفات، التي لم ينشر ويدرس منه إلا القليل، جزءً لا يتجزأ من تاريخ الطبِّ العربي ومن التاريخ الثَّقافي والاجتمَاعي للبلاد العربية والإسلامية، وتمثّل مادَّة تُراثِّية عربيّة، طِبيّة وعِلميّة وتَاريخيّة، تَتميّز بالثراء والتنوُّع.
يمكن أن تشكّل معطيات القائمة المواليّة موضوع بحوث متعدّدة تتوخى تحقيق الأعمال غير المنشورة وتحليل مضامينها، بالاستناد إلى مقاربة مزدَوِجة تعتمِد منهجيّة تاريخ العلوم والطبّ وأسلوب التاريخ الثقافي.
https://www.youtube.com/watch?v=sX-yOnMPicw&t=2558s
سنلاحظ أن أغلب المؤلفات المذكورة تخصّ وباء الطّاعون، الذي كان هو الوباء الأعظم إلى حدود القرن التاسع عشر، ومثالا للأوبئة التي اجتاحت الإنسانية كالجُدَري والحَصْبة والسلّ والكوليرا والمَلاريا وغيرها. يقول بهذا الصدد الأديب والمؤرخ المغربي والأندلسي القاضي عياض (ت. 544هـ/1149م): "الوباء عموم الأمراض، فسميت طاعونا لشَبَهِهَا بها في الهلاك، وإلا فكل طاعون وباء وليس كل وباء طاعونا… ويدلّ على ذلك أن وباء الشام الذي وقع في عِمواس إنما كان طاعونا.
2. المؤلفات العربية الأولى في الوباء والاحتراز منه: 200-300هـ
نجد في التّأليف الطبي العربي في القرن الثالث الهجري ذكرا عابِرا للوباء لا يتعدّى بضع صفحات، في مؤلفات طبيّة مفصّلة تحيط بمختلف مظاهر المرض والمُداواة، كما هو الأمر في كتاب الذَّخيرة في الطب لثابِت بن قُرَّة الحَرّاني (ت. 288هـ/901م) وكتاب المنصوري في الطبّ لمحمد بن زكريّا الرّازي (ت. 313هـ/925م). يخصص الرازي ثلاث صفحات في كتابه الموسوعي لوصف الوباء والاحتراز منه وسرد بعض النصائح لتجنب العَدوى وحُسن علاج المرض.
يقول: "إن الوباء يحدث في آخر الصيف وفي آخر الخريف. فإذا كانت في | الصيف أمطار كثيرة ودام فيه الغيم بالليل والنهار وكثر فيه هبوب الجنوب وكان الهواء فيه راكداً ومدّاً غير متحرّك وهو مع ذلك جنوبي كدِر، فليحذر اللحم و الشراب والحلواء والفاكهة الحلوة الرطبة والحمّام و الاغتسال بالماء الحارّ. و ليكثر من الخَلّ وما يعمل منه ومن ربوب الفاكهة الحامضة، كربّ الحصرم والريباس والرُّمّان والتّفاح والسّماق وحمض الأترج. ويكثر فيه من شرب السكنجبين الحامض. وإن لم يكن بدّ من أكل اللحم فليأكل الدراريج والفراريج ولحوم الجداء والعجاجيل، متخذة بالخلّ أو بماء الحصرم والسماق ونحوها، والقريص والهلام والمصوص. وإن رأى في البدن أدنى حركة للدَّم، أخرج على المكان ولم يدافع به، ويلزم المجالِس الباردة التي أبوابها وكُواها نحو الشّمال، فإنه بهذا التدبير يمكن أن يتخلص في هذه الحال من أحوال الهواء من الجُدري و الحصَبة والطاعون والخراجات الرديئة والحميات المطبقة. وليحرص الصبيان والفتيان وأصحاب الأبدان الخصبة الحمر الألوان في هذه الحالة أكثر من غيرهم. وإذا كان في آخر الصيف حرّ شديد، وكان الخريف شديد اليبس كثير الغبار وأبطأ المطر والبرد، فينبغي أن يبرد المجلس ويرطب بالخيوش ورش الماء، وليلزم الدّعة والراحة.
"وليحذر التعب والجماع. وليغتسل بالماء البارد ويشرب ماء الثلج، ويأخذ بالغداة السويق بالسكر والماء المبرد بالثلج ويحذر الأغذية المسخنة والشراب إلا بالماء الكثير البارد. وليكثر من أكل القثاء والخيار والقرع والفرفين ونحوها من الأغذية المبردة. ويحذر التعرض للشمس والصوم والمدافعة بالجوع والعطش، ويلزم القيلولة في الأماكن الباردة والأغذية التي ذكرناها. وأن يشرب ماء الشعير في هذه الحالة كل يوم، فإنه نافع وخاصة لأصحاب المزاج الحار اليابس، فإنهم أحوج الناس إلى هذا التدبير، وبه | يمكن أن يتخلصوا في هذه الحالة من الحميات المحرقة الخبيثة. وأما إذا كثرت البثور واليرقان وكانت تهب الرياح، فيمرض في هذا الزمان بعقبها خلق كثير من الناس والبهائم ويظهر بالليل في الهواء شعاعات ويسرع فيهم الموت إلى من يمرض من هؤلاء، وكان المرض يضيق بأنفاسهم وتبخّر أفواههم ويجدون غمّا وكربا ولهيبا شديدا وعطشا، وتبرد أطرافهم ويقيئون ويختلفون أشياء سمجة مختلفة. فإنه ينبغي أن يجتنب الثمار والبقول الكائنة في ذلك الوقت وشرب الماء الظاهر على وجه الأرض، ويلزم البيوت ويهرب من الهواء البارد ويرش البيت في كل يوم بماء وخل ممزوجين. وإن كان في الهواء مع ذلك شبيه ريح عفن ونتن، فليتبخر بالصندل والكافور ويرش الماء ورد، ويرسل على باب البيت ستر قد بلّ بماء ورد، ويجعل الأغذية من الخل والعدس والسماق والقريص والهلام والحصرم. ويتجرع بالخل والماء ممزوجين ويهجر الشراب. وقد ينفع في هذه الحال أن يؤخذ كل يوم قرص من أقراص الكافور، ويشرب الماء بالثلج، ويغتسل بالماء البارد. وقد ذكر رجل من قدماء الأطباء أنه إن أخذ من الصبر جزأين ومن الزعفران والمرّ من كل واحد جزء، وسقي منه في أيام الوباء كل يوم اثنا عشر قيراطا مع أوقية شراب ممزوج انتفع به جدا. وأنه لم ير أحداً ممن شرب هذا الدواء في إبان الوباء إلا وسلم. وذكر جالينوس أن شرب الطين الأرمني بالخل والماء ينفع في هذه الحال جدّاً، وأن ترياق الأفاعي ينفع جدّاً. ومما ينفع أن يتبخر به في حال عفن الهواء، القسط والكندر والميعة والعود والصندل والمسك والكافور والمرّ.
"وربما كثرت الخوانيق في الربيع في بعض السنين وكانت مع ذلك | رديئة قاتلة، فينبغي في هذه الحال أن يتقدم بالفصد وحجامة الساق وإسهال البطن. ويتغرغر كل يوم وليلة بالماء ورد الذي نقع فيه السماق وربّ التوت وربّ الجوز. وربما كثرت في شتوة ما السكتة والفالج ونحوهما من الأمراض. فينبغي أن يتعاهد في مثل هذه السنة النفض المذكور في هذه الأبواب والتغرغر والتعطس، ومرّخ الجسد بالأدهان المذكورة هناك وتقليل الغذاء وتلطيفه.
يشترك في خاصية المعالجة المختصرة للوباء الموسوعات الطبية الكبرى في المرحلة الكلاسيكية للطب الإسلامي، من الحاوي في الطب للرازي، والقانون في الطب لابن سينا (ت.427هـ/1037م)، إلى التيسير في المداواة والتدبير لابن زهر (557هـ/1162م) والشامل في الصناعة الطبية لابن النفيس (687هـ/1288م). غير أن الاهتمام الحَصري بالوباء كان موضوع بعض المؤلَّفات التي شذّت عن القاعدة في تلك المرحلة المبكِّرة، وهي:
- ثلاث رسائل لم يعثَر عليها فُقِدـ للفيلسوف يعقوب بن إسحاق الكِندي (ت. نحو 260هـ/874م): رسالة في الأبخرة المُصلِحة للجوّ من الوباء
- الكِندي، إيضاح العِلّة في السّمائم القاتلة السّمائية وهو القول المطلق في الوباء.
- الكِندي، رسالة في الأدوية المشفية من الروائح المؤذيّة.
- كتاب الطّواعين لابن أبي الدنيا (ت281هـ): مفقود أو لم يُعثَر عليه.
- كتاب في الإعداء لقسطا بن لوقا البَعْلَبَكي (ت. نحو 300هـ/912م): وصلتنا بعض نُسخها ونُشِرت وتُرجِمت إلى الألمانية.
- قسطا بن لوقا البَعْلَبَكي، مقالة في الوباء وأسبابِه.
- ولا يفوتنا ذكر ترجمة حُنين بن إسحق العِبادي (ت. نحو 260هـ/874م) لـشرح جالينوس للمقالة الثانية من كتاب أبقراط المسمّى إفيذيميا. لنلاحظ تعريب المصطلح الإغريقي للوباء (إفيذيميا έπιδήμιον) في أواسط القرن الثالث الهجري، وتعويضه بالمصطلح العربي في رسائل الكِندي وقسطا بن لوقا.
3. وفرة مثيرة للمؤلّفات في الأوبئة والجوائح: 300-1300هـ
تُفاجِئ الباحث ابتداءً من بداية القرن الرابع وَفْرَة في المؤلفات تثير الانتباه وتدعو إلى التساؤل. قد يكون هذا الإنتاج الكثيف دليلا على الاهتمام بالأوبئة وعلى السعي للإحاطة بأبعادها الطبية والاجتماعية والفقهية والتاريخية، بفعل تفشي مَوجاته الحاصدة للأرواح في العصر العباسي في ذلك الزمن وبعدَه. كتب تلك المؤلفات الوفيرة العَدد أطباء مثل ابن سينا والتَّميمي وابن القف وابن الجزار، وأدباء ومؤرخين وفقهاء، من نحو 300هـ إلى 1300هـ على الأقل، وشمل مداها الجغرافي مناحي العالم الإسلامي شرقا وغربا.
8. محمد بن زكريا الرازي (ت. 313هـ)، السبب في قتل ريح السموم أكثر الحيوان.
9. الرازي، الرسالة الوبائية.
10. الرازي، رسالة الجُدَري والحصْبة: تتضمن أوائل الإشارات إلى الطبيعة الوبائية المعدية للأمراض.
11. الرازي، السبب في قتل ريح السموم لأكثر الحيوان.
12. ابن الجزار القيرواني (ت. 369هـ): كتاب في نعت الأسباب المولِّدَة للوباء في مصر وطريق الحيلة في ذلك وعلاج ما يُتَخوَّف منه: مفقود ومنه نُقول عند التَّميمي وعلي بن رضوان.
13. التَّميمي المَقدِسي (ت. 390هـ)، مادَّة البَقاء في إصلاح فساد الهواء والتَّحَرُّز من ضَرر الأوباء: كتبه عام 370هـ.
14. الخطيب بن نُباتَة (ت. 374هـ)، خطبة في ذكر الموت والوباء.
4. وفرة مجهولة المؤلف وزمن التأليف
كما نعثُر في فهارس المكتبات على رسائل مجهولة المؤلّف أو لم يُعرَف سنة تأليفها. وبالتأكيد، سيؤدي فحص ودراسة وتحليل محتويات بعض هذه الأعمال إلى استخراج هوية المؤلف و/أو زمن تأليفها. ويبدو من عناوينها أن معظمها ينتمي إلى مرحلة متأخرة، ربما ابتداءً من القرن التاسع الهجري. وسنكتفي فيما يلي نكتفي بذكر الرسائل التي توجد لها نسخة مخطوطة واحِدة أو أكثر، كما نشير إلى أن أغلب هذه المؤلفات أدرِجت في فهارس المكتبات التي تمتلك نسخها المخطوطة.
88. رسالة في الطاعون رسالة في الوباء، رسالة في الوباء والطاعون: وصلتنا بهذه العناوين العامّة مخطوطات عديدة لؤلفات يُجهل مؤلفها وتاريخ تأليفها تحتفظ بها المكتبات العربية (نذكر منها: جامعة الملك سعود، دار الكتب المصرية، دار العلوم بالأزهر) والتركية (نذكر منها: مكتبة قونية، عاشر أفندي، نور عثمانية) وبعض المكتبات الأخرى مثل المكتبة البريطانية وغيرها.
تضُمّ قائمة المؤلفات مِئة وأحد وعشرين عٌنواناً، ويضاف إليها رسائل أخرى لم نذكرها. يُفترض أن يفوق عدد المؤلفات بين 250هـ/864م و1318هـ/1900 مِئَة وخمسون كتاب ورسالة، من مختلف الأحجام ومن مختلف الأنواع الأدبية، نثرا ونظما. وينبغي أن تضاف أيضا الشهادات المستخرجة من مؤلفات التاريخ العام وكتب التاريخ الثقافي، وهي عديدة جدا، وبعضها طويل ومفصّل، مثل وصف المقريزي للطاعون مثل شهادة المؤرّخ المعروف أحمد بن علي المقريزي (ت. 845هـ) المفصّلة في حالة الطاعون الذي أصاب البلاد المِصرية وبلاد الشّام في أواسط القرن الثامن الهجري وكتن له أثر مدمّر على البنية الديموغرافية للمنطقة العربية كافة.
نختم هذه المقالة بإيراد شهادة قصيرة لابن أبي أصيبعة (ت. 668هـ)، مؤرخ الطب الشهير في كتابه عيون الأنباء في طبقات الأطباء، حين ذكر ضمن نوادِر الطبيب علي ابن رضوان المصري:
"ونقلت من خط المختار بن الحسن بن بطلان أن الغلاء عرض بمصر في سنة خمس وأربعين وأربعمائة قال: ونقص النيل في السنة التي تليها وتزايد الغلاء وتبعه وباء عظيم واشتد. وعظم في سنة سبع وأربعين وأربعمائة. وحُكي أن السلطان كفَّن من مالِه ثمانين ألف نَفس، وأنه فقد ثمانمائة قائد. وحصل للسلطان من المواريث مالٌ جزيلٌ."
تستحق مؤلفات الطب والتاريخ العربي المخصصة للأوبئة وأخبارها وسبل التحرّز منها أن نخصص لها ما تستحقّه من اهتمام أكاديمي، لكي تحلّل وتُدرَس مضامينها لتثري معرفتنا التاريخية، خاصة على ضوء التنبيه المؤلم الذي عرّضنا إليه مرض فيروس كورونا في الأشهر الأخيرة، فأنبَأنا بضرورة الاهتمام بأدبيّات الأوبئة لأنها قد تُفيدُنا في مواجَهة كوارث قادمة.
- المقال كاملاً بما يحتويه من فهارس وشروح وقوائم، تجدونها في ملف PDF المرفق في أعلى الصفحة.
البريد الإلكتروني للكاتب: mohamed.abattouy@dohainstitute.org