مقدمة
حير لغز المادة الوراثية العلماء واعتقدوا في بادئ الأمر أن البروتينات هي المسئولة والمتحكمة في انتقال الصفات الوراثية من الآباء إلى الأبناء، وأجرى العلماء العديد من المباحثات العلمية والتجارب المعملية إلى أن توصلوا إلى حقيقة مسئولية الحمض النووي "DNA" عن الصفات الوراثية والتحكم بها بشكل أساسي بالأدلة المبرهنة.
في تلك الآونة أدرك العلماء أهمية الـ "DNA" ووجهوا إهتمامهم وجهدهم إلى معرفة تركيبه الجزيئي وشكله الفراغي، وقد كان الحديث المثار على طاولة العلماء حينها هو ذلك المركب السحري الذي يتحكم في كل الكائنات وأنه المسئول عن ذلك التنوع الوراثي وتحديد الصفات، ومن هنا بدأ سباق البحث عن الحقيقة التي ستمكن البشرية من إكتشاف المزيد.
المهمة الصعبة ولعبة القدر في كينجيز كوليدج
كانت الفيزيائية الإنجليزية "روزاليند أليس فرانكلين" التي ولدت في 25 يوليو 1920م قد حصلت على منحة لمدة ثلاث سنوات للعمل بقسم الفيزياء الحيوية بجامعة "كينجيز كوليدج" في لندن، كانت وظيفة "فرانكلين" هي العمل على تحليل البلورات بإستخدام تقنية حيود أشعة إكس "الأشعة السينية".
يعتبر دخول "فرانكلين" سباق الحمض النووي "DNA" من أعظم الأفكار التي اقترحها مدير قسم الفيزياء الحيوية "جون راندل" وكذلك مدير المختبرات المساعد بقسم علم البلورات "موريس ويلكنز" حيث وضعها "راندل" على سلم المجد، على صعيد آخر كان السباق مليء بالعلماء المتخصصين في علم الكيمياء الحيوية والأحياء والبيولوجيا الجزيئية ,الكل كان حريصاً ويكثف الجهد للوصول لمعلومات دقيقة عن التركيب الجزيئي للـ "DNA" مما جعل المهمة صعبة والتحدي كبير أمام "فرانكلين".
السباق نحو القمة وقبول التحدي
تحدت "فرانكلين" الوقت وقررت أن تخوض السباق وتنجز المهمة بفكرة إستخدام تقنية حيود أشعة إكس "الأشعة السينية" في تحليل بلورات عالية النقاوة من الـ "DNA" وسرعان ما قامت بتنفيذ الفكرة بمساعدة زميلها بالدراسات العليا "ريموند جوسلينج" والذي كان يعمل على الأبحاث التي تجرى على الـ "DNA"، وكانت التجربة دقيقة للغاية حيث قامت "فرانكلين" بإمرار حزمة من أشعة إكس خلال عينة تحتوي على جزيء "DNA" عالي النقاوة فتشتت الأشعة ثم قامت بتجميع الأشعة المشتتة على لوح فوتوغرافي حساس ليتكون لها صورة غير واضحة، ثم كررت التجربة عدة مرات إلى أن توصلت إلى الصورة الأكثر وضوحاً -المعروفة بالصورة رقم (51)- حينما كان الـ "DNA" المستخدم رطباً -أي أنه يحتوي على بعض جزيئات الماء- واستطاعت أن تفسر نتائج بحثها في مؤتمر علمي عقد عام 1951م على مرأى ومسمع من الجميع، ولعل من أبرز الحضور العالم الحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء "جيمس واطسون" كان من أهم منافسي "فرانكلين" في ذلك السباق.
النتائج التي توصلت لها فرانكلين على سلم المجد
أكدث "فرانكلين" على أنها توصلت لحقائق علمية قوية أدت إلى ظهور أول نموذج علمي للحمض النووي "DNA" وتناولت النموذج في ثلاث نقاط جوهرية:
- أن الـ "DNA" يوجد في صورة لولب أو حلزون.
- أن التركيب الجزيئي للـ "DNA" عبارة عن هيكل من السكر والفوسفات متجه للخارج بينما القواعد النيتروجينية متجهة للداخل وعمودية على طول الهيكل.
- أن قطر اللولب يؤكد أن الـ "DNA" يتكون من أكثر من شريط من وحداته البنائية "النيوكليوتيدات"، أي أنه يحتوى على أكثر من هيكل.
السرقة العلمية وكيف تعاملت معها فرانكلين!
ولعل من أبرز ما يميز "فرانكلين" أنها الفيزيائية التي تفوقت على رواد الكيمياء والأحياء وانتصرت في السباق بالوصول لتلك النتائج وذلك لشغفها الغير مسبوق بالعلوم، حيث قالت "العلوم بالنسبة لي تعطي تفسيراً جزئياً للحياة، وهي تقوم على الحقائق الواقعية والخبرة والتجربة".
في يناير عام 1953م قام مدير المختبرات المساعد بقسم البلورات "موريس ويلكنز" بالإفصاح عن الصورة (51) التي حصلت عليها "فرانكلين" في تجاربها دون إذن منها بسبب حدوث بعض المشكلات الشخصية بينهما وذلك كنوع من التفضيل لمنافسها الأقوى "جيمس واطسون" الذي كان يعمل هو أيضاً للتوصل لنموذج خاص به للـ "DNA" بمساعدة زميله "فرانسيس كريك"، الأمر الذي كاد يهدم كل ما تصنعه "فرانكلين"من مجهودات في مجال العلوم، حيث صرح "واطسون" للكاتبة "بريندا مادوكس" قائلاً: أصبت بالصدمة حينما رأيت الصورة وارتفع معدل النبض لدي".
وبالفعل قام العالمان "واطسون" و"كريك" بإستخدام ما شاهداه في الصورة (51) كأساس لوضع النموذج الخاص بهما والذي نشر في 7 مارس 1953م ولم يرجعا الفضل لـ"فرانكلين" ولم يشيرا لها في النموذج الخاص بهما رغم أنهما اعتمدا إعتماداً أساسياً على ما توصلت إليه "فرانكلين" وقد كُرم العالمان بالحصول على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1962م عن نموذجهما الشهير والذي يُعمل به حتى الآن. الجدير بالذكر أن "فرانكلين" لم تقم بأي رد فعل لإستعادة حقها بعد علمها بتلك السرقة العلمية التي تعرضت لها من قبل العالمين وآثرت الصمت.
نهاية المطاف و النهاية الغير متوقعة
في خريف عام 1956م تم تشخيص "فرانكلين" بسرطان المبيض وخضعت للكثير من طرق العلاج والعمليات الجراحية ولكنها أصرت على استكمال المسيرة العلمية وإعطاء المزيد للعلم إلى أن توفيت في 15 إبريل عام 1958م عن عمر يناهز 37 عام وأُرجعت إصابتها بسرطان المبيض إلى تعرضها لكم هائل من الأشعة السينية أثناء قيامها بالتجارب المعملية الخاصة بها و من أبرزها رحلتها في اكتشاف تركيب الـ "DNA" التي يعتقد أنها تعرضت خلالها للأشعة السينية لمدة تزيد عن 100 ساعة متواصلة. فأطلق عليها بكل الإحترام والحب "شهيدة الحمص النووي "DNA".
المصادر
- www.biography.com/scientist/rosalind-franklin
- كتاب إبداعات النار تأليف : كاتي كوب، وهارولد جولد وايت ص381 إصدار 1978م
- www.nobelprize.org/prizes/medicine/1962/watson/facts
البريد الإلكتروني للكاتب: hassanatef2014@gmail.com