يتكون جسم الفيروسات أياً كان نوعها من جسم الفيروس وهو عبارة عن حامض نووي Nucleic Acid والغشاء الذي يحيط به وهو عبارة عن بروتين Protein Envelope. ويشبه الحامض النووي (DNA) لجسم الفيروس ذلك الموجود في الخلية الحية ولكن أصغر في الطول كثيراً، والطول هنا معناه عدد الجينات الموجودة.
والحامض النووي إما أن يكون شريط مفرد Single-Stranded RNA (ssRNA) (شريط واحد فقط) أو مزدوج DNA (شريطين ملفوفين على بعضهما البعض)، أو يكون شريطاً واحداً ولكنهُ ملتف على بعضه كله أو جزءٍ منه Double-Stranded RNA (dsRNA).
هذا هو تركيب أي فيروس يعيش بيننا أو في الحيوانات أو النباتات، فببساطة شديدة الفيروس مجرد قطعة حامض نووي مكون من عدة جينات وحوله غطاء من قطعة بروتين لحمايته، أي ليس به أي مكونات للحياة كتلك الموجودة بنواة وسيتوبلازم الخلية الحية. وبمعنى آخر، ممكن القول أن الفيروس يشبه الحامض النووي المُخلّق ولكن عليه غطاء من البروتين. ولذلك يعتبر الفيروس مادة غير حية ولكنه أخطر جماد على الخلية الحية. ويوظف الفيروس مكوناته جيدا، فهو يستخدم جزء محدد من الغلاف البروتيني في التعرف على البروتين المستقبل له على الخلية الحية فيدخلها ثم يستخدم الحامض النووي في تكوين ملايين النسخ منه باستخدام مكونات الخلية بعد احتلالها.
وبالرغم من بساطة تركيب الفيروس إلا أن كل فيروس له بصمته الخاصة على مستوى الغلاف البروتيني وعلى مستوى الحامض النووي. ومن الفيروسات تلك الماكرة جداً، والتي تغير من حمضها النووي في كل موسم كوسيلة للهروب من الخلايا المناعية وهي الخلايا الوحيدة في الجسم المنوط بها الدفاع عن الجسم ضد الفيروسات.
كما أن كل فيروس له باب مختلف لدخول الجسم، فمنهم من يدخل عن طريق الغذاء والماء أي عن طريق الجهاز الهضمي، ومنهم من يدخل عن طريق الهواء أي عن طريق الجهاز التنفسي، ومنهم من يدخل عن طريق الدم ومنهم عن طريق الجلد وهكذا ... وبالطبع من أسوأ الفيروسات سمعة هي التي تنتقل عن طريق الهواء لسهولة انتشارها وصعوبة التحكم فيها .كما أن كل فيروس له الخلية المحددة التي يستهدفها، فمنهم من يستهدف خلايا الكبد كفيروس الالتهاب الكبدي الوبائي Hepatitis virusesبأنواعه، ومنهم من يستهدف خلايا الرئة مثل فيروسات كورونا بأنواعها (Influenza, MERS, SARS) ، ومنهم من يستهدف الخلايا المناعية نفسها في العقد الليمفاوية Lymph nodes مثل فيروس ابيشتاين Epistein Virus أو الخلايا المناعية في الدم مباشرة مثل فيروس الأيدز وهكذا. وبالطبع، كل هذه الصفات للفيروس لم يخترها هو بل خُلق بها فهو ينفذ الوظيفة التي بُرمِجَ بها وخلقه الله بها لينفذ الوظيفه التي وجد من أجلها.
وفي الخمسينات من القرن الماضي (أي منذ ما يقرب من سبعين سنة (استطاع العالمان الكبيران واتسون وكريك التعرف على التركيب الدقيق للحامض النووي على وجه العموم وفك شفرته المكونة من أربعة حروف وهي A, T, G, C والتي ترمز إلى أربعٍ من القواعد النيتروجينية وهي Adenin (A), Thymin (T), Guanin(G) Cytosin (C). وتلك القواعد النيتروجينية الأربع تكون الوحدة التركيبة الصغرى للحامض النووي والتي يطلق عليها النيوكليوتيدة Nucleotide . وقد مكّن اكتشاف التركيب الدقيق للحامض النووي علماء الكيمياء في تخليق أحماض نووية صناعية تشبه تلك الطبيعية الموجودة بالفيروس بأنواعها الثلاثة سواء كانت DNA, ssRNA, dsRNA بالطبع بدون الغلاف البروتيني الأمر الذي أصبح بمرور الوقت وتطور علم الهندسة الوراثية سهلاً جداً في المختبرات البيولوجية لدرجة أخافت المجتمع العلمي من خروج بعض العلماء عن قواعد أخلاقيات البحث العلمي وتخليق فيروسات معملية كنوع من أنواع الحروب البيولوجية. ويسمى هذا العلم من الهندسة الوراثية بتكنولوجيا تصنيع الأحماض النووية Recombinant DNA Technology.
"البولي أي سي" Poly(I:C)
من الأحماض النووية التي استطاع العلماء تخليقها مادة مهمة جداً وهي "البولي أي سي" Poly(I:C) وهو نوع من أنواعdsRNA . وقد قام العلماء بتخليقه في السبعينات من القرن الماضي ليشبه جسم الحامض النووي الذي تكونه العديد من الفيروسات أثناء تضاعفها في الخلية وذلك بنية تحفيز الخلايا المناعية.
وبدأت قصتي مع "البولي أي سي" في صيف 2003 أي بعد عامين من وصولي للولايات المتحدة للعمل كأستاذ مساعد في قسم الجراحة بكلية الطب بالجامعة الطبية بكارولاينا الجنوبية Medical University of South Carolina, USA (www.musc.edu) وكان معملي في الدور الخامس بمعهد هوللنج للسرطانHollings Cancer Center (HCC) . وكانت أبحاث معملي آنذاك خاصة بالمناعة ضد الأورام وكيفية تطوير علاج مناعي للأورام Cancer Immunology and Immunotherapy وذلك باستخدام السيتوكينات Cytokines (وهي بروتينات تفرزها الخلايا المناعية لتنشيط مناعة الجسم) في تحسين العلاج بالخلايا المناعية ضد سرطان الجلد Melanoma باستخدام نموذج من الفئران المهندسة جينياGenetically Engineered ليحاكي سرطان الجلد ورد الفعل المناعي لها لدى الإنسان. وبناء على النتائج، لاحظتُ أن تحسين المناعة ضد الميلانوما يختلف من سيتوكاين لآخر ولاحظت أيضا أنه كلما كان السيتوكاين له علاقة بالمناعة ضد الميكروبات كلما كانت المناعة ضد الميلانوما أقوى. وبدراسة الأسباب الخلوية والجزيئية وراء ذلك، وجدنا أنهُ مترتب على قدرة السيتوكاين على تنشيط سريع للخلايا المناعية غير المتخصصة والتي عندما تنشط تؤدي إلى تنشيط نوعي وكمي للخلايا المناعية الليمفاوية المتخصصة، خاصة تلك التي تقوم بقتل الورم.
وتزامن ذلك بما وجدتهُ في الأبحاث المنشورة حينها والتي تربط بين قدرة الجسم على التخلص من الورم مع وجود عدوى ميكروبية استطاعت مناعة الجسم أن تتغلب عليها .وقد قادت هذه النتائج التي نشرناها في أكبر الدوريات العلمية المتخصصة إلى التفكير جدياً في استبدال السيتوكاينات بأحد النواتج الميكروبية في تحفيز الخلايا المناعية لإنتاج السيتوكينات التي تستطيع تقوية رد الفعل المناعي لسرطان الجلد كنموذج معملي. وبمناقشة هذه الفرضية مع أعضاء الفريق البحثي من الباحثين والأطباء أثنى عليها الجميع خاصة أن السيتوكاينات لها آثار جانبية بالإضافة إلى علو ثمنها. وكان السؤال الكبير وقتها هو: ماهي هذه النواتج الميكروبية التي من الممكن استخدامها لتعطي التأثير المنتظر؟ ورغم جمال الفكرة إلا أن الأمر كان تحدياً كبيراً خاصة أنه كان يمثل نهجا جديداً تماماً وغير ما هو شائع في ذلك الوقت (منذ عشرون عاما.
وفي النهاية توصلت لفكرة جديدة تماما حينئذ، وهي استخدام مادة "البولي أي سي" لتحفيز الخلايا المناعية التي نعالج بها سرطان الجلد بالتزامن مع حقن بروتينات محددة من جسم الخلايا الورمية . وبالطبع اختياري لم يكن وليد الصدفة بل نتيجة بحث مستفيض عن جميع المواد التي لها خصائص محددة لتحفيز المناعة الطبيعية Stimulants of Innate Immune Cells وذلك لتحقيق فرضية أن زيادة الخلايا المناعية غير المتخصصة Non Specific (Innate) Immune Cells يؤدي إلى زيادة نشاط ووظائف الخلايا المناعية المتخصصة Specific (Adaptive) Immune Cells ضد الورم. وهذا ما توقعته لمادة "البولي أي سي" PolyI(I:C) عندما تم تجريبها وأعطت نتائج رائعة أبهرت الفريق البحثي. وهنا كانت بداية قصتي العلمية مع هذه المادة المحفزة للمناعة التي نشرت عليها أكثر من 15 بحثاً (أنظر المراجع) في دوريات علمية دولية كبيرة في تخصص المناعة والأورام حتى وصلت إلى تجربتها على مرضى سرطان البنكرياس Pancreatic Cancer. (أنظر المراجع)
ما هو" البولي أي سي"
"البولي أي سي" PolyI(I:C) هو مادة كيميائية مُخلّقة من حمض نووي ريبوزي (Synthetic RNA) عباره عن بوليمر من النيوكيوتيدات المخلقةSynthetic Nucleotides . الاسم العلمي له هو: Polyinosinic:polycytidylic acid. وهذا الحمض النووي الريبوزي المُخلّق له قدرة عالية على دخول أي خلية تحمل على سطحها مستقبل بروتيني يدعي TLR3 وبروتين RKR الموجود داخل الخلية في السيتوبلازم.
ومستقبل TLR3 هو واحد من ثلاثة عشر نوعا من المستقبلات البروتونية الموجودة بكثرة على سطح الخلايا المناعية الغير متخصصة وكذلك الخلايا المناعية المتخصصة ولكن بدرجة أقل .وتسمى هذه المستقبلات Toll-like receptors (TLRs) والتي تم اكتشافها لأول مرة في حشرة ذبابة الفاكهة Drosophila ووجد أن لها دور كبير في قدرة الحشرة على إدراك سطحها الظاهري surface Dorsalمن الباطني surface Ventral وكذلك في الحماية من العدوى البكتيرية والفيروسية .
وبدراسة مستقبلات TLRsفي الحيوانات الأخرى وكذلك الإنسان، وجد أنها موجودة في جميع الكائنات الحية بما فيها النبات كوسيلة غريزية للتعرف على الميكروبات، حيث أنها تعمل كقرون استشعار للخطر الكامن في الميكروب نفسه أو أحد منتجاته الضارة . ووجد أن كل مستقبل من الأنواع الثلاثة عشر من TLRsيقوم بالتعرف على ميكروب محدد. فعلى سبيل المثال يقوم TLR3 بالتعرف على الفيروسات التي يتكون جسمها من الحمض النووي الريبوزي المزدوج Double-Stranded RNA (dsRNA) أو منتجاته أثناء غزوه للخلية أو الأحماض النووية المُخلّقة المشابهة في التركيب مثل "بولي اي سي" Poly(I:C). بيمنا يقوم مستقبل TLR7 بالتعرف على الفيروسات التي يتكون جسمها من الحمض النووي الريبوزي المنفردSingle-Stranded RNA (sRNA). ويقوم TLR9 بالتعرف على الفيروسات التي يتكون جسمها من الحمض النووي الديو اوكسي ريبوزي (DNA) وكذلك DNA للبكتيريا الغني بمجموعات الميثيل Methyl Group (CH3) دون التعرف على DNA الخلية البشرية الفقير بهذه المجموعات .ويقوم TLR4 بالتعرف على البكتيريا من النوع السالب Gram Negative Bacteria (أي التي لا تصبغ بصبغة جرام) والتي تعيش داخل الخلية أو منتجاتها السامة وأهمها مادةLipopolysacharide (LPS) . أما البكتيريا الموجبة الصبغةGram Negative Bacteria (أي التي تصبغ بصبغة جرام) والتي تعيش بين الخلايا فيقوم مستقبل TLR2/6 بتعرف عليها وكذلك منتجاتها.
والعجيب أن مستقبلات TLRs التي تتعرف على الأحماض النووية (TLR3, TLR7 and TLR9) أياً كان نوعها توجد في السيتوبلازم وليس على سطح الخلية وذلك لأن معظم الأحماض النووية هي منتجات فيروسية أو بكتيرية تغزو الخلية وتعيش في السيتوبلازم .وقد أدى اكتشافTLRs في الإنسان في بداية 2000 إلى إحداث ثورة علمية في آلية التعرف على الميكروبات من قبل الخلايا المناعية خاصة غير المتخصصة والتي تمثل خط الدفاع الأول الذي يتعامل مع الميكروبات والتخلص منها بسلام.
وكان من حسن حظي العلمي أن اكتشاف TLRs تزامن مع تطبيق فكرتي الجديدة في استخدام مادة "البولي أي سي" حيث اثبتت دراسات الآخرين لاحقاً أنها ترتبط بمستقبل TLR3 الموجود على الخلايا المناعية غير المتخصصة، مما أعطى لفكرتي بعداً جديداً لم أفكر فيه من قبل عن كيفية تأثير هذه المادة على الخلايا المناعية. فعند ارتباط حمض "بولي اي سي" بمستقبل TLR3يؤدي إلى سلسلة من التفاعلات الجزيئية في الخلية تكون نهايتها تنشيط مجموعة من الجينات وأهمها NF-K(kappa)B الموجود والذي يؤدي بدوره إلى تخليق العديد من البروتينات وأهمها الانتيرفرون بأنواعه والذي يعمل على تنشيط سريع لجميع الخلايا المناعية في الدم والطحال والغدد الليمفاوية والكبد والرئة فيجعل الجهاز المناعي كله في حالة استنفارٍ عامٍ.
ويكمن السر في قدرة مركب "بولي اي سي" على تحفيز الجهاز المناعي في كونه يشبه بنسبة كبيرة في تركيبه الكيميائي الحمض الريبوزي المزدوج Double Stranded RNA (dsRNA) الخاص بمعظم الفيروسات والذي يتكون أثناء غزو الفيروس للخلية الحية. وبمعنى آخر أن هذا المركب عند حقنه في الجسم يشبه العدوى بالفيروس ولكن دون إصابة حقيقية ولذلك فحقنه يؤدي إلى إفراز الانتيرفيرون Interferons والبروتينات الأخرى المحفزة للخلايا المناعية. وكانت هذه الخواص هي السبب في استخدامه كعامل محفز ومنشط قوي Immunostimulanللخلايا المناعية أثناء العلاج المناعي لسرطان الجلد. وهذا ما حدث بالفعل، حيث وجدنا تأثير منشط قوي للخلايا المناعية الطبيعية بدرجة كبيرة بما فيها الخلايا التي تقتل الورم بطريقة غير متخصصة Cytotoxic Natural Killer (NK) cells والخلايا التي تقدم أجزاء من جسم الورم Antigen Presenting Cells للخلايا المناعية القاتلة من النوع المتخصص Cytotoxic CD8+ T cells. ووجدنا أن السبب وراء هذا التأثير المنشط هو إفراز الانتيرفيرون بأنواعه وأكثر من عشرة أنواع أخرى من البروتينات المتعلقة بالانتيرفيرون (IFNα, IFNβ, IFNg) المعروف بأهميته في القضاء على الورم والفيروسات IL1,IL12, TNFα, MCP1, CCL2, CCL3. ووجدنا أيضا أن إفراز هذه المواد يتم سريعا وفي أوقات محددة وبآلية محددة. وبالطبع، قمنا بنشر هذه النتائج في الدوريات العلمية المهمة والمتخصصة في مجال المناعة والأورام. وقد اشترك في إجراء هذه الأبحاث نخبة متميزة من طلابي وزملائي بالجامعة الطبية بكارولينا الجنوبية بأميركا ومصر. وقد تم نشر فصل في كتاب عن تأثير "البولي أي سي" المحفز للمناعة. (انظر المراجع).
وبسبب هذه الأبحاث وفي صيف عام 2004 تواصلت معي شركة Oncovir وهي الشركة المصنعة للمادة المعدلة واسمها "هيلتينول" Hiltonol® من مادة "البولي أي سي" PolyI(I:C)في صورة ممكن استخدامها في الإنسان وبدون أضرار جانبية، بعد أن حصلت الشركة على موافقة هيئة الغذاء والدواء الأمريكية. ولأن أبحاثي كانت على المادة غير المعدلة فقد قبلت على الفور عرض الشركة في التعاون معها في استخدام المادة المعدلة في أبحاثي المستقبلية وكذلك في إجراء تجارب سريرية على مرضى السرطان من خلال قسم الجراحة بالجامعة الطبية بكارولاينا الجنوبية بأمريكا. وبالفعل تم إبرام تعاون يعطيني حق المنفعة Mutual Transfer Agreement (MTA) في استخدام هذه المادة من ضمن المستفيدين منها في البحث العلمي في أمريكا. ولتنفيذ هذا التعاون تقدمت بمقترح بحثي في عام 2008 لمدير معهد السرطان بالجامعة الطبية بكارولاينا الجنوبية ومعي فريق بحثي من كلية الطب هناك لتجريب العلاج بمادة "البولي أي سي" المعدلة لزيادة تأثير العلاج المناعي لمرضى سرطان البنكرياس Pancreatic Cancer. وتمت الموافقة على المقترح بعد مناقشته وعرضه أمام لجنة متخصصة من الباحثين والأطباء بالجامعة. وكانت فرحة غامرة عندما علمت بالموافقة في عام 2009 على دعمه مادياً من قبل المعهد. وبالفعل تم إجراء الدراسة السريرية بعد تسجيلها على موقع Clinicaltrials.gov.
كما تم عرض نتائج هذه الدراسة في المؤتمر السنوي للسرطان في أمريكا American Society of Clinical Oncology (ASCO) ثم نشر البحث كاملا في مجلة علمية متخصصة J Clinical (2016) Oncology ، وبعد عودتي إلى مصر في 2010 أنشأت معملي للأبحاث في كلية العلوم جامعة طنطا، بمشروع ممول من صندوق العلوم والتنمية التكنولوجية عن اكتشاف الخلايا المناعية المثبطة للمناعة ضد فيروس التهاب الكبد سي والذي كان يمثل تحدياً قومياً آنذاك. كنت مهتما بإمكانية استخدام مادة "البولي أي سي" أو الهيلتينول في علاج مرضى فيروس الكبد سي خاصة أن الشركة المنتجة كانت قد وافقت على اعطائي حق المنفعة باستخدام هذه المادة في مصر، وتقدمت بمقترح لاستخدام هذه المادة مع مرضى الفيروس الكبدي سي بالتعاون مع أساتذة من كلية الطب جامعة طنطا. ووافقت لجنة الأخلاقيات بكلية الطب على هذا المقترح، ولكن لظروف لا يتسع المجال لذكرها، توقفت دراساتي مع "البولي أي سي" على إجراء أبحاث في محاولة لتطوير استخدامه في مجال العلاج المناعي للسرطان على فئران التجارب مع طلابي بكلية العلوم بجامعة طنطا، وذلك من خلال أكثر من خمس رسائل ماجستير ودكتوراه تم منحهم جميعاً ونشرت النتائج.
وكان آخر أبحاثي على مادة "البولي آي سي" قد تم نشرها الأسبوع الماضي (انظر المراجع) والتي كشفنا فيها عن نوع محدد من الخلايا المناعية الطبيعية القاتلة للورم والفيروساتNatural killer (NK cell) cells والموجودة بالكبد والتي تستجيب بدرجة كبيرة لتأثير "البولي أي سي" مما يفسر نتائج البحوث السابقة والتي أشرنا فيها أن "البولي أي سي" يزيد من نشاط الخلايا القاتلة للورم الموجودة في الكبد مقارنة بتلك الموجودة في الدم وبكثرة في الطحال. ونظرا لوجود هذه الخلايا المناعية NK cells أيضا في الرئة فمن المتوقع أن يعمل "البولي أي سي" على تنشيط الخلايا المناعية أيضا هناك خاصة أن هذه الخلايا لديها نسبة كبيرة من مستقبل TLR3 الذي يرتبط بمادة "البولي أي سي". وتفسر أيضاً نتائج هذه الدراسة نتائجنا المنشورة من قبل عن قدرة "البولي أي سي" على التخلص من بؤر الخلايا الورمية في الكبد والرئة.
علاقة "البولي أي سي" Poly(I:C) بفيروس كورونا
فيروس كورونا الجديد هو أحد الفيروسات التاجية المعروفة باسم كورونا ، وهي عائلة كبيرة من الفيروسات التي يمكن أن تسبب أمراضاً تتراوح شدتها على نطاق واسع. وقد ظهر أول مرض حاد معروف بسبب فيروس تاجي SARS-CoV مع وباء متلازمة الالتهاب الرئوي الحاد (سارس) عام 2003 في الصين. وفي عام 2012 ظهر في المملكة العربية السعودية فيروس كورونا آخر MERS-CoV أدّى إلى اندلاع مرض ثانٍ هو متلازمة الشرق الأوسط التنفسية(MERS) . وفي ديسمبر 2019 ظهر فيروس كورونا "سارس – CoV – 2 والذي يمثل سابع فيروس تاجي معروف بإصابته بالبشر. ولكن على عكس MERS-CoV وSARS-CoV ، والتي يمكن أن تسبب مرضاً شديداً فالإصابة بفيروس كورونا الجديد يصاحب بأعراض خفيفة، والتي قد تتطور إلى أعراض أشد.
ويصيب فيروس كورونا الانسان عن طريق ارتباط بروتين S على سطحه مع بروتين ACE2 على سطح الخلية المستهدفة مثل خلايا الرئة .ومستوى العدوى يتدرج من الخفيف إلى المتوسط ) 10-20%) إلى الشديد (80%). والجهاز المناعي قادر على التعامل مع الفيروس بمهنية لأن الفيروس غريب وأول مرة تراه الخلايا المناعية فتستطيع التخلص منه خاصة إذا كان مستوى العدوى خفيفاً أو متوسطاً. وفي هذه الحالة تتخلص الخلايا المناعية من الفيروس عن طريق الأجسام المضادة التي تكونها وفي نفس الوقت من خلايا الرئة المصابة بالفيروس عن طريق نوع آخر من الخلايا المناعية. وفي الحالتين يكون رد الفعل المناعي ولحسن الحظ، كاف للتخلص من الفيروس ومن الخلايا المصابة بالفيروس دون أن يؤذي الخلايا السليمة فيتعافى المريض دون أي آثار جانبية. ليس هذا فقط بل يكوّن الجسم مناعة تستمر عنده لفترة وإن كانت مدتها غير معروفة بعد.
ولكن إذا كانت الإصابة بالفيروس شديدة ورد الفعل المناعي قوي جداً كما يحدث عن إصابة الشباب، فإن رد الفعل المناعي القوي هذا يكون قادراً على التخلص من الفيروس والخلايا المصابة بهِ ولكن في نفس الوقت قد يؤدي هذا إلى آثار جانبية شديدة بل وجديدة وذلك بسبب تكوين ما يُسمى Cytokine Storm وهي مواد تسبب التهابات في الجسم كله مما يؤدي إلى أضرار بالغة في خلايا الجسم. أما إذا كانت العدوى شديدة والمريض مناعته ضعيفة فتكون المعضلة معضلتين مما يؤدي إلى إصابة عدد كبير من خلايا الرئة الذي يتسبب بضيق شديد في التنفس وكذلك تكسير في العديد من الخلايا وخلل عام في صحة الجسم. وكما ذكرت أعلاه أن تركيب "البولي أي سي" يشبه تركيب جسم معظم أنواع الفيروسات التي يتركب جسمها من حمض نووي ريبوزي RNA بما فيها عائلة SARS. وفي نفس الوقت يشبه المادة الوسيطة التي تكونها معظم الفيروسات عند احتلالها للخلية. ولأن هذه المادة مُخلّقة أي غير معدية لأن ليس فيها أي كود مسؤول عن العدوى ولأنها تحفز الخلايا المناعية لإفراز الانتيرفيرون والمواد المتعلقة به، فمن الممكن استخدامها كعلاج للفيروسات.
وبالفعل فقد قامت شركة Oncovir® في عام 2003 -2016 بالتعاون مع علماء في مجال الفيروسات (ولم أكن أنا منهم في ذلك الوقت) في استخدام المادة المعدلة من "البولي أي سي" وهي "الهيلتينول" Hiltonol® كعلاج للفيروسات وخاصة إنفلونزا الخنازير والطيور. وكذلك على فيروس كورونا السارز SARS القديم في حيوانات التجارب وأدّى إلى شفاء الحيوانات تماما. وبالفعل كان التأثير العلاجي لهذه المادة قوياً ومشجعاً، ولكن وكما نعلم لأن جائحة إنفلونزا الطيور والخنازير انتهت سريعا، فقد تم اختبار هيلتونول على فاعليتها في نموذج من فئران التجارب مصابة بفيروس السارس المميت. وبالعلاج بمادة هيلتونول قبل 24 ساعة من العدوى بجرعة مميتة من فيروس سارس وعند 5 أو 1 أو 0.5 أو 0.25 ملجم/ كجم/يوم عن طريق الأنف أدّى إلى بقاء جميع الفئران على قيد الحياة.
كما أنه حمى الفئران المصابة بشكل كبير من فقدان الوزن بسبب العدوى. بالإضافة إلى ذلك، فعند معالجة الفئران المصابة بمادة هيلتونول عند 2.5 أو 0.75 ملغم / كغم / يوم عن طريق تقطير الأنف 7 أو 14 أو 21 يومًا قبل التعرض للفيروس ثم إعطاء جرعة ثانية بعد 24 ساعة من هيلتونول ( 2.5 ملغم / كغم / يوم) كانت فعالة تماما في بقاء جميع الفئران المصابة حية مع انخفاض كبير في درجة نزيف الرئة، وأوزان الرئة، ومستوى الفيروس في الرئة وذلك عكس الفئران الغير معالجة والتي ماتت جميعها. كما كان هيلتونول فعالاً أيضا كعلاج عندما تم حقنه بمعدل 5 ملغم / كغم 8 ساعات بعد التعرض للفيروس حيث تمت حماية 100% من الفئران من الوفاة. وتشير هذه النتائج إلى أن علاج هيلتونول® لعدوى السارس –CoV في الفئران يؤدي إلى تأثيرات وقائية وعلاجية كبيرة ويمكن استخدامه لعلاج أمراض فيروسية أخرى مثل تلك التي يسببها فيروس كورونا الجديد.
وبناء على كل هذه الدراسات والنتائج المشجعة لمادة" البولي أي سي "التي تنتجها شركة Oncovir® أقترحتُ على الشركة إمكانية استخدام الهيلتينول كعلاج لفيروس كورونا الجديد. وهنا كانت المفاجئة التي ابهجتني جداً وهو أنه قد تم البدء بالفعل في تجربة سريرية في أمريكا في تجربة هذه المادة على المرضى المصابين بفيروس كورونا الجديد. وقد تم إدراج هذه المادة بين العلاجات المقترحة الجديدة والتي يتم تجربتها الآن على فيروس كورونا. وفي الواقع فقد شعرت بفرحة عارمة عندما علمت بهذا الخبر لأسباب كثيرة. السبب الأول أنها هي المادة التي قمت بإجراء عشرات الأبحاث عليها والتي حصلت بسببها على أكثر من مشروع في أمريكا ومصر. السبب الثاني أنني أؤمن تماماً بالتأثير البيولوجي القوي المحفز للمناعة لهذه المادة وكعلاج للفيروسات بالرغم من أنني استخدمتها فقط كمحفز مناعي أثناء العلاج المناعي للأورام.
السبب الثالث هو وجود علاقة علمية قوية مع الشركة المصنعة والتي أعطتني حق المنفعة مرتين مرة وأنا في أمريكا ومرة وأنا في مصر ولذلك فمن المتوقع الحصول على حق المنفعة للمرة الثالثة إذا تمت الموافقة على تجريبها على مرضى كورونا في مصر. وقد سعدت أكثر عندما وجدت شركة أخرى أمريكيةAIM ImmunoTech والتي تنتج مادة معدلة من "بولي أي سي" معروفة باسم (Ampiligin®)ولكن بطريقة كيميائية مختلفة عن طريقة شركة Oncovir® حيث تم إدراج هذهِ المادة أيضا ضمن قائمة أعلى 60 مادة من العلاجات المقترحة التي يتم تجربتها الآن على فيروس كورونا، حيث جاءت في المرتبة رقم 2 . ومن المعروف أن مادة Ampiligin® لها تأثيرات فعّالة ضد ألفا فيروسAlpha viruses والايبولا Ebola وفيروس نقص العوز المناعي HIV.
وقد أعلنت شركة AIM ImmunoTech في 27 فبراير 2020، وهي شركة أدوية تركز على البحث والتطوير في العلاجات المناعية لعلاج الاضطرابات المناعية والأمراض الفيروسية وأنواع متعددة من السرطانات، أن الشركة انضمت إلىChinaGoAbroad (CGA) لتسهيل دخول عقار Ampligen إلى الصين لاستخدامه كعلاج وقائي / مبكر للعلاج ضدCOVID-19
وتعمل شركة AIM بقوة على دفع إدخال Ampligen إلى الصين، من أجل تزويد المرضى والعاملين بالحقل الصحي بخط دفاعي محتمل ضد فيروس COVID-19 المميت، حيث حقق Ampligen معدل بقاء 100% إلى 100% من الوفيات في التجارب على حيوانات السارس بعد تفشي المرض في 2003. في هذه التجارب، تم إعطاء Ampligen للفئران قبل وبعد فترة وجيزة من العدوى. تعتقد الشركة أن Ampligen قد يوفر تأثيراً فعالاً بالمثل ضد COVID-19 ، حيث أن كلا الفيروسين التاجين متشابهان للغاية في تسلسل الحمض النووي الريبوزي. وعقار Ampligen ليس له أعراضاً جانبيةً شديدةً عند استخدام ما يقرب من مائة ألف جرعة IV عن طريق الدم.
وبغض النظر عن مدى إمكانية استخدام أي من هاتين المادتين المعدلتين كعلاج ضد فيروس كورونا فمن الممكن استخدامه كعامل محفز للمناعة مع التطعيمات للفيروس وذلك بناء على النتائج المنشورة عن Hiltonol® حيث أدّى العلاج به تزامنا مع تطعيم الفئران المصابة بفيروس SARS ضد فيروسSARS و MERS إلى شفاء الفئران المصابة تماماً. ولأن فيروس كورونا من نفس عائلة السارز فمن المتوقع ان استخدام نفس التطعيمImmunization في وجود العلاج بمادة الهيلتنول أن يؤدي إلى نتائج مشابه في الانسان .
هذه هي قصتي مع "البولي أي سي" التي وجدت أن الوقت مناسب جدا لأشارك قرائي قصة النجاح هذه والتي تدل على أن التركيز في البحث العلمي على مادة ومعرفة آلية تأثيرها وتطوير هذا التأثير لا بد أن يؤتي ثماره يوما ما ولو بعد حين سواء بك شخصيا أو أحد من مدرستك العلمية.
مع تمنياتي للعلم والعلماء في العالم التغلب على كورونا بإيجاد علاج أو لقاح في القريب العاجل إن شاء الله.
- المراجع تجدونها مع نسخة PDF أعلى الصفحة.
البريد الإلكتروني للكاتب: Mohamed.abib@science.tanta.edu.eg